أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الأدب المفترى عليه

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

من الأمور المحمودة فى الثقافة التلفزيونية حرص بعض مقدمى البرامج على إثراء القضايا التى يناقشونها من خلال إتاحة الفرصة للمشاهد للتعرف على وجهات النظر المختلفة إزاء القضية المطروحة ، كما هو الحال فى برنامجى "أكثر من رأى" و "الاتجاه المعاكس" التى تبثهما قناة الجزيرة .
لكن حين يساء اختيار الضيوف فإن المشاهد لا يجنى سوى التشويش بعد جدل عقيم نسمع فيه ضجيجا ، ولا نرى طحينا . ومن أهم مظاهر إساءة الاختيار هو الزج بإنسان ما لمناقشة قضية لا تدخل فى نطاق تخصصة ، ولا تقترب حتى من دائرة اهتمامه ، وفى هذا ظلم مركب ؛ ظلم لهذا الإنسان بتقويله في مجال لا يحسن القول فيه ، وتحميله ما لا يحتمل تكوينه الفكرى والثقافى ، وبكشفه حين يتحدث حديث الجاهل بنبرة حديث العالم الواثق ، وظلم للمشاهد بإرباكه وتشويش أفكاره ، وظلم للقضية المطروحة بتمييعها وتسطيحها ، وأخيرا ظلم للبرنامج الذى يفشل فى أداء وظيفته .
يحدث هذا فى برامج كثيرة ، لكن ما أتوقف عنده ، لأهميته ، هو ما شاهدناه مؤخرا على شاشة "قناة النيل الثقافية" فى برنامج "معارك أدبية" الذى يقدمه جمال الشاعر ، وقد تصدى البرنامج لمناقشة ما طرحته إحدى الأديبات من مظاهر الشذوذ التى أصابت بعض شخصيات روايتها .
على الجناح الأيمن من المناقشة جلس عالم أزهرى ، وعلى الجناح الأيسر جلس أديب وأديبة ، الجناح الأيمن يحرم ويجرم ويدين ويستهجن ويستنكر ، والجناح الأيسر يبرر ويؤول ، ولا لقاء . ولم أكن أتوقع غير هذا الطلاق البائن بين الرؤيتين ، لأن الرؤيا الأولى تنطلق من منظور أخلاقى فى الحكم على عمل أدبى ، المنظور الذى يتحدث بمعيار الحلال والحرام ، المنظور الذى يرى أن العمل الأدبى ينبغى أن يكون تصويرا لما ينبغى أن يكون ، وبالتالى ينبغى أن يتحول – وفقا لهذه الرؤية – إلى دروس فى الوعظ والتوجيه والإرشاد ، ويغيب عن أصحاب هذه الرؤية معنى الأدب و الأدبية ، وأولى بنا ألا نزج بهم فى الحكم على أعمال أدبية ، وأولى بهم أن ينأوا بأنفسهم عن الإفتاء فيما ليسوا مؤهلين للإفتاء فيه .
ذكَّرنى ما دار فى البرنامج بالنقاش الذى طالما دار بينى وطلابى لاسيما حين كنت أدرِّس لهم "أبا نواس" الشاعر المعروف بانتهاك المحرمات ، واختراق القيم . كنت أُسأل : وَلِمَ أبو نواس ؟ فأقول : ولم لا لأبى نواس ؟ فيكون الرد : إنه شاعر قليل الأدب ، فأرد : ولكنه عبَّر عن قلة أدبه بمنتهى الأدب ، أما قلة أدبه فهذا شأن يعنيه ، وما يعنينا نحن هو أدبه ، أو الأدبية فى أدبه . لكن يبدو أن محنة هذا الفصيل من الطلاب قد طالت بعض الأساتذة ممن شاءوا أن يُنصِّبوا أنفسهم قيِّمون على الأخلاق ، وممن لا يستحون من جهلهم حين يُسألون عن الإبداع ، فيقولون إنه ما جاء موافقا للفضيلة ولأخلاق المجتمع ، ووفقا لهذا المنظور تصبح ثقافة الأرصفة الرائجة هى النموذج المثالى للإبداع .
ثمة بديهية ، هى انه إذا كان الأخلاقى معنيا بما ينبغى أن يكون ، فإن الأديب معنى بما هو كائن ، وإذا سلمنا بأن الأدب تجربة إنسانية ، فينبغى أن نسلم برحابة هذه التجربة التى قد تكون سامية ، وقد تكون دانية ، ويصبح من حق الأديب أن يتعامل مع الدنو كما يتعامل مع السمو ، أما قيمة الأديب الفنية فتُكتسب ليس من خلال الوضع الذى يختاره ، ولكن من خلال درجة إجادته فى تصوير هذا الوضع ، وكما يقول زكريا ابراهيم "إذا كان القتلة واللصوص والأشرار والزناة فى نظر الأخلاقى موجودات غير صالحة ، إلا أنهم فى نظر الفن قد يكونون مجرد مخلوقات شبيهة بنا ، أعنى موجودات تعسة قادتها الظروف إلى ارتكاب الجريمة دون أن تكون الفعلة الإجرامية التى أقدمت عليها قاعدة عامة لكل سلوكها" .
غير أن مشكلتنا تكمن فى هذه الرؤية الأحادية التى تضع الأشخاص والقيم فى إطارات حديدية ، وعدم القدرة على الفصل بين الأديب وعمله ، ثم إصرارنا على أن نلجم العمل الأدبى حتى لا يسير إلا فى الاتجاه الذى حددناه له سلفا ، وإصرارنا أيضا على رؤية العالم والحكم عليه من خلال أنفسنا ، جاهلين أو متجاهلين الظروف المتشابكة ، والبواعث الدفينة ، والأسباب المعقدة التى تحيط بأى وضع إنسانى ، نسينا أن أكثر الناس علما هم أكثر الناس تسامحا ، والذى يعرف كل شئ ، يغفر كل شئ .
من المؤكد أننا نختلف خلقيا مع أبى نواس لكن هذا الاختلاف لا ينسحب على التجربة الإنسانية التى عرضها . إن الأديب الحقيقى ليس هو الذى يخدم الأخلاق ، ولكنه الذى يجاهد حتى لا يتحول إلى عبد لها ، وذلك حتى يستطيع أن يكشف زيفها ، وكما يقول "كروتشه" : "إذا كانت الإرادة الخيِّرة هى قوام الإنسان الفاضل ، فإنها ليست قوام الإنسان الفنان" ، لا أحد ينكر موقف أبى نواس من القيم ، ولكن من حقنا أن نتساءل مع العقاد "هل زادت عيوب أبى نواس مقدار الرذيلة فى الدنيا ؟" ، ومن حق أبى نواس أن نستمع إلى الإجابة كما يقررها العقاد "إن المقدار ليختلف هنا مع المقدِّرين ، ولكنهم لا يختلفون فيما زاده من ثروة النفس والبيان" ، هذا هو العقاد العظيم صاحب العبقريات ، وصاحب العقل الكبير الذى تومئ عبارته بأن خفاف العقول ستعظم فى عيونهم عيوب أبى نواس ، ولن يروه إلا شرا مطلقا يجب حرقه والخلاص منه ، أما العقول الكبيرة فلن ترى فى أبى نواس إلا ما خلَّفه لنا من ثروة النفس والبيان . يتساءل "على شلش" وهو بصدد حديثه عن أبى نواس : "لماذا يقدس الناس الصدق فى الأخلاق أكثر مما يقدسون الصدق فى الفن ؟ ، مع العلم أن الصدق الفني أجلُّ من صدق الأخلاق ، وأبعد أثرا فى رفع الحياة ؛ الأول ينبع من الذات ، والثانى ينطلق من التعاقد والالتزامات" ، غير أن حالة الملق والنفاق المشوبة بالجهل التى اجتاحتنا أصابتنا بالعمى حتى عن رؤية أنفسنا . إن المحك الذى يقاس به الإبداع هو أن يجيد الأديب فى موضوعه سواء أكان فاضلا أو رذيلا . يقول زكى نجيب محمود : "لا فرق عند الفن بين ان يصور الشاعر فضيلة أو أن يصور رذيلة ، طالما هو أجاد فى الحالتين ، إن دنيا الشعر ترحب بأبى نواس ترحيبها بزهير ، وأن ملتون بفردوسه المفقود لشاعر فى الجانب الإلهى من قصيدته كما هو شاعر فى جانب تصويره للشيطان" .
إن الأديب لا يفسد الكون حين يصور جوانب النقص البشرى ، ولكنه يكشفه ويفضحه ويعريه ، رغبة فى معرفة أسبابه وبواعثه ، وربما تمهيدا لتجاوزه .
ليس المشهد الحالى ردة ثقافية إلى الماضى البعيد أو القريب ؛ فالبلاغيون والنقاد قبل ألف عام ؛ ابن قتيبة ، ابن طباطبا ، الآمدى ، أبو هلال العسكرى ... إلى صاحب "أسرار البلاغة" و "دلائل الإعجاز" عبد القاهر الجرجانى ، الذى لا يقدر أحد أن يزايد عليه ، قد أجمعوا على أن الأدب مؤسسة قائمة بذاتها ، لا تتبع أيا من المؤسسات الأخرى ، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية ... أما المفكرون المحدثون من رفاعة والكواكبى والأفغانى ومحمد عبده وطه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود ، فقد كانت أفكارهم ورؤاهم امتدادا وتطويرا لما ورثوه عن الأجداد العظماء .
لا نستطيع القول إذن عن أفكار بعض علماء هذا الزمان إلا أنها إما أن تكون مستوحاه من ثقافة بدوية نفطية ، أو ثقافة سابحة على أمواج التدين الشعبى ، أو عازفة على أوتار الوجدان الخربان الخرمان .. هذا الوجدان الذى أصبح سمة عصر الظلام والجمود والجحود الذى نحياه الآن .
هل كان علينا أن ننتظر خمسين عاما حتى يخرج علينا عالمان هما : "أحمد كمال أبو المجد" و "محمد سليم العوا" ليحلا لنا قراءة رواية "أولاد حارتنا" ؟ وأين ستذهب إذن مئات الكتب والمقالات التى أجهد فيها أصحابها أنفسهم فى البحث عن حيثيات تحريم الرواية وتجريمها ؟ ولكن .. هذا هو حالنا .. ولن نتعلم .. وسنظل نبدأ من نقطة الصفر ، ما دمنا سعداء بالعيش فى عصر الجمود والجحود .

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code