أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

مشاهد من حياة مقاتل

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

كنا نحن جنود إحدى كتائب المظلات قد تركنا موقعنا فى أنشاص لننتشر فى الصحراء المتاخمة لمدينة بلبيس استعدادا لمعركة أحسسنا بدنوها ، وكان ذلك فى الأيام الأولى من شهر أكتوبر 73.. وبعد ظهر السادس منه عبرت من فوق رؤسنا أسراب متتالية من الطائرات المصرية متجهة نحو القناة.. شهدناها فى الذهاب ثم شهدناها بعد أقل من نصف ساعة فى الإياب .. إذدادت مساحة الحدس فى نفوسنا لتصبح أشبه باليقين .. ولم يمض وقت طويل حتى أيقنا أن شرارة المعركة قد اندلعت مع عبور الطائرات التى مرت من فوق رؤوسنا ... وها هو الحلم الذى ظللت أحلم به منذ تاريخ تجنيدى (20/12/1967) قد تحقق .. تحقق أخيرا بعد ست سنوات ، اليوم فيها يساوى شهورا إذا قيس بحجم الجهد والتدريب والمعاناه المطلوب أن يبذلها جندى القوات الخاصة فى مرحلة دقيقة كان الشعار المرفوع فيها هو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ، وكان الجنود الإسرائيليون يدوسون كرامتنا وهم يتمشون على ضفة القناة أو يستحمون فيها .الجهد الذى يبذله جندى القوات الخاصة فى يوم يوازى جهد جندى آخر فى أسابيع لكن – رغم ذلك – كنا سعداء بتميزنا بارتداء الأفرول المموه والحذاء ذى الرقبة الطويلة و "البادج" المميِّز لسلاح المظلات ، وسعداء بعلاوة قفز قدرها ثلاثة جنيهات ونصف كنا نحسد عليها ، وسعداء بمستوى التحسين فى الوجبات الغذائية ، لكن مقابل هذا كنا دائما فى وضع الاستعداد لأداء مهمات خاصة أثناء حرب الاستنزاف سواء بالقفز بالمظلات أم بالإبرار الجوى عن طريق طائرات الهليكوبتر ، وهى مهام كانت تتطلب منا أن نكون مرتحلين دائمين بحيث يندر أن يذكر المرء أنه نام فى مكان واحد لليلتين متتاليتين .

* * *
إن الكفاءة البدنية والقتالية العالية التى يتميز بها جندى القوات الخاصة كانت محصلة لبرامج رياضية وتدريبية عالية مازالت فاعله فى نفوسنا وأجسادنا حتى الآن ، ما زلت أذكر طابور " تطعيم المعركة" حيث كنا نوُضع فى الأجواء الحية للمعارك ، وكان علينا أن نجتاز الحواجز العالية والموانع الشائكة ، وكان علينا أن نبحث عن طريقة الخروج من غرفة عمقها 2.5 م مليئة بالدخان وخالية من وسيلة للصعود ، وكان علينا أن نسبح فى بركة مليئة بجثث القطط والكلاب ، دون أن نبدى قرفا أو إشمئزازا حين ترتطم بأجسادنا ، وأثناء ذلك كانت النيران الحية تحاصرنا فتجبرنا على خفض رؤسنا لنربت بحنان على خد كلب ، أو نستمتع بقبلة من فم قطة كما كنا نؤمر .. وكان علينا قبل ذلك ، وبعد ذلك ، أن نسير طوابير سير يبلغ طول الواحد منها ستين كيلو مترا .. كنا ننام ونحن سائرون ، يوقظنا من غفوتنا إحساسنا بانحراف أقدامنا عن الطريق المسفلت إلى الطريق الرملى .

* * *
كنت أتحايل على ترطيب جفاف حياة الصحراء ... كان الراديو الترانزستور وسيلتى لرتق الرقع العاطفية ، وملء الفراغات الوجدانية ... أعدت اكتشاف أغانى عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم .. من جديد وأنا أتامل قيمها التصويرية والإيقاعية واللفظية ، تساعدنى فى هذا بكارة الأجواء الصحراوية .
أما قصص الحب المنثورة فى هذه الأغانى فقدت دخلت معى فى علاقات جديدة بحيث تثير الأغنية لدى مشاعر لا يشاركنى فيها سواى .
نهارا ، كتب كل منا وصيته التى اقترح فيها توزيع مكافأة ما بعد الموت المتوقع عندما يطرأ ما يمنع فتح المظلة ، ووضعها تحت مخدته للرجوع إليها إذا لزم الأمر .
ليلا .. ارتدى كل منا مظلتيه .. وفى طريقنا الى الطائرة داهمنى صوت عبد الحليم من الردايو النائم على صدرى :

موعود معايا بالعذاب يا قلبى
موعود ودايما بالجراح موعود
ولا بتهدى ولا بترتاح فى يوم ياقلبى
وعمرك ما شفت معايا فرح
كل مرة ترجع المشوار بجرح

كان عبد الحليم يعبر عن حقيقة مشاعرى حيث يختلط عذاب القلب بجراح الوطن ، وبعد أن يهدأ ضجيج الطائرة التى شقت طريقها إلى السماء ، يعاودنى الصوت :

وتانى تانى تانى رايحين للحيرة تانى للنار والعذاب من تانى

وكأنى بالمغنى يجلس بجوارى يشاركنى أشجانى وهو يرصد من خلال كلماته رحلة قلب يتعذب صاعدا هابطا ، من الأرض إلى السماء ، ومن السماء إلى الأرض .. لكن صوت عبد الحليم كان قد توحد معى تماما فى آخر الرحلة لدرجة أننى أيقنت أنه يحكى حكايتى لا حكايته ، وبعد القفز من الطائرة ، أخذ صوتها يبتعد ، وصوت عبد الحليم يقترب :

شوف بقينا فين وهيَّ راحت فين
شوف خدتنا لفين وشوف سابتنا فين
فى سكة زمان راجعين
فى نفس المكان ضايعين ...

ولئن كانت أغنية "موعود" تحكى قصة محبٍ موعود بالعذاب ، لأن المحبوبة تمعن فى التمنع ، فإنها أيضا كانت تحكى قصتى أنا الجندى الموعود بالعذاب لا لأن المحبوبة كانت تتمنع ، ولكن لأنها كانت ممنوعة منى وعنى .

* * *
22/10/1973 هو اليوم الذى صدر فيه قرار وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل ، وهو اليوم الذى ظللنا متشبثين فيه بالدفاع عن "تبة مريم" ، تلك التبة التى تعد بمثابة البوابة لمدينة الإسماعيلية ، وهذا هو سبب تشبث الإسرائيلين بالإستيلاء عليها ، ونجحنا فى مهمتنا ، وكان الثمن أرواح بعض الزملاء .. تعلق أملنا بعد أن أُنهكت دفاعاتنا الجوية والأرضية بالقرار الصادر .. غير ان شراهة طائرات الفانتوم كانت تزداد مع مرور اللحظات الأخيرة حرصا على تحقيق أكبر قدر من المكاسب ، لكنهم لم يكتفوا بذلك وخرقوا القرار واستمرت أسراب الطائرات تتبادل ضرب التبة حتى مساء يوم 23/10/1973 .
غبت عن الوعى لحظات ، لكن صورة الطائرة التى مرقت كالسهم ، فى نصف دائرة بعد أن ألقت إحدى قنابلها فوق رأسى لم تفارق مخيلتى ، فى البداية تصورت أن القنبلة قد شطرتنى نصفين .. وجدتنى أزيح كوم الرمل الذى يغمرنى .. أخذت أتحسس جسدى غير مصدق أننى ما زلت حيا .. يا لها من معجزة .. القنبلة تسقط فوق رأسى فتقذف بالمدفع الذى كنت أقف وراءه إلى سفح التبة وأخرج أنا من تحت الأنقاض سليما من غير سوء !!

* * *
صباح يوم 23/10/1973 سقطت دانتان أسفل التبة .. أدركنا أن العدو بصدد الإعداد لقصف مدفعى .. كُلِّفت من قبل رئيس العمليات بالذهاب لإبلاغ قائد فصيلة المدفعية أن يكون على استعداد ، وكانت هذه الفصيلة تحتل موقعها على الجانب الآخر من التبة والمشرف على قناة السويس .

صرت مكشوفا على ظهر التبة فى حين كانت الأوامر قد صدرت للجميع بالاحتماء داخل الملاجئ تحسبا لما سوف يحدث ، وبعد دقيقتين وبالقرب من المسلة التى تتوسط التبة داهمتنى النيران التى لم أملك إزاءها سوى أن أنبطح .. حاولت أن أقفز بضع أمتار لأحتمى بملجأ قريب .. غير أن كثافة الدانات منعتنى .
ربع ساعة وأنا أقفز من وضع الانبطاح فى مساحة صغيرة ، مرة إلى الأمام حين تسقط الدانة ورائى ، وثانية إلى الخلف حين تسقط أمامى ، وثالثة إلى اليمين حين تسقط على يسارى، ورابعة إلى اليسار حين تسقط على يمينى .

لقد بلغ القصف أقصى درجة تركيز وتكثيف ، ربما لأنها كانت آخر محاولات العدو للاستيلاء على التبة .. أو لأنها آخر الجهود المبذولة لترويعنا بعد أن حُرمنا من أى غطاء جوى أو برى ، أو لعلهم شاءوا أن يتخلصوا مما لديهم من ذخائر قبل صدور قرار آخر لوقف إطلاق النار كان توقع صدوره وشيكا .

انتهزت فرصة توقف مفاجئ للنيران واندفعت بجسمى مثل سهم لألقى به داخل الملجأ . وفى ذهول من نجا من موت محقق .. من كان لا بد أن يموت وأخطأه الموت ، أخذت أتحسس جسدى .. ثمة بقعة دم ساخنة تغطى رجل البنطلون اليمنى .. ناديت بأعلى صوتى مستنجدا بزملاء تناهت إلىَّ أصواتهم من بعيد .. حملتنى عربة الإسعاف إلى مستشفى القصاصين .. هناك حمدت الله كثيرا ، بل شعرت بالخجل من نفسى ، إذا ما خطورة شظية تخترق الفخذ الأيمن لتستقر بين الجلد والعظم ؟ حتى الأطباء أنفسهم تركوها لتعيش معى وانصرفوا لعلاج زملاء كانوا أكثر حاجة منى للرعاية والاهتمام .

د. أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب بكلية الآداب – جامعة طنطا

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code