بين الخلاص الفردى والخلاص الجمعى
أحمد على الدين ، مذيع جاد بإذاعة الشرق الأوسط ، اتصل بى لإجراء حوار حول "العمل بروح الجماعة" ، غير أن الوقت المتاح لم يكف لإبراز رؤيتى حول موضوع أراه جوهريا فى تحديد المستوى الفكرى والحضارى للأفراد وللشعوب على السواء . إن الفرد المنخرط فى جماعة يتأثر بها ويؤثر فيها هو أفضل بالطبع من نظيره المتقوقع على نفسه . كذلك الشعب الذى يدرك أنه عضو فى جسد مجتمع أكبر يتعافى بتعافيه ، ويتداعى بتداعيه هو أيضا أفضل من نظيره الذى يعيش منعزلا فى جزيرة منكفئا على نفسه مكتفيا بذاته .
إن قيمة الأفراد والأوطان على السواء تتحدد بمدى قدرتها على التفاعل مع غيرها تحقيقا لمصالحها وضمانا لتقدمها . والحكومات المحترمة تمتلك برامج عمل ، وخطط حالية وأخرى مستقبلية ، تنطلق فى تنفيذها تحدوها رؤية واضحة للحياة وللكون ، وهى تعتمد بالطبع على شعوبها التى تسربت هذه الرؤية إلى ضميرها و وجدانها منذ نعومة أظفارها من خلال تربية صحية وصحيحة عبر مؤسسات التربية : المنزلية والمدرسية والجامعية والإجتماعية والإعلامية والدينية ... تنشط هذه الشعوب وتترعرع وتعمل تلقائيا بروح الجماعة ، وتضيف كل يوم إلى حياتها وحياتنا الجديد . ولم يعد أبناء هذه الشعوب بحاجة – مثلنا – إلى وعاظ يصدعون الرءوس حين ينهكون أحبالهم الصوتية عبر المنابر العديدة فى إلقاء دروس التقوى والإيمان مؤكدين أن يد الله مع الجماعة ، فى حين أن الواحد منهم يكره أخاه ويدبر له المكائد والدسائس .
هل يحق لنا بعد ذلك أن نتحدث عن "روح الجماعة" . إن سياسات السنوات الماضية أفقدت المجتمع بكارته ونضارته وبراءته حين أفسدت مؤسساته فى دوائرها المختلفة ...
انهارت مؤسسة الأسرة حين اضطرت الأم إلى التضحية بأبنائها لقاء دراهم معدودات ، وحين ضاع الأب بين السفرين : الداخلى والخارجى . فى السفر الأول التمس عملا إضافيا يضطره إلى العودة آخر الليل والاكتفاء برؤية الأبناء وهم يحلمون برؤيته . وفى السفر الثانى يقبِّل يد الكفيل لأنه أتاح له أن يرى أبناءه مرة كل عام أو عامين ...
انهارت المؤسسة التعليمية حين تحولت القبلة إلى بيوت المدرسين الخصوصيين الذين يبالغون فى تدليل تلاميذهم ، ويختزلون العلم لهم حين يسقونهم إياه بالملاعق الصغيرة جدا ، حتى تقدر أمعاؤهم الضعيفة جدا على احتمال مضاعفاته الوخيمة جدا !! .
انهارت المؤسسة الجامعية حين تحول الأستاذ إلى مقاول يضنيه الفكر فى معرفة عدد الأنفار الحاجزين مذكرته الهزيلة ، أو كتابه المنقول بعد التشويه والذى يقدمه لطلابه على أنه مدينة العلم وبالطبع هو فبابها .. ثم انهارت حين اتسعت الفجوة بين الأستاذ والطالب ، وبدلا من أن تقوم العلاقة بينها على الحدب والعطف من جانب الأول ، والحب والإحترام من جانب الثانى ، نشأت علاقة جديدة هى أشبه بعلاقة القط والفأر ؛ الأستاذ يتفنن فى فرض بضاعته على الطالب ، والطالب يتفنن فى الهروب.
أما المؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية .... فليست أسعد حالا ، وأما مجالسنا ، كل مجالسنا ( الموقرة وغير الموقرة ) فحدث عنها ولا حرج .
فى ظل هذا المناخ هل يمكن الحديث عن جدوى أى عمل جمعى ، أو أمل فى أن يصبح الكل واحدا ؟. هل يمكن الحديث عن التفكير الابتكارى ، أو حتى عن التفكير النقدى ، أو حتى عن مجرد التفكير فى حدوده الدنيا ؟ .
إن الفرق بيننا وبينهم ، أنهم حين رسموا خريطة النجاة ، رسموها سويا .. لأنهم أدركوا أن لا نجاة للجزء منعزلا عن الكل . الخلاص الجمعى هو الخلاص الحقيقى ، وما عداه خلاص زائف كاذب .
مأساة العرب الآن ، انهم حين فقدوا الأمل فى خلاص جمعى بعد تجريب السياسات المتتابعة تفتتوا وانشعبوا وسار كل منهم فى طريق يبحث عن خلاصه .. الكل بدءا من أصغر صغير حتى أكبر كبير ، يبحث عن خلاص فردى .. خلاص حدوده الكبيرة الأسرة الصغيرة المقصورة على الأبناء والمحذوف منها الأمهات والآباء ، ناهيك عن الأعمام والأخوال والعمات والخالات ....
أصغر صغير يبحث عن خلاص بتوفير رغيف يأكله أبناؤه .
وأكبر كبير يبحث عن خلاص بتدشين وطن يحكمه أبناؤه .
أما الوطن ذاته فهو الشقى التائه ، الهزيل الشاحب ، الصغير الصغير ، الصغير بنا جميعا : بالصغار ، وبكبار الصغار ، وبصغار الكبار ، وبالكبار الصغار .
د. أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب بكلية الأداب – جامعة طنطا