أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الرئيس وتجديد الخطاب الدينى

أضيفت فى الثلاثاء 20 يناير 2015
بعد أن وقفت الدولة بكافة مؤسساتها عاجزة إزاء ما أصاب الخطاب العربى , - وفى القلب منه الخطاب الدينى - , كان لابد من تدخل رأس الدولة شخصيًا محملًا الأطراف المعنية مسئوليتها , ذلك أن ما تراكم فى نهر هذا الخطاب من أعشاب وأوشاب عبر عقود , حولت مجرى النهر إلى مستنقع طافح بشتى الميكروبات والجراثيم والطفيليات , تعجز عن تطهيره وزارة , بل حتى مجموعة من الوزارات ...

والسبب – فى تقديرى- أن المجتمع قد أصيب فى بنيتيه : الفوقية والتحتية , الفوقية المتمثلة فى الصفوة المثقفة , والتحتية المتمثلة فى الجموع الغفيرة من أبناء الوطن , ولئن افترضنا بأن هذه الصفوة هى ملح الأرض , فهل يمكن أن نستعين بهذا الملح فى إصلاح ما فسد من عقول أبناء الأمة ؟! .

ثمة مظاهر كثيرة تجعلنا نجزم بعدم الإمكان ، ولئن نسيت من هذه المظاهر ما نسيت .. غير أننى لا أستطيع أن أنسى ما حدث فى هذا اليوم ...

فى الثانى من مايو 2006 كان موعد الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولى الذى عقده قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطا تحت عنوان :
" الخطاب العربى عند منعطف القرن الحادى والعشرين "
ورأينا أن نوجه الدعوة لأستاذين كبيرين - نحن فى حل من ذكر اسميهما , لأنها أمسيا فى ذمة الله- لكى نستعين برؤيتيهما فى تشخيص مثالب الخطاب العربى , وكيفية التخلص منها ...
وكان علىَّ – كرئيس لقسم اللغة العربية حينئذ – أن ألقى الكلمة الافتتاحية للمؤتمر , وقد حاولت أن أصوغ الكلمة بإيجاز , مكثفا عيوب الخطاب العربى عامة .. وقد جاء فيها : 

" كان جدى فلاحا ذا روح سمحة , يرتل القرآن فى الصباح ويستمتع بصوت أم كلثوم فى المساء , أما فى الظهيرة فكان يتقاسم تحت شجرة الجميز الكبيرة مع الخواجة مينا طعام الغذاء , وعندما أهديته فى ستينيات القرن المنصرم تمثالا صغيرا للملكة حتشبسوت كنت قد اشتريته أثناء رحلة مدرسية إلى مدينة الأقصر ؛ احتفى به أيما احتفاء , ومن خلاله كان يتحدث فخورا عن أجداده وعن المرأة التى كانت تعدل ألف رجل .

اليوم نرى الأحفاد يمسكون المصاحف فى أيديهم , لكنا لا نشعر بالسماحة فى قلوبهم , ونرى الفتيات تسدلن النقاب على وجوههن , لكنا لا نطمئن إليهن .. وكل شئ عندهم وعندهن حرام , صوت أم كلثوم يلقى بسامعه فى النار , الخواجة مينا نجس , أما المرأة فرحم للإنجاب , وخادم للرجل , التمثال إله يعبد من دون الله .. وهلم جرا . 

لقد شب جذع جدى واستطال على شاطئ النيل أيام كان نقيا وأنيقا , تحمل مياهه طين الخصب والنماء , وتمتزج بغرين الحب والعطاء , وتنعكس على صفحته الصافية زرقة السماء .

أما الحفيد فقد نمت ساقه على شاطئ مجرى من مجارى الصرف غير الصحى المنتشرة كما الأوردة والشرايين فى داخل الجسد , ومن هذا المجرى استمد الغذاء , وامتلأت خياشيمه بالهواء .

كلما تأملت حال الأحفاد , يأتينى طيف جدى فأتحسر مع صلاح عبد الصبور وأقول : 

" لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القَدْرُ من السِّفْلة والأوغاد ! . "

لكنى أعود فأقول : إنه الخطاب .. الخطاب القواد .. الذى يقود العقل من أنفه ليقع فريسة سهلة فى شباك الاغتصاب .
إنه الخطاب الذى عجز عن مواجهة إشكاليات الحياة , ومواكبة مستجداتها , فانسحب متقوقعا على نفسه , ليعيد إنتاج الخطاب القديم , مضحيا بنهر الحياة المتدفق , بالطازج والساخن والجديد , نهر الحياة الذى تضطرم أحشاؤه بقضايا وأمور لم تكن حتى لتخطر على بال السابقين ولو من قبيل التخيل أو الخيال . والنتيجة هى اتساع الفجوة بين الخطاب والواقع , وتظل أسئلتنا القديمة هى نفسها أسئلتنا الجديدة والمتجددة , تظل أسئلتنا معلقة لأن إجاباتنا معلبة , ونظل ندور فى حلقة مفرغة , الرطان الدينى يمتد , والوعى الدينى يرتد , ويصبح الشعار أهم من الشعيرة , تصبح المئذنة أهم من الصلاة , ويضيع الدين ويبقى التدين ؛ يضيع الدين الحق , ويبقى التدين المغشوش , يتظاهر كل منا أنه يخدم الله , بل تكاد تنفجر الحناجر من حولنا ، فرادى و جماعات هاتفة "نحن وحدنا نمتلك الله" !! .

خطاب يبثه ذئاب تتستر وراء الشفافية والمصلحة الوطنية حينا , وخلف المسابح وآيات الكتاب حينا , خطاب مشغول عن تفسير كوابيس النهار بتفسير أحلام الليل , فأصبح مألوفاً الآن أن تفتح العديد من الفضائيات العربية فيفجؤك : 

" صنمٌ ومسبحةٌ من اليُسْرِ المتَّوجِ بالذهب
متربِّعٌ فى فرو خاروف 
ويشرحُ ما يشاءُ من الكتاب 
فى عينه وَرَعٌ 
ولكن عينُهُ الأخرى 
تؤهلنا ولائمَ للذئاب "

وغالبا ما يتوسل هذا الخطاب ببعض التوابل ليسهل عملية تمرير الطعام الفاسد , وكما يقول مكسيم رودنسون : " ما أسوأ اللغة التى لا فعل لها سوى فعل التوابل , حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فسادا " . 

فى خطابنا العربى تجد ألف واحد يعلمونك كيف تموت , وقلما تجد واحدا يعلمك كيف تحيا .
تجد ألف واحد يوصونك بالنظر فى قفا الماضى . وقلما تجد واحداً يوصيك بالتطلع نحو المستقبل .
تجد ألف واحد يعلمونك كيف تكون تابعا . وقلما تجد واحداً يعلمك كيف تكون مبدعاً .
تجد ألف واحد يعلمونك أن طوق النجاة هو فى الاكتفاء بالاسترخاء على شواطئ السعادة البليدة , وقلما تجد واحداً , يلقى بك عامدا , فى محيط الشك والسؤال , لتكتسف بنفسك ولو شعاعاً واحداً من شمس الحقيقة .
تجد ألف واحد يعيدون إنتاج الماضى , وقلما تجد واحداً يعيد اكتشاف هذا الماضى فى ضوء مقتضيات الحاضر ومتطلبات المستقبل .
تجد ألف واحد يقعون فى شباك وهم اليقين المطلق والحقيقة النهائية , ولا تجد واحداً يحاول أن يزرع الشك فيما هو قائم رغم فظاعته وفظاظته ولا معقوليته
تجد ألف واحد يتتابعون عليك , يعلمونك – كلٌّ بطريقته – كيفية غسل الميت , وقلما نجد واحداً يعلمنا كيف نغسل عقولنا من فيروسات الخطاب السياسى والإعلامى والثقافى , وكذا طفيليات الخطاب الدينى .
تجــد ألــف واحــد يجـــأرون :
" إن أرضنا هى مهد الحضارات ومهبط الديانات والنبوات , وقلما تجد واحداً يسأل : وماذا صنعنا بهذه الأرض ؟ :

" النُّبُوَّات ثَوبٌ نسجته بأهدابها أرضُنـــا 
والسماء وأفلاكها تدور على أرضنـــا 
فلمــاذا كــل شـــئ عليــها خُـــــواء ؟
ولمــاذا كــل شـــئ أصَـــــمُّ وأعمـى ؟ "

تجد ألف واحد رجعى , يقفون بالمرصاد , وراء كل تقدمى , يهدمون ما قدم وينقضون ما أنجز .
وأخيرا وليس آخرا , تجد فى عالمنا العربى , عشرين واحدا , آلوا على أنفسهم أن يظلوا – وإلى الأبد – فى خدمة ( رعاياهم ) ولم يفكر مرةً واحدٌ منهم أن يؤثر نفسه , ولو بالسنة الأخيرة من عمره المديد , يريح فيها دماغه من صداع الأتباع . بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فى تفانيهم , وذلك حين أعدوا العدة ليحمل ( الهمَّ ) بعدهم أبناؤهم . يا ويحهم وويح أبناءهم .
هل نحن بحاجة إلى أن نحرث الأرض , ونقلب بطنها على ظهرها نلقى فيها نطفا طاهرة تشب فتصبح أفئدة حية نهئ لها خطابا بريئا من فيروسات الهرمنة والسرطنة ؟
ولكن .. أنى لنا ذلك ؟ إنها اليوتوبيا ..

لنعد إذن إلى الواقع لنرى :
نرى الخطاب التعليمى وقد اعتقل العقل حين اعتمد كلية على الرضاعة العلمية الصناعية متمثلة فى الدروس الخصوصية .
لنرى الخطاب الإعلامى وقد نجح فى تغييب الناس حين أجلسهم يتثائبون على شواطئ البرامج الهابطة والمسلسلات البليدة والأغانى الفجة .
لنرى الخطاب السياسى وقد احتكر الحقيقة , واحتكر معها كل شىء .
لنرى الخطاب الدينى وقد عاد بنا إلى ما قبل العصر الجاهلى .
والمحصلة هى إنسان عربى معطل الحواس , فاقد الإحساس " .

هذا بعض مما قلته فى هذه الجلسة .. وجاء دور الضيفين الكبيرين لكى يعقبا , ويا لهول ما عقبا به !! , لقد انهالا علينا تقريعاً لأننا – فى تقديرهما - أسأنا الأدب فى حق خطابنا وديننا , ولم تتبق تهمة لم توجه إلينا , حتى تهمة الكفر إن لم تُلق فى وجوهنا صريحة فقد وُجهت مضمرة , ولم ينس أحد الأستاذين أن ينصح الطلاب قائلاً : " ثقوا فيما عندكم "ولم يكن عندهم سوى هذا الخراب الذى سبق أن أسلفنا الحديث عنه , والمعنى ببساطة أن غير قليل ممن يُحسبون على الصفوة , كانوا يكرسون للخطاب القديم بدلا من أن يثوروا عليه ويبرزوا مساوئه , والخطورة أن هؤلاء لا يزالون يعيشون بيننا , ويعيثون فساداً فى جامعاتنا وفى غيرها من المؤسسات , والخلاصة أن تجديد الخطاب الدينى ليس عملية سهلة لأنه يحتاج قبل تغيير البنية التحتية للمجتمع إلى تغيير البنية الفوقية التى تشرّبت الفكر الوهابى وفقه ابن تيمية , والسؤال المهم هو : هل تدخل السيد الرئيس سيكون كافيًا لزحزحة هذا الخطاب عن قناعاته البالية ؟.

و أكاد أجزم بعدم كفاية هذا التدخل ، رغم ثقتنا بإصرار السيد الرئيس على التغيير ، غير أن الأمر يحتاج إلى تضافر جهود جميع الرؤساء العرب لكى يتبنوا خطة للقضاء على هذا الوباء الذى اجتاح عالمنا العربى ، و ذلك قبل أن يصل العالم الآخر إلى قناعة أننا أصبحنا كائنات ضارة تهدد أمن هذا الكوكب و سلامه ، و آن لنا أن ننقرض و نترك الأرض لمن يقدر على إصلاحها و ملئها خيراً و سلاماً و أماناً . 
خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code