أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

مشروع احمد ماضى الروائي - من البذرة الى الشجرة

أضيفت فى الأربعاء 22 أكتوبر 2014

رؤية احمد ماضى:

ولد أحمد ماضى عام 1944، فكان طبيعيا أن يتفتح وعيه مع ثورة يوليو 1952، وأن يكون جمال عبد الناصرهوالبطل والمنقذ والمخلص بالنسبة له ،كما بالنسبة لمعظم أبناء الأمة العربية،ٌ ولم يفلت أحمد ماضى مثل أغلب أبناء هذه الأمة من الوقوع فى أسر جمال عبد الناصر، وشخصيته الطاغية المستمدة من إنجازاته الثورية التى رفعت شأن مصرلتصبح تاجا للأمة العربية ، ومفجرة لشرارة الثورات فيها ، فضلا عن مكانتها السامية بين دول العالم. وكان أحمد ماضى من أكثر المثقفين تسامحا مع أخطاء عبد الناصر ، ولقد عبر عن مشاعره تجاهه فى كتاب أسماه "جمال عبدالناصر.....أميرالفقراء"(سلسلة إبداع الحرية،العدد 38)

ولعل رؤية أحمد ماضى للحياه قد تبلورت فى الفترة الناصرية ،وبتأثير من قائدها؛هذا التاثير الذى ظل ملازما له حتى بعد انتهاء الفترة الناصرية ،وهو فى جميع قصصه ورواياته يبدو منحازا لهذه الفترة ،محملا- فى ذات الوقت – فترتي السادات ومبارك مسئولية الانقلاب على الإنجارات الناصرية ، ووأد الحلم الناصرى، وإدخال البلادفى دوامة من الكوارث المتتالية،بدأت باتفاقية كامب ديفيد، والأنفتاح،ثم حدث ولا حرج عن فساد ثلاثين عاما تربع فيها مبارك على عرش مصر فأفسدها،كما لم يفسدها أى استعمار أجنبى،لذلك نجده يقارن دائما بين مزايا القترة الناصرية وإنجازاتها بمثالب فترتى السادات ومبارك،وما انجرفت فيه البلاد من فساد نمت براعمه فى زمن السادات واستوت أشجاره ونضجت ثماره المرة فى عصر مبارك

وتشبع أحمد ماضى بالفكر الناصرى ،وتغلغل هذا الفكر فى وجدانه جعله يبدو كما لو كان مبعوثا من قبل عبدالناصر ليتمم دعوته ،ويؤكد فكرته ،ووجدناه يتحول – مثل عبد الناصر- الى نصيرللفقراء والمقموعين والضائعين فى جميع رواياته،غير أن هذا الإحساس
يتبلوربوضوح فى رواية "لست أنا...لكنه اسمي" ؛إذتعد هذه الرواية بمثابة البذرة التى تكشف عن انحياز ماضى للضائعين والبسطاء الذين يلقى بهم خلف الأسوار بتهم ليس لهم ذنب فى ارتكابها ،بل لعل البكوات والبشوات الذين يتمتعون بكامل حريتهم هم سبب مصائب هؤلاء.كما تشير الرواية أيضا إلي أن المكاسب التى حصل عليها المواطن فى زمن عبد الناصر سلبت منه بعد ذلك ،فضلا عن إبرازمثالب السلطه التى تستثمر سلطتها لا فى خدمة الجماهير ،بل فى الإثراء على حسابها.

ولأن ما أشار اليه الكاتب من صور الفساد فى هذه الرواية ،كان بمثابة البذرة التى نمت فى زمن السادات ،وترعرعت فى زمن مبارك،فقد جاءت رواية "البلاد وأشلاء العباد" ممثلة لشجرة الفساد الملتفة الأغصان ،المتكاثرة الثمار ؛الثمار المرة التى ترعرعت فى التربة المصرية على مدي ثلاثين عاما ،والتى كان طبيعيا أن ينفجر الشعب المصري على إثرها فى ثورتين متتاليتين؛ ثورة 25 يناير 2011 ،وثورة 30 يونيو2013،وهو ما سيجيد الكاتب تصويره من خلال شخصيات الرواية (السيد وأمير) حيث يحتل آل النحال المزيد من الاهتمام ،كنماذج حيوية للفساد ..الذي تردت فيه البلاد ، ولتكن البداية من البذرة ؛ من رواية "لست أنا ...لكنه اسمي" ثم نثني بالرواية الشجرة (البلاد وأشلاء العباد) . 
 

رواية "لست أنا ..... لكنه اسمي"

منذ عشر سنوات ،وبالتحديد فى 27/9/2004أهدانى الأستاذ أحمد ماضى نسخة من روايته " لست أنا .. لكنه اسمى .." وقد كتب على صفحة الإهداء :
" فى ضربة حظ عجيبة قضيت عشر ساعات نزيل الحجز بقسم شرطة مدينة نصر والسبب : اسمى
لأنه نفس الاسم الرباعى لمجرم عتيد فى الإجرام.
زالت عنى رهبة الموقف بعد ساعة واحدة ، عندما انصهرت مع هذا العدد بين الضائعين وعندما جاءوا لتهنئتى بإخلاء سبيلى تولانى الفزع والحزن ... إذ خرجت لاحتضان حريتى وخلفى هذا الكم من البؤساء الذين سلب الضياع حريتهم "

ومن يعرف أحمد ماضى يدرك كم هو صادق فى إحساسه ، فحريته لا معنى لها ، مادام هناك من يقبعون خلف الأسوار ، يتشممون رائحة الحرية الآتية من بعيد عبر نوافذ ضيقة وقضبان حديدية .

ولقد عرفت أحمد ماضى جيدا من خلال حرصى على حضور صالونه الأدبى فى الفترة التى عينت فيها مشرفا على كلية الآداب بكفر الشيخ ، عرفته إنسانا صافيا وصادقا ومهموما بوطنه ومواطنيه ... وعندما عقدت الهيئة العامة لقصور الثقافة مؤتمرها الأدبى التاسع لإقليم شرق الدلتا الثقافى بكفر الشيخ فى يونيو 2010 برئاسة أحمد ماضى ولتكريمه ، دعيت للكتابة عن إحدى رواياته ، فاخترت رواية " البلاد وأشلاء العباد " .

وقلت – فيما قلت – " إن هذه الرواية هى قصيدة رثاء لمصر ، وما حدث لها بأيدى حفنة من أبنائها وصلوا إلى السلطة بالزور والبهتان ، امتلكوا الأموال التى اشتروا بها كل شئ ، وأخذ الوطن ينكمش تحت أقدام أبنائه الذين دفعوا حياتهم فى سبيل الدفاع عنه "وبصدد تلخيصي للرواية قلت : " يستعرض الكاتب ما حدث لمصر عبر الستين عاما الأخيرة من انتكاسات ، فجذور التردى بدأت فى عهد عبد الناصر ، أما الفروع والأوراق فكانت قد أينعت وترعرعت فى العصرين التاليين ، هذان العصران اللذان شهدا موجات متتالية ومتتابعة من الفساد ، ربما لم تحدث فى مصر حتى فى زمن المتنبى حين قال :
نامت نواطير مصر عن ثعالبها حتى بشمن : ولم تفن العناقيد
أما ما يحدث الآن(يونيو2010) ، فقد تجاوز مرحلة نوم النواطير إلى تواطئها مع الثعالب ، وتهيئة الأجواء ( الصالحة ) لنموها وانتشارها .... لقد جلس النحالون على مقاعدهم فى كل المواقع ، وأخذوا يديرونها وفق أهوائهم .. لا يخلو موقع الآن فى جهاز الدولة من نحال كبير ، وما نسمعه وما نشهده من مآسى التزوير والنهب والسرقة والابتزاز ، وبيع الوطن بالقطعة ، والمشترون هم النحالون الذين سرقوا أموال هذا الوطن وهم يستظلون بقباب المجالس التى يصولون فيها ويجولون ويحتمون بالحصانة " (1)
وتعد هذه الرواية وثيقة تؤرخ للفساد الذى كان سببا فى اندلاع ثورتى 25 يناير 2011 ، 30 يونيو 2012 وهى شهادة تحسب لأاحمد ماضى ، حيث كانت رؤيته تتجه الوجهة الصحيحة ، وترى ما سوف يحل بهذه العصابة التى استحلت كل شئ .

*** 

لست أنا .. لكنه اسمى :

حين أعيد قراءة هذه الرواية التى قرأتها منذ عشر سنوات ،أضحك لهذه المفارقة التى حدثت بالفعل لأحمد ماضى ، وذلك حين اقتيد إلى قسم شرطة مدينة نصر ، ووجد نفسه محشورا بين مجموعة من الضائعين .. أخذ يصغى إلى ثرثرتهم ، ولعله كان يدرى أن هذه الثرثرة ستتحول إلى عمل أدبى هو هذه الرواية .
والحدث الأساسى فى هذه الرواية هو هذه المفارقة ، حين تجد أن اسمك الرباعى هو نفس اسم مجرم عتيد فى الإجرام ، ومطلوب القبض

عليه ، وكما يصوره أحمد ماضى ، " هو مواليد 1950 ... وفى عمره الذى يزيد عن نصف القرن كانت له مسيرة من الإجرام المتعدد

المسميات ... من تعاطى المخدرات ... إلى شيكات النصب ... إلى سرقة الأراضى ... وهو فى كل الأحوال يعمل من خلف منبر صغير

عبارة عن كشك لإصلاح وبيع الساعات فى حى المنشية ... لعله الطعم الذى يتعرف فيه على زبائنه ... ويعقد منه مغامراته"(2)

ثم يتابع الحديث عن هذا المجرم : " لعله جال بخاطره أى شئ ... ولكنه من المؤكد أنه لم يجل بخاطره أن هناك رجلا يحمل نفس اسمه له هموم أخرى ، وحيوات أخرى .. وآمال أخرى ....رجلا اشترك معه فى الاسم الأول .. وفى الاسم الثانى للأب .. وفى اسم الجد .. ثم اسم العائلة .. رجلا كان يتمنى أن يهتف فرحا لعثوره على سمىَ له عالم .. أو سمىَ له شاعر .. أو سمىَ له : يتحدثون عن محاسنه
وقد كان على المتهم ( أحمد ماضى ) أن يثبت أن هذا الاسم ليس اسمه ، وقد استطاع أن يصل إلى هدفه بعد صولات وجولات قام بها الأبناء بمساعدة القادرين من الأهل ، ويستطيع أن ينام بعد إخلاء سبيله ، وتنتهى الرواية على هذا النحو: : " ومن المؤكد أننى سأستسلم لنوم هادئ هانئ .. لأننى مفعم بالرضا .. الرضا لأننى راهنت على أننى : أنا .. وأننى أكدت للجميع أن هذا الاسم ليس لى .. رغم أنه اسمى"
1- راجع تحليلا كاملا لرواية : "البلاد وأشلاء العباد " فى الكتاب الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعنوان "تجليات الثقافة فى الإبداع الأدبى "بشرق الدلتا ، يونيو 2010 ص 47 : 82 ، والاقتباسات الواردة ص 80 : 81 . كلمة "النحالون " مشتقة من " سيد النحال " أحد شخصيات الرواية ، وهو فاسد كبير وانتهازى خطير ، كان الكل يشير إليه باصبع الإتهام ، غير أنه كان من المرونة بحيث يبرر كل ما يأتى به من مفاسد ، وما يرتكب من جرائم ، وظل يضحك على المصريين حتى فى مشهد موته الأخير ، حين تركنا قبل اندلاع الثورتين المذكورتين حتى لا نرى وجهه مع أقرانه من زمرة الفساد بين القضبان .
2- أحمد ماضى : " لست انا .. لكنه اسمى " نسخة مطبوعة على حساب المؤلف ، ص 99 وسنشيربعدذلك الى رقم الصفحة فى المتن. 

***

اتضحت الآن دلالة العنوان التى تبدو لأول وهلة – ملغزة بعض الشئ ، غير أن الرواية تحمل عنوانا آخر ؛ هو ليس عنوانا رئيسيا ، لكنه أيضا ليس عنوانا جانبيا ، ولكنه يوضع فوق العنوان الأصلى ولكن بخط أصغر من الخط الذى كتب به العنوان الأصلى ، مع ملاحظة أن خطا موضوعا تحته هكذا : ضائعون يثرثرون ، والعنوان هذا سواء بالمكان الذى يحتله فى أعلى الصفحة ، وفوق العنوان الأصلى ، أم بالخط الموضوع تحته ، يعد علامة سيميائية تؤكد أهميته ، وحرص المؤلف على إبرازه ، وأنه إذا كان العنوان الرئيسى يبرز تلك المفارقة بين إنسان يحمل ذات الاسم الرباعى المطلوب ، لكنه فى حقيقة الأمر ليس هو ، فإن طائفة من الضائعين الذين يثرثرون خلف الأسوار يلعبون دورا حيويا ، بل لعل الراوى نسى الورطة التى تورط فيها فى خضم انصهاره مع هؤلاء الضائعين ، لذلك نجده يقول عندما اخلى سبيله : " تولانى الحزن .. إذ خرجت لاحتضان حريتى وخلفى هذا الكم من البؤساء الذين سلب الضياع حريتهم "

ضائعون يثرثرون :

أول البؤساء الذين تتاح للكاتب الحديث معهم فى السجن ، هو شخصية بلا ملامح ، وبلا اسم ، غير أن صفته هى " أنه أحد أصحاب الجلاليب الكالحة " وقد وقع هذا البائس ضحية للشيخ محمد الذى يبيع للدنيا كلها غرف النوم والثلاجات والبوتاجازات .. بالتقسيط ، وهو يعرف كيف يسوق بضاعته الفاسدة لدى زبائنه ، ويعرف بعد ذلك كيف يفترسهم بشيكات على بياض ، ثم كيف يصبحون نزلاء السجن إذا قصروا فى دفع قسطين أو ثلاثة ، وهذا ماحدث بالطبع....

غير أن الكاتب يستثمر حكاية الشيخ محمد فى كشف عورة التدين الزائف المغشوش الذى شاع وسط طائفة ليست قليلة فى المجتمع ، ومن ثم فإن الكاتب راح يعمل خياله فى رسم صورة لشخصية الشيخ محمد ، وذلك بمطابقتها على صور حقيقية يصطدم بها صباح مساء . يقول : " رحت أتخيل شكل هذا الشيخ ... من المؤكد أن له لحية وقورة ... ووجها بشوشا ... ويمسك بمسبحة ... ويواظب على أوقات الصلاة وتأخذه الرجفة والفزع إذا صكت أذنه كلمة يطلقها الغوغاء فى الشارع يسبون بها الدين ... يرتجف ويفزع لأنه حتما حريص على هذا الدين ..رحت أتخيله ينام هانئا قرير العين على سرير إحدى غرف النوم التى يتاجر بها ولكنها موبيليا مختلفة بها الفخامة والعز .. تجاورها خزينة الفلوس المحشوة بأوراق البنكنوت .. يصلى العشاء وينتهى من الدعاء ثم ينام مبكرا ليصحو مبكرا لتجارته .. ربما تشغل باله بعض الأشياء .. كوصول بضاعة جديدة .. أو تأخر المهندس فى تقديم رسومات عمارته الجديدة .. ولكن لن تشغل باله بأى حال صورة امرأة خطف منها زوجها .. وكاد أن يخطفها هى الأخرى إلى السجن طالبا منهما ستة أضعاف ما يستحقه .. مستخدما كل وسائله الجهنمية مع المحضرين والمحامين للتنكيل بزبائنه .. الزبائن الذين يلاطفهم عند التعاقد بشرب الشاى .. ثم يجبرهم بعد التمكن منهم إلى شرب المر ...(ص39،40)

ويرى الكاتب أن السادات ومبارك كانا مسئولين بشكل ما عن استغلال الدين من جانب طائفة كبيرة واتخاذه آداة للتكسب ، وما الشيخ محمد إلا نموذج لهذا الاتجاه ، وفى الوقت الذى يرى فيه الكاتب أن عبد الناصر كان قد قطع يد أمثال الشيخ محمد ، ولم يعط لهم الفرصة لكى يمارسوا انتهازيتهم الدنيئة ، غير أن السادات ومبارك كانا قد سارا فى طريق غير طريق سلفهما، وذلك لأن من جاءوا بعد عبد الناصر " راحوا يصرفون وقتهم فى ايجاد صيغة جديدة وعصرية لضبط العلاقة بين الشيخ محمد وضحاياه ... وغالبا ما يأتى اقتراح الشيخ محمد باهرا ولامعا ومقنعا وهو يؤكد أن الإسلام أطلق العنان للربح الحلال .. وأن العقد شريعة المتعاقدين .. وأن الرضا سيد الأحكام .. ولن يعدم الشيخ محمد ومحاميه الوسيلة فى صك القوانين والشعارات التى ترجح كفته .. فما أكثرها تلك القوانين والشعارات اللامعة التى رسخت الظلم وهى تغلفه بسيلوفان العدل الزائف".(ص42)

وبعد أن يتحدث الكاتب عن الوحدات الانتاجية ، ووحدات التشغيل والصيانة التى انتشرت فى عهد عبد الناصر والتى كان لها أثر كبير فى تسهيل حياة الناس وإتاحة الفرصة للشباب لأن يقيموا أسرة دون أن يتعرضوا لما يخبئه لهم الشيخ محمد وأمثاله من شر ، غير أن من أتى بعد عبد الناصر كان قد " أخلى الطريق وعبَده للشيخ محمد وأمثاله يتاجرون بأحلام الفقراء .. ومصائرهم ..(ص43)

اما الضائع الثانى ، فهو لص ، حرامى شقق ، وتصادف أنه مارس هوايته فى أرض الجولف ، تلك المنطقة التى يسكن فيها الراوى .. ثم أخذ هذا اللص يتحسر على أيام زمان ، عندما كان يكسر الشقة فيحصل منها على مبالغ طائلة .. أما الآن فإنه لا يعثر إلا على الفتات .... ويستثمر الراوى الحوار الذى دار بين اللص وزميل الراوى ليكشف عن أزمة هذا اللص بسبب أنه لا يعرف كيف يختار زبائنه .. ولينبهه إلى أن طبقة جديدة اسمها لصوص القطاع العام الذين يمتلكون أموالا طائلة لا يضعونها فى البنوك انتظارا لتهريبها أو غسلها ، وأن هذه الطبقة هى الأولى بأن تكسر أبواب شققها وفيلاتها.. وهو بهذا يؤكد على الانهيار الذى أصاب القطاع العام الذى شيده جمال عبد الناصر ... وبالعودة إلى اللص ، نجده يتوجه إلى لبنان بعد أن ضاقت به الفرص فى مصر ليعود بعشرين ألف دولار بعد شهر واحد .ويعلق الراوى على هذا مبرزا الفرق بين هذا اللص الواضح ، وبين اللصوص الآخرين ممن يسمون بالبشوات والبكوات الذين يتمتعون بكامل حريتهم خارج الأسوار ، لكنهم لم يتركوا جريمة إلااقترفوها ، ولو وضعت جريمة هذا اللص إلى جانب أقل جريمة من جرائمهم لبدت تافهة لا تستحق أى إدانة .أما الضائع الثالث فهو سواق ميكروباص يكشف كيف يستغل ضباط وأمناء الشرطة سلطتهم فى التربح وذلك حين " يعمد الضابط أو الأمين إلى شراء سيارة ميكروباص قديمة باسم شخص آخر يثق فيه ويدفع مقدما تافها ثم أقساطا معقولة ويسلمها لسائق ما ... والسائق مسئول عن دفع الأقساط بانتظام وتسليم باقى الإيراد"(ص75)

والسائق فى هذه الحالة ليس ملزما باتباع أى قواعد أو قوانين ، فهو أكبر منها جميعا ، " فله مطلق الحرية فى السير بالطريقة التى تعجبه لا التى تعجب قانون المرور... والوقوف فى المكان الذى يعجبه وليس الذى يعجب الجمهور ... ويكسر الإشارات التى تعجبه .. ويفتعل الخناقات التى تعجبه .. فشعوره بالحماية يجعله متعاليا على الخوف من المحاسبة والمؤاخذة ".(ص75)
والمفارقة هنا هو أن السائق قد دخل السجن بسبب عجزه عن دفع كمبيالة بـ 350 جنيه ، بينما الذين يسرقون الوطن ، لا أحد يعبأ بهم ، بل ربما نباركهم ونقدم العون والتحية لهم .

أيديولوجية الكاتب :


سبق أن ذكرنا إشارة الكاتب إلى ما حدث فى عصر عبد الناصر من انتشار الوحدات الانتاجية ، ووحدات التشغيل والصيانة ، والتى كان لها أثر كبير فى حالة الرخاء التى أحس بها الناس ، ناهينا عن تيسير الفرص للشباب لكى يقيموا أسرا ويفتحوا بيوتا دون أن يقعوا فى شباك الشيخ محمد وأمثاله من المتاجرين بالدين .
أيضا ستجد أحمد ماضى يتطلع بشوق – وفى كل رواياته – إلى نهر الحنين المتدفق من الفترة الناصرية ، وهو لا يستطيع - مثل كثيرين – أن يقمعوا حنينهم الجارف نحو هذه الفترة التى بلغت فيها مصر قمة زهوها بنفسها ، والكاتب محق ، وهو دائم الاجترار من معين زمن جميل ، يجد نفسه يقارن بينه وبين أزمنة تالية افتقدت قيم الجمال ، بل استبدلت هذه القيم بقيم أخرى قبيحة .
هو لذلك حين يلمح ما سجله السجناء القدامى فوق الجدران حين كتبوا أسماءهم يتقدمها جملة " العظماء الثلاثة " يذهب مفكرا فى مشكلة الأنا ، مشكلة التضخم الذاتى والشعور بالتميز والأفضلية وينفذ من هذا إلى المقارنة بين السادات وعبد الناصر متسائلا : " هل كان يجب على السادات أن يحشر اسمه وصورته بجانب اسم وصورة جمال عبد الناصر فى لوحة النصب التذكارى بالسد العالى .. رغم أنه يعلم أن الشعب كله يعرف أنه لا علاقة له بالسد العالى .. وأن السد العالى هو مشروع ومعركة وألم عب الناصر .."(ص91)

ثم يفسر هذه الحالة بأنها " حالة سطو من ذات على ذات أخرى لأنه كان يبحث عن ذاته كما جاء فى عنوان كتابه .. أما حالة هذا المسجون .. وهؤلاء العظماء الثلاثة فهم يعبرون عن ذاتهم كما يرونها .. وأين .. ومتى .. فعلوا ذلك ؟.. عندما طردهم المجتمع وانفصلوا عنه مرغمين ووجدوا أنفسهم يعانون الوحدة والتجاهل وإعادة الاصلاح والتهذيب .. لقد عادوا إلى ذواتهم يناقشونها وصمت الوحدة يلفهم بالعذاب .. ومرارة التجاهل تكسوهم بالغيظ .. وراحوا يعيدون حساباتهم مع أنفسهم ومع الناس الذين تركوهم خارج هذه القضبان .. فاكتشف السجين أنه هو العظيم .. وأنه هو السليم .. فعمد إلى ذائقة أجداده الفراعنة وراح يسجل ذلك أقصد : راح ينقش ذلك فوق معبده .. أقصد : فوق جدران زنزانته".(ص91،92)

وهكذا يؤكد الكاتب تعاطفه مع هؤلاء المساجين الضائعين ، وهو يلتمس لهم العذر حين يبحث كل منهم عن ذاته التى افتقدها فى الخارج ، فى حين لا يغفر لرئيس الدولة بحثه عن ذاته ، بما أسماه السطو على ذات أخرى .. اللصوص ليسوا داخل الزنازين ، اللصوص فى الخارج أكثر وأشرس وأكثر قدرة على سرقة أى شئ ، وكل شئ ،والسرقة لا تقتصر على الأشياء ، بل قد تتسحب على الأدوار ، وما صنعه السادات مع عبد الناصر صنعه حسنى مبارك مع سعد الدين الشاذلى حين أزال صورته واستأثر بمكانه ليكون هو البطل الأوحد . وكاتى بالكاتب يؤكد على أن رؤساءنا أولى الناس بالسجن من غيرهم ، وقد تحققت هذه النبوءة حين سجن رئيسان مصريان متتاليان مع أذنابهما وأشياعهما.وكما كانت رواية " البلاد وأشلاء العباد " رثاء لمصر وما يجرى فيها ، كذلك تلتقى معها رواية " لست أنا .. لكنه اسمى " إنها أيضا تعزف على وتر الرثاء لبلد يمكن أن يحدث فيه أى شئ وكما يقول الراوى :
" أنت يمكنك أن تتصور أى شئ فى مصر .. لأنه لا توجد قاعدة لأى شئ فى مصر .. القاعدة هى الاجتهاد .. والفهلوة .. وأن تبعد عن الحب وتغنى له .. وأنت من خلال إغراقك فى هذه المعطيات فسوف تكون معرضا لأحد نقيضين : إما الأذى الشديد .. أو الحظ الشديد ..وحتى تنول هذا الحظ فأنت بحاجة إلى خوانكى يحرك الأحجار من أجلك .. خوانكى يحس بك ويراهن على براءتك ويحرك الناس لتحقيقها لن يسعى إليك الحظ بحكم النظم واللوائح .. وأن تكون قد نلت المهانة والهوان ذلك هو الشئ الأكيد إن لم يساندك الحظ .. ولو كنت واحدا مما يتساءلون : أين حقوق الإنسان ؟.. فإعلم أن الإجابة هى : ( حتى نكون جميعا متمتعين بحقوق الإنسان فى مصر يجب أن يكون هناك خوانكى .. لكل مواطن ).(ص98)

وهكذا ينتقل أحمد ماضى من الهم الخاص إلى الانشغال بالهم العام ، بقضايا مصرية تشغل بال الناس وتقض مضاجعهم بسبب انتشار الفساد فى البلاد ، ولعله بسبب ذلك وجد أن المحجوزين خلف القضبان أكثر التزاما بالمبادئ والقيم والشرف ،ربما أكثر من هؤلاء الذين يطلقون عليهم ألفاظ البكوات والباشوات ممن يتمتعون بكامل حريتهم فى سلب حقوق المحجوزين خلف القضبان ، وانها لمفارقة محزنة.

ومن الملاحظ أيضا أن هؤلاء الضائعين ليست لهم أسماء ، لأنهم يشبهون بعضهم ، ويصعب أن يتميز أحدهم عن الآخر ، هم بلا أسماء وبلا ملامح ، الملمح الوحيد الذى يجمع بينهم هو تلك الجلاليب الزرقاء التى يرتدونها علامة الفقر والعوز ، وتلك اللغة السوقية التى يتحدثون بها ولا يعرفون كيف يتجملون لأنهم ضحية مجتمع ألقى بهم فى الأزقة والشوارع لتتولى تربيتهم ، ولعل الكاتب قد اختصر أسماءهم فى اسم واحد هو " جرادة " ، هم جميعا يتماهون مع هذا الاسم ، وكما ان الجرادة تهيم على وجهها فى الآفاق مع قريناتها من فصيلة الجراد لا تعرف لها مأوى ، ولا تجد من يبحث عنها إلا ليبيدها ، فكذلك هؤلاء الضائعون ، كتب عليهم أن يظلوا مشردين هائمين على وجوههم فى الأزقة وفى الشوارع وتحت الكبارى فكلهم " جرادة " . 

الوطن / السجن :

كان اهتمام الراوى مركزا بعد دخوله غرفة الحجز على معرفة من هو بلطجى السجن ، هذا البلطجى الذى يمارس سطوته على الخائفين من حوله ، وهو يجد منهم كل الاستجابة لأنه لم يجد من يعارضه ويحاسبه على هذه الزعامة التى فرضها بسفالته على الآخرين ... غير أن هذه الفكرة تذهب به إلى أبعد من ذلك حين يربط فى صورة تشبيهية بين السجن وبين الوطن ؛ إذ الأخير ليس إلا صورة مكبرة من الأول ، وفى خضم بحثه عن بلطجى السجن نجده يقول :
" إنه لا يعقل أن تكون فى مصر زنزانة بلا بلطجى .. يفرض رأيه .. ويفرض الإتاوات .. وتكون كلمته هى العليا .. يكون هذا البلطجى هو السيد ومن حوله هم الخدم .. يكون هو المخيف .. ومن حوله هم الخائفون .. يكون هو المهيمن ومن حوله مجرد أشباح ينفذون أوامره .. ألا يجب أن تكون الزنزانة صورة مصغرة للمجتمع ؟!!"(ص36)
وهكذا ينفذ المؤلف من أزمته الخاصة إلى أزمة الوطن ، الوطن الذى أصبح رهينة لحفنة من البلطجية وصفهم المؤلف بـ الأوغاد فى رواية " البلاد وأشلاء العباد".

الوطن الذى أصبح صورة مكبرة لغرفة الحجز التى احتوت على مجموعة من المشردين الضائعين ، وكما أنه من المعتاد أن يتولى أمر السجن بلطجى يسيطر ويتحكم ويصدر الأوامر ، فكذلك الوطن يقوم على أمره بلطجى كبير يفرض رأيه ، ويفرض الإتاوات ، يكون هو السيد ومن حوله خدم ، ومن خلال هذه الصورة التشبيهية يعرى الكاتب مأساة الوطن الذى أصبح سجنا يتربع على عرشه بلطجى كبير ، يعين حوله مجموعة من البلاطجة يديرون أمر البلاد ، وهذه هى الصورة التى اهتم الكاتب بتجسيدها فى معظم رواياته ، ولعل رواية " البلاد وأشلاء العباد " تكون هى التجسيد الأكبر لهذه الأفكار ، ولعل الكاتب هنا يلتقى مع ما ذهب إليه أحمد عبد المعطى حجازى فى قوله :
" أقسى السجون وأمرها ، تلك التى لا جدران لها "

وكذلك قوله :
" والسجن ليس دائما سورا ، وبابا من حديد
فقد يكون واسعا بلا حدود
كالليل .. كالتيه
نظل نعدو فى فيافيه
حتى يصيبنا الهمود"
فإذا ذكرنا أن الكاتب قد انتهى من كتابة روايته تلك سنة 2002 أدركنا أنه كان يعكس ذات الهموم التى بثها فى رواية " البلاد وأشلاء العباد " ولعل رسوخ دولة الفساد فى عصر مبارك كان حافزا للكتابة فى هذا الموضوع وذلك فى معظم روايات أحمد ماضى باعتباره شاهدا على هذه المرحلة من تاريخ مصر .

وحين طفق الكاتب يراقب سلوك نزلاء السجن ، لم يجد فرقا كبيرا بينهم وبين سلوك من هم خارج الأسوار ، بل " إنها نفس الأدوار التى يلعبها البشر فى الخارج .. البواطن شئ والظواهر شئ مخالف .. إنه الخوف الحقيقى الذى يتولد من خوف مفترض .. إنها الزعامة الزائفة التى تعلو فوق قلوب مرتعشة .. إنها الرهبة من أشخاص طيبين لأننا لم نحاول أن نضع أيدينا على مدى طيبتهم .. إنه التأليه لأناس تافهين لأننا لم نحاول أن نتبين إلى أى حد هم تافهون.." (ص37)

تعاطف الراوى مع شخصياته :

ويلاحظ أن الشعور العام الذى يحسه الراوى تجاه الضائعين وراء الأسوار، ليس هو إدانتهم رغم تورطهم فى قضايا مخلة بالشرف ، لكنه بدلا من ذلك يتعاطف معهم ، وإن كان لا يبرر مسلكهم ، إلا أنه - على الأقل – يتفهم الدوافع الاجتماعية التى ألجأتهم إلى هذا الوضع ، ومن ثم فإنه لا يتحامل عليهم قدر ما يتعاطف معهم ... فحين يبدو " جرادة " حريصا على خشوع الصلاة ثم يسب الدين ، لا يفسر ذلك على أنه تناقض ، إذ يقول مبررا :" جرادة لم يأت بفجوة بين ما يقوله وما يفعله ، فهو لا يقول إلا ما جُبل على قوله .. فالسباب لازمة من لزمات الحديث عنده .. لم يتعلم غير هذه الطريقة التى يخاطب بها الناس .. لقد فهمت ذلك منذ أن قال لى آمرا .. " اتزحزح شوية " .. هو لم يتعلم كلمة " من فضلك اتزحزح شوية " أو " لو سمحت اتزحزح شوية " لو قال ذلك فسوف يحس هو نفسه أنه ثقيل الدم .. وأن هذا الكلام الناعم لا يليق بشخص مثله .. فهو لا يعرف سوى الخشونة يأخذها ويعطيها .. لا يعرف سوى السباب .. يأخذه ويعطيه .. لا يعرف سوى المشارط والسكاكين يتلقاها فى وجهه ويلقيها فى وجه الآخرين .. فكيف له أن يتجمل وهو لم يقابل الجمال .. وكيف له أن يزيف طريقته وهو الذى مل من كثرة الزيف الذى يحيط به .. ؟ ولكن من المؤكد أن حرصه على وجوب استتباب الخشوع أثناء الصلاة شئ يحس به فى داخله ويجب أن يعمل على تحقيقه ...أيضا بطريقته ... قلت لنفسى .. جرادة مش وحش .. جرادة يفعل ما يحب وباقتناع .. جرادة واحد مش مزيف"(ص64)

ويذهب الراوى إلى أبعد من ذلك ، حين يرى أن اللصوص القابعين خلف الأسوار أشرف بكثير من هؤلاء البكوات والبشوات الذين يتبوءون أعلى المناصب فى الدولة ويمارسون أبشع جرائم السرقة ،ومع هذا يتباهون بأنفسهم ، ويرتدون أقنعة تخفى حقيقتهم ، لأنهم أجبن من أن يعلنوا عن حقيقتهم ، تلك الحقيقة التى لا يتردد السجين من إعلانها ، يقول أحمد ماضى معلقا على اللص السجين :

" إذن أنا أمام حالة إبداع ... إنسان يبدع فى مهنته ويخلص لها ... الفرق بينه وبين البكوات والبشوات أنه يسمى الأشياء بأسمائها ويقول عن نفسه إنه لص ... ويضع فى حسابه أنه يسلك الطريق الذى لا يستطيع أن يسلك غيره ... أى لا يتوارى فى مهنة معلنة ويمارس مهنة أخرى غير معلنة ... مثل الذين يغسلون أموالهم التى أتوا بها من أعمال غير شريفة فيعملون بها – شكلا – فى أعمال شريفة ... وهم يعلمون أنهم يزاحمون الشرفاء ويضيقون عليهم الخناق ... فيحطمون أسعار بنود المقاولات ... إذا راق لهم أن يغسلوا بها أموالهم ... ويحطمون أسعار السلع إذا تاجروا فى السلع ... فيتاجرون فى السيارات نهارا ... وفى الحشيش ليلا ..."(ص56)

الراوى إذن يرى أن من يقبعون خلف الجدران لا يشبهون فقط من هم خارج الأسوار ، بل لعلهم أفضل منهم ، وأقل إجراما عنهم ، وأكثر تمسكا بالمبادئ، ... وها هو اللص المتخصص فى سرقة الشقق والفيلات يبدى استعداده لأن يظل نزيل السجن على أن يعمل مع المباحث مرشدا على زملائه (ص58) ، ويترك الراوى الفرصة للص لكى يفضى عن مكنون نفسه ، مبرزا ما تنطوى عليه هذه النفس من قيم شريفة حتى وهو يمارس مهنته غير الشريفة ، يقول الراوى على لسان اللص : 

" يجب ألا تظنوا أيها الناس أن اللص الموغل فى اللصوصية يحمل نفسا خالية من بعض ما عندكم من مزايا لا يحملها اللصوص .. بالعكس .. فكثيرا ما تركت النقود القليلة لأصحاب المنزل الذى أسرقه لثقتى وخبرتى أنهم لا يملكون غيرها .. كثيرا ما استجبت لحاستى التى تقول لى : " حرام عليك .. يمكن دى فلوس دوا .. وانت شايف الكوميدينو جنب السرير مليان علب دوا .. أكيد البيت دا فى واحد مريض .. حرام عليك .. سيب لهم فلوسهم .. وأخرج وأنا غير نادم أن حصيلتى الليلة : صفر .. ولكن الراحة التى تداخلنى مع انسحابى الفاشل لا تعادلها راحة .."(ص59)

ولا ينسى الراوى أن يعلق على هذا الموقف حرصا منه على اظهار النقط البيضاء الكامنة فى نفوس هؤلاء البؤساء . يقول :
" إنها النقط البيضاء المضيئة داخل كل نفس معتمة بالضياع والتشرد .. النقط التى يروق لصاحب النفس الضائعة أن يجرب الارتماء فى أحضانها ليتذوق طعم الرحمة والحنان .. إنه يجرب هذا النوع من العطاء الجميل الذى حرم من تناوله .. حرم من أن يستمتع به وهو يتلقاه من الآخرين .. وهو الآن لا يتعشم أن يتلقاه بعد أن امتلأت الأوراق والوثائق فى كافة أقسام الشرطة بأنه مسجل خطر "(ص59)
وتعاطف الراوى ينسحب من جرادة إلى كل رفاقه من الضائعين فى الزحام وبدلا من ان يشير إليهم بإصبع الاتهام ، يشير بهذا الاصبع إلى الدولة ومسئوليها ، بل إلى المجتمع بأسره ، يقول :
" لقد وجدت أننا فى عز الغفوة التى تأخذ بتلابيبنا تركنا خلفنا حقيقة مفزعة لا يلتفت إليها أحد ..حقيقة الاطفال المشردين .. الأطفال البؤساء الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم .. ويطولهم النمو فى عز تشردهم فيتحولون إلى صبية متمردين ثم شباب خطرين فرجال يمارسون الإرهاب .. ومن المؤسف أننا لم ننجح فى رصد هذه الحقيقة التى ربما وصلت إلى المسئولين وهم يسترخون على كراسيهم الوثيرة فى مكاتبهم المكيفة وعلى متن تقارير من منظمة العمل الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة .. الحقيقة التى نسوها وهم يستعدون لإقامة حفل عيد الطفولة الرائق الذى سيبثه التلفزيون والذى اختاروا له نماذج مختارة من أطفال جاردن سيتى والمعادى ومصر الجديدة .. أطفال ينضح العز فى وجناتهم والسمنة فى أجسامهم .. وتلمع النعمة من أفواههم ..تلك هى النماذج المعروضة التى تغنى وترقص وتلتقط الصور مع ماما سوزان.. ولو كان لدى هؤلاء المسئولين بقية من خجل وبعض الكرامة لأفصحوا لراعية أطفال مصر عن العار المختبئ فى قلوبهم عن حقيقة هؤلاء الأطفال .. الحقيقة التى تعمدوا ألا يفصحوا عنها .. إنهم يقدمون ما يروق لهم وليس ما يجب أن تراه هى .. إنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون أنهم يوارون جريمة كبرى تتفاقم يوما بعد يوم .. فهذا هو طفل مشرد يقف مشدوها أمام تليفزيون أحد المقاهى ينظر باستغراب إلى هؤلاء الأطفال السمان الذين يرقصون فى ملابسهم الخلابة .. ويتساءل بينه وبين نفسه .. هل هؤلاء مصريون ؟ .. ولن تأتيه إجابة قبل أن يطرده صاحب المقهى قرفا من شكله الصدئ .. ووجهه الملئ بالذباب .. وينصرف المسكين باحثا لنفسه عن نومة مستورة فى سيارة مهجورة أو ركن مستتر فى شارع هادئ .. ففى تلك العربة .. وذلك الركن .. سينمو شخص جديد .. وتتخلق نفس جديدة .. ويضاف إلى موكب الضائعين .. جرادة جديدة."(ص66،67)

وهكذا أشار أحمد ماضى منذ وقت مبكر إلى الظاهرة التى تفاقمت فيما بعد وعرقت باسم "أطفال الشوارع "الذين تحولوا تحت إلحاح الحاجة إلى قنابل موقوتة وجهت إلى قلوبنا حين استغل حاجتهم المتاجرون بالدين ، ولقد رأينا جميعا ماذا فعل هؤلاء الأطفال من تخريب وتدمير أثناء ثورتى 25 يناير & 30 يونيو ، وكيف أن المسئولين يحاولون بشتى الطرق إخفاء هذه الجريمة ، وبدلا من الاعتراف بها ومواجهتها ، تجدهم يموهون عليها ، ويقدمون لنا واقعا زائفا ومزورا .

إن هذه الرواية ليست سوى حلقة فى سلسلة مشروع أحمد ماضى الروائي، وهو لا يقول من ورائها – مثل أى أديب كبير – إلا كلمة واحدة ؛ مصر لا تستحق عبث أبنائها بها ، هى بحاجة إلى حدبهم وعطفهم واخلاصهم لتتخلص من كبوتها ، وتستعيد مجدها وزهوها .

وهذا يجعلنى أستعيد ما قلته أثناء تحليلى لرواية " البلاد واشلاء العباد " ، لأنه يقترب كثيرا من الآفاق التى يحلق فيها الراوى فى روايته تلك :
" وما إن تصل إلى نهاية الرواية حتى تشعر بضيق فى التنفس وارتفاع فى ضغط الدم على هذا الخراب الذى حل بوادى النيل ، وحين ترى النحالين يزدادون ويتناثرون فى أرجاء مصر المخروبة يعيثون فيها نهبا وسطوا .. أكرر متحسرا مرة أخرى مع صلاح عبد الصبور :

عبثُ ، والأيام تَجِدْ
لا أدرى ، كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السفلة والأوغاد.

لكن مهارة الكاتب تتجلى – فيما تتجلى – فى كونه رسم شخصيات تعيش وتتنفس بيننا ، ونحن نصطدم بهم فى شوارعنا ، ونبصق على وجوههم ، إذا أطلوا علينا عبر الشاشات فى شخصية السيد النحال ، تحيلنا منذ البدء على شخصية برلمانية مشهورة ، والقارئ يتتبع مسيرة الشخصية الروائية ، ويقارن بينها وبين الشخصية الحقيقية الموازية لها من الواقع ، ولئن ساوره الشك فى بعض الأحيان إن كانت الشخصية الروائية هى ذاتها الشخصية الحقيقية ، إلا ان هذا الشك يزول تماما عندما طرح رأفت إبراهيم أسئلته فى مدونته قائلا :

هل يمكنكم قياس مساحة الجيوب التى يملكها النائب المحترم السيد النحال ؟ يقولون إنها جيوب تتسع للمكاسب الصغيرة ، أربعون ألفا تضمن بها مكانا لولدك فى كلية الشرطة أو الكلية الحربية ، والمكاسب الكبيرة مليونا جنيه تضمن بها مقعدا فى مجلس الشعب ".

عند هذا الحد يعود يقينك إليك ، لتثق ان هذه الشخصية الورقية هى نفسها الشخصية الحقيقية التى كنت تراها تختال بخستها ووقاحتها وفظاظتها تحت قبة البرلمان ، على شاشة التلفاز .لكن المهم هو أن شخصية السيد النحال لا يمكن أن تنحصر فى شخصية واحدة ووحيدة تعرفها ، ففى عصور الفساد يكثر النحالون ، وتتماهى وجوههم ، وتتشابك مصالحهم ، حتى ليختلط علينا الأمر فى بعض الأحيان ، ونحتار فى تمييز وجه نحالى عن وجه آخر ، فالسحن متشابهة ، والأخلاق واحدة ، والأهداف محددة ، ناهيك عن أن المنشأ واحد ، هو حظائر البهائم ."
ولعل هذا يصلح مدخلا للولوج الى عالم الرواية الشجرة ؛ رواية"البلاد وأشلاء العباد"*
ولتكن البداية بالحديث عن الكيفية التى صور بها الروائي شخصية السيد النحال باعتباره النموذج المثالى فى الفساد ،مقترنا بشقيقه فى الفساد أميرالنحال 

السيد النحال / أمير النحال


حين أشار المفتش الانجليزى إلى الريس عبد المحسن أن يصطحب ابنه عباس ليعمل فى الحدائق منسقا للزهور ، وذلك كهدية له بمناسبة زواجه ، اقترح عبد المحسن عملا بديلا فى حظيرة المواشى ، الأمر الذى يجعل المترجم يبتسم ساخرا وقائلا :
" تختار لو0لدك " الجلة " بديلا عن الزهور .. هل هذا معقول ياحاج " (ص 1).

وعندما تسلم عباس عمله لأول مرة ، سأل أحد العمال عن عدد الأبقار والجواميس الموجودة باسطبل المحطة – عندما أدهشه كثرتها ، فرد عليه العامل قائلا :
" خمسمائة ... وبعد وصولك اليوم صار عددها خمسمائة وواحد ".
فما دمت وافقت أن تعمل هنا كلافا بدلا من " جناينى " فأنت لا مؤاخذة .. فأنت جاموسة " )ص2( .

ولكى يستطيع عباس النحال أن ينهض بأعباء الأسرة التى بلغ عدد أبنائها عشرة لجأ إلى سرقة شكاير القمح ، غير أن ناظر العزبة يضبطه ويوسعه ضربا ، هذا هو عباس عبد المحسن إبراهيم النحال والمتزوج من أرنبة بشرية اسمها أم الخير إبراهيم الدسوقى التى أنجبت له عشرة أولاد أحدهم السيد عباس النحال. )ص 3(

وفضائح عباس النحال ومخازيه كثيرة ، فهو الذى ضبطه ولده بدير وهو يتسول أمام أحد مساجد المدينة ملثما ، غير أن الولد ينزع عنه الشال الذى تلثم به وراح يسوقه أمامه فى قسوة .)ص6(

سجل السيد النحال فى ذاكرة القرية : قوة ساعده ، قوة عقله ، قوة عاطفته ، وذلك رغم أنه تلميذ خائب فى مدرسته ، وكان مؤهلا لكى يصبح مثل أخيه الأكبر بدير حين أصبح صائعا كبيرا بعد أن هجر مدرسته .. ويدرك اساتذته سر شططه حين يشخصون حاله :
"ولد أخوته عشرة أولاد .. أبوه كلاف بهائم .. يعانى من تمزق .. لا يملك إلا بنطلونا واحدا وقميصا يتيما ".)ص11(

وكانت المهنة الأولى التى امتهنها السيد النحال هى دلال بهائم : وهو الذى يساعد التاجر على بيع بهائمه. )ص11(


وقد قاده إلى هذه المهنة صديقه فتيان حين تقاضى نصف جنيه لقاء جهده الذى بذله معه فى بيع إحدى الأبقار، وهكذا عمل السيد النحال كدلال حصاد يلتقط رزقه يوما بيوم. )ص12( ، وحين يقرر العدول عن هذه المهنة يولى وجهه شطر أماكن تجمعات الصنايعية : النجارين ، والحدادين ، وفى الوقت الذى عمل فيه حدادا مسلحا كان أخوه بدير قد تورط فى تجارة الحشيش (ص15) لكنه سرعان ما ينضم إليه بتحريض من والده . وإلى فضائح أبناء النحال لحقت فضيحة جديدة ، وذلك حين لفق السيد النحال بمساعدة أحد المخبرين من خربى الذمم لجوهر البقال تهمة الاتجار فى الحشيش )ص 25&26( ثم هو يسطو على ثروة فتيان وذلك حين يستولى على الخمسمائة جنيه التى يملكها بحجة إقامة مشروع لتربية الأرانب ، ثم آخر فى تجارة الأثاث. )ص 32&33(

وقد ارهص أحد اساتذة السيد النحال بأن بداخل الاخير فنانا وعالما ومتشردا ، وتنبأ بأن المتشرد هو الذى سينتصر )ص 34( وهو يتحرش بخميسة عفيفى حين يضرب موعدا معها عند نخل الهنادوة فيغدر بها وذلك حين تجاهل شرطها حين وافقت على هذا اللقاء ، وكان الشرط هو أن يكون لقاء بين رجلين )ص37( وهو لا يتورع بعد ذلك أن يستخدم خميسة- التى أوهمها بحبه – ساترا يزاول من ورائه نشاطه فى تجارة المخدرات )ص 57 (، وعندما يسأله أخوه بدير إن كانت خميسة تدرك شيئا عن هذه الشراكة ؟ يقول : " هى كالحمار الذى يحمل الأسفار ..لا تعلم ما ستأخذه من عنتر مكاوى مندوبى إليها ، ولا تعلم ماسوف تأخذه أنت منها .." )ص 59(

ويبدو أن التظاهر الممزوج بالكذب أصبح سمة أبناء النحال ، وها هو أمير يعلم أن ملابسه الجديدة التى منحه إياها أخوه السيد النحال – يعلم أنها مشتراة من اموال تجارة المخدرات ، لكنه يتظاهر أمام زملائه بأنه قابل أباه ومعه سائقه .. وقد قام الرجل بالواجب )ص 61( ، وأمير نفسه لا يفتأ يلح ويكرر امام زملائه أن أباه من أصحاب الأملاك ، وأنه " يقيم فى العزبة .. وعاشق للخيول والأزهار وتدخين السيجار " بعد أن طلق السياسة )ص 61( ، وهذا الخيال الجامح هو الذى لفت نظر أحد الكبار فى مبنى مباحث أمن الدولة ، وأشار بأن شخصا مثل أمير هذا لا ينبغى التفريط فيه ، بل يجب الاستفادة منه بتجنيده لخدمة أغراض مباحث أمن الدولة )ص 64 (وها هو أمير يقبل أن يقدم هذه الخدمة شاكرا وممتنا :
" اعتبرونى من الأن خادما عندكم ، ومنفذا لكل توجيهاتكم .. ولن يخيب ظنكم فى أبدا .. ياباشا" )ص 66(
________________________________________
*أحمد ماضي:البلاد واشلاء العباد،مكتبة دار الشروق الدولية،2010.سنشيرفيما بعدالي رقم الصفحة من الرواية فى المتن.
ويطلب السيد النحال من خميسة أن تعطى " فتيان " عنوانه الخطأ بقصد تضليله فتشير عليه بأن يعطيه العنوان الصحيح أو يتخلى عن ذلك ، لكنه يتعلل بأن " الخطوط المنحنية تكون هى الأفضل " )ص 70( وهكذا فإن الخطوط المستقيمة لا توصل إلى الأهداف فى عرف آل النحال.

***

ولئن كان السيد النحال يروج الحشيش عند آل فوزية ( خطيبة طاهر إسماعيل) فى عين شمس، وبواسطة خميس فى البلد ، فقد تبين ان أمير يروج نفسه عند فوزية ، ولم يزجره عن ذلك أنها خطيبة صديقه ، لكن يبدو أنها راقت له ففكر فى اصطيادها كما اعتاد اصطياد أى شئ.

وها هو يتطفل على سرب البنات السابحات ومنهن فوزية التى كاد أن يأكلها بعينيه ، وبدلا من أن يرافق طاهر فى جلسة تحت الشمسية يهرع إلى الفتيات يلهو معهن غير مكترث بمشاعر صديقه (ص 90 )ولئن كان أمير النحال حريصا على الفوز بقلب فوزية ، فإن السيد النحال هو الآخر لم يكن أقل حرصا من أخيه ، ثمة صراع صامت بينهما على الفوز بهذا القلب ، شجعهما على ذلك رقة فوزية وعذوبتها من ناحية ، وهشاشة القبضة التى تمسك بها ، قبضة طاهر زين الدين من ناحية أخرى (ص 91).

وفى الوقت الذى كان فيه السيد النحال مشغولا بالظفر بفوزية ، فإنه كان يلعب ويتلاعب بمصير خميسة التى هرعت إليه فى مصر هاربة من المصير الأسود بأعجوبة حين هاجمها البوليس ولم يبدُ مشغولا بالمصير الذى كان ينتظر خميسة ، قدر انشغاله على كمية الحشيش الضائعة ، غير أن خميسة تواجهه بحقيقته البشعة حين تقول له :
" جوهر البقال نال على يدك ثلاث سنوات من السجن عن ثلاث قطع فى حجم عقلة الاصبع ، وأبى قد يحكم عليه بالسجن المؤبد .. ألا تحمل هما لذلك ؟ أليست لديك رحمة ؟ أهكذا تلقى بى إلى الهلاك أنا وأبى .. من أى طينة أنت مخلوق ؟" (ص 94)
ورغم كل هذه السوءات الإنسانية التى تقرب جدا بين صاحبها والشيطان ، إلا أنه لا يخجل من أن يقدم نفسه فى بطاقته على أنه شاعر ، وها هو فى لحظة فراقه لخميسة بعد انتهاء مقابلتها له فى القاهرة يخرج بطاقة صغيرة من جيبه قدمها إليها : 

"السيد عباس .. شاعر ..
هذا تليفون عملى
شاعر؟ تكتب فى بطاقتك شاعر ؟
ألديك شك فى ذلك ؟
لكن الناس تكتب وظائفها.. ولا تكتب هوايتها
فى هذه الحالة يجب أن أكتب : حرامى .. مجرم .. حشاش .. هل هذا ما تقصدينه (ص99).

وكأنه بهذا قد ضاق بهروبه من نفسه ، ومن تماديه فى الكذب والبهتان فواجه نفسه بحقيقته لعله يظفر بلحظة صدق يداوى بها جراحه الغائرة.
ولئن كان أمير النحال قد برع فى كتابة التقارير عن المجتمع الطلابى وعن زملائه وأساتذته وأودى ببعضهم إلى المصير المجهول، فإنه لم يتورع عن الإفشاء بمكان شقيقه لقاء عشرين جنيها منحها إياه فتيان وهو يبحث عن السيد النحال الذى اقترض منه الأخير مبلغ خمسمائة جنيه وأوهمه أنه سيعمل بها فى تجارة الموبيليا ثم اختفى .
أمير النحال يقبض رشوة مقدارها عشرون جنيها ليدل على مكان السيد النحال الهارب من سداد الدين : أى نوع من البشر هؤلاء ؟ لا يملك المرء إلا أن يتساءل مندهشا .

***

وحين تصطحبه السيدة مارى مديرة الفندق إلى صديقتها حكمت وبشاير تستيقظ فيه حاسته الانتهازية محرضا الأولى أن تنصح صديقتها بأهمية استغلال الأرض المحيطة بالفيلا ويبدأ فى رمى شباكه حول المرأتين. وبسرعة يعقد لقاء برجله عنتر مكاوى يستعين به فى تدبير مؤجر لقطعة الأرض الذى ستؤل إليه بعد شرائها ، ويدله رجله على السيد فايز فودة ، ويدبر لقاء معه يبدأ السيد النحال تحيته بقطعة من الحشيش فى حجم علبة الكبريت ، وحين يخلو السيد فودة بالسيد النحال يحيطه علما بالرجل المطلوب ، وفى خلال يومين يكون فايز فودة قد جمع بين السيد النحال وحشمت بركات شقيق أشرف بركات أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ، ويدله فايز فودة على الطريقة التى يمكن أن يرضى بها حشمت بركات ، وفى اليوم المشهود يبدأ السيد النحال تحيته بقطعة كبيرة من الحشيش تدور إثرها الأحجار الكريمة التى تميل الرؤس وذلك بالإضافة إلى زجاجات الخمر المعتقة التى تحيط بها الكؤوس الرشيقة . وفى هذه الجلسة أشار بركات إلى نائبه ممتاز إبراهيم أن يرافق السيد النحال لمعاينة الأرض المستأجرة جراجا لسيارات المؤسسة (ص122).

ولم يتورع السيد النحال عن سرقة فوزية خطيبة صديقه طاهر زين الدين وحاول اقناعها مشاركته فى محل كوافير بعد ما شاهد بنفسه عشيقات حشمت بك يدفعن مبالغ طائلة فى كل تسريحة فى مختلف المحلات حيث يذهب لاصطحابهم إلى أوكار حشمت بركات .. أضف إلى هذا أن السيد النحال كان يمارس مهمة القواد والتخديم على ليالى حشمت بركات . (ص 138)

وحين حاول السيد النحال أن يرمى شباكه حول خميسة ليفوز بها طاف بخيال الأخيرة ما كان يردده أهل البلد من أن أبناء النحال لا يحلو لهم إلا خطف ما فى أيدى الناس ، واعتبرت أن ما يحيطها ليس عرسا بقدر ما هو خطف ناعم لزوجة بالمجان ، وهى لا تفكر أنها استجابت لهذا الخطف بخاطرها بعد أن لمست فى حياة أمير الحدأة تحوم حول كتكوت آخر اسمه فوزية " (ص139) ومن المؤكد أن صراعا عنيفا قد دار فى نفس خميسة قبل أن تصل إلى هذا القرار لاسيما انها تعلم أن عائلة والدها الريس عفيفى قد انهارت بلمسة من لمسات أبناء النحال (ص 141)

ويصل الأمر بفوزية إلى الاقتناع بشراكة السيد النحال ، ولم تفلح محاولات طاهر زين الدين لإثنائها عن هذه المشاركة وقال لها :
" السيد النحال ليس هو الرجل الذى يمكن أن يشاركه أحد فى حلم السعادة ..فهو يسرق كل شئ حتى الأحلام "(ص150).
وبمرونة يحسد عليها استطاع السيد النحال ان ينتقل بين منزل مجهول العنوان وبه زوجته خميسة .. وبين صالون فوزية التى تتفنن فى إبراز محاسنها الأنثوية إمعانا فى الكيد من خميسة ، لكن سيد كان يدرك بحدسه المدرب قرب وقوع أول اشتباك بينهما ، بل لعله يستعجله استثمارا لنتائجه (ص 153).

فالسيد النحال ينظر بعين الصقر إلى ما يحدث حوله ، فهو يعرف متى وأين ينقض ليضع فرائسه فى صفه " قد جبل على تحويل كل شئ لصالحه من مواقف وبشر : فتيان ، عنتر مكاوى ، خميسة ، مارى ، حكمت ، بشاير ، فايز فودة ، حشمت بركات .. حتى العظماء الخمسة أتى بهم بصدفة لم ينتظرها عندما قضى ليلتين فى السجن على يد فتيان " (ص 166).

وكما جذب السيد النحال هؤلاء وعرف كيف يستفيد منهم فى مشواره ، فها هو يفكر فى الاستفادة من حلمى عبد الباقى ، المثقف البارع فى تحليل المواقف والسياسات ، ولئن كان السيد النحال قد استطاع أن يجتذب إليه حشمت بركات وشلته بالحشيش والسخافة ، فإنه ينوى أن ينقض على حلمى عبد الباقى من باب الفكر والثقافة ، وكما قرر أن يكون حشاشا مع الحشاشين ، فقد قرر أن يكون مثقفا مع المثقفين ، وهكذا يقرر أن يعود لحبه القديم .. القراءة والمتابعة حتى يصبح ندا لحلمى عبد الباقى فى مناقشاته وتحليلاته. (ص 166،167)

يتوجه السيد النحال إلى السيدة مارى لكى تفتح أمامه الطريق للتفاوض مع السيدتين : حكمت وبشائر صاحبتى الأرض وأخذ فى طرح عروض بعد إلقاء الطعم للسمك الجائع ، واستطاع بدهائه أن يحصل منهما على موافقة بتأجير الأرض لقاء خمس الربح ، مع احتفاظه بالدور العلوى من الفيلا كمكتب للادارة وبمساعدة محامى ضليع حصل على صيغة توكيل تمكنه من هدفه الحقيقى وهو اطلاق يده فى التصرف فى الارض (ص 127).

وكان له ما أراد بأن المرأتين قد توفيتا بتأثير السم البطئ الذى دأبت فوزية على دسه لهما فى الطعام .
وها هو ينقض فى قفزة تالية على ذهب الاميرات ،وذلك حين يستغل فوزية أثناء تأديتها لمهمتها فى استعارة مجوهرات الأميرات لسيدتها وكان يقوم هو مستغلا مغافلة فوزية بالاستيلاء على المجوهرات الحقيقية واستبدالها بمجوهرات زائفة (ص 255).

***

بينما يعد السيد النحال نفسه الى السفر إلى اليونان ليتاجر فى الذهب المسروق فاجأته فوزية بقولها "انا حامل" فحذرها بإفشاء هذا السر واعترف لها أنه عقيم وأنه يمكن لحشمت بركات أن يقتلها لو عرف ذلك ليوارى جريمته (ص 257).
ولئن كان النحال سينتقل معه الذهب المسروق فى رحلة ذهاب إلى اليونان فإنه سينتقل معه الحشيش محشوا فى فراغات السيارة المرسيدس المشتراة باسم حشمت بركات فى رحلة العودة ،غير أن حشمت يطلعه أثناء العودة على خبر موت فوزية فيسأله السيد :
لماذا لم تبلغنى بهذا الخبر ونحن هناك؟
كيف أبلغك بخبر لن تصدقه فأنت سافرت إلى اليونان لتعالج نفسك من العقم، فى حين أن زوجتك ماتت فى عملية اجهاض حينما أبلغتنى بحملها عرفت أنك الأب غير الشرعى لجنينها فأجلستها فى منزل أهلها حتى أعود
قل حتى تتصرف فى مجوهراتك المسروقة (ص 261)

وفى حوار بين السيد النحال وشوكت بركات يعترف له الأخير بأنهما بالإضافة إلى أمير "مبدعون فى الوساخة " وذلك عندما نما إليه أن "أمير" تسبب فى انتحار نجيب أمين النجار عندما استولى على حقيبته المملوءة بأوراق البنكنوت (ص 266)

ومن الطبيعى أن يستثمر السيد النحال هزيمة يونيو، ففى الوقت الذى تحول فيه الجيش المصرى إلى أشلاء مبعثرة ،وتحولت الجيوش العربية إلى أشلاء هى الأخرى ،وبدأ مؤيدو عبد الناصر ينفضون عنه بعد النكسة وتداعياتها ،وتأكد السيد النحال أن كلاب الحراسة ليس شرطا أن تظل على وفائها لسيدها مدى الحياة ،إذ من حقها ان تبحث لنفسها عن سيد جديد بديلا عن القديم ، ضيق الرزق الذى بالكاد يطعم نفسه ، ثم رنا إلى مملكته الصاعدة ورجاله الخمسة وسادسهم عنتر مكاوى ، وفتاتين فر رحابه إحداهن زوجة وضعها فى إصبعه ، والأخرى يسعى لتثبيتها فى الإصبع الىخر ، ثم حكمت وبشاير اللتان استقرعلى التخلص منهما بسم بطئ ، ثم السيدة مارى التى يبحث لها عن ورطة وهو يأمل أن يساعده القدر بمثل ما ساعده فى الإطاحة بعدوين لم يستمرا طويلا فى منازلته ، فريد وطاهر زين الدين .

والسيد النحال على استعداد للتضحية بكل الذين يدورون فى فلكه من رجال ونساء ، وها هو يجمع عظماءه الخمسة ليستعين بهم فى معركته مع حلمى عبد الباقى ، الذى كان قد عزم على قتله، لكن فايز فودة يرفض أن يكون مسكنه ميدانا لإجرام السيد النحال ، ويدرك السيد بحاسته التآمرية أن الشرطة قادمة ففارق المكان وترك رجاله بزعم البحث عن المطلوب فى مكان آخر لكنه فى حقيقة الأمر كان يهرب من الشرطة التى أتت بالفعل وحشدت عنتر وكيمو بعد أن طلب منهما السيد النحال البقاء فى المكان وهو يعلم أن المكان غير آمن (ص 191)

ولئن كان السيد النحال قد خان عنتر وكيمو ، بتركهما طعاما لعربة الشرطة فإنه قد خان ثالثهما "كلة "عوذلك عندما أواه الأخير فى شقته ليبتعد عن عين الشرطة التى تجد فى البحث عنه ، فى الوقت الذي يسيل لعابه على زوجة صديقه ويقتحم غرفتها ويروادها عن نفسها ، غير انها ترده بعنف مهددة إياه بإنتقام كلة منه إن لم يغادر الشقة فى الصباح (ص196،197)

وإلى جانب كونه خائنا فهو جبان تقول له رسمية زوجة كيمو إثر اقتحام غرفتها :
" أخرج من غرفتى ، واخجل من نفسك وانت تسطو على شرف رجل آواك و يواجه الخطر من أجلك ،ومخلص لك ألا تعلم أين هو الآن ؟
لماذا لم تقدم خطابك بنفسك للرئيس؟ الآن عرفت أنك جبان ، لا تتصدى لمشاكلك بقدر ما تورط الناس بها (ص 197).
لكن السيد النحال لديه من الخبث والدهاء ما يمكنه من أن يقلب لصالحه المواقف التى ضده ، وها هو يوعز إلى "كلة "أن ما جرى بينه وبين زوجته لم يكن سوى اختبار لوفائها له ، وأنها قد نجحت فى الاختبار وبذلك يوظف الموقف لصالحه وصالحها (ص 199،200)

لكن غريزة الانتقام تتحرك فى نفس "كيمو" الذى راقت له فكرة رسمية وهى وجوب اطلاع حشمت بركات على موقفه وافشاء بعض المعلومات التى تضع السيد النحال فى مأزق (ص 200)
وتتضح رويدا رويدا ملامح هذا الداهية " السيد النحال " مما يجعل حشمت بركات يرسم له هذه الصورة مقدما اياها لأخيه أشرف :
" ولد ريفى يلعب بالبيضة والحجر .. ولد لا يمكن للمرء أن يستمر ساعة كاملة فى احتقاره فقبل مرور هذه الساعة يمكن لهذا الاحتقار أن ينقلب إلى اعجاب.. ولد يمكنه أن يقرأ ما تفكر فيه ثم يمنحك الوسيلة السهلة لقراءته ومع ذلك فهو عميق القرار لا يمكن للمرء أن يصل إلى قاعه إلا بحفارات لم يخترعها علم النفس حتى الآن ، ولد يتحول التراب إلى تبر بين يديه .. يكسب من كل شئ .. ويكسب كل شئ .. يتحالف مع الشيطان ، ويجيد استخدام رجاله كل فى موقعه ، اختار كل رجاله من المجرمين الموغلين فى الاجرام ، يعيد توظيفهم فى نوع من الاجرام الأنيق ، هو نفسه أنيق من أصل وضيع ،وضع سدا منيعا بينه وبين ماضيه وماضى أسرته فنسيها تماما .. مزاجه عال فى حب المأكل والملبس والمكيفات ، يغدق على من حوله بكرم ظاهر ثم يكتشف المكرم أنه وقع فى مأزق إطعام الفم مقابل استحياء العين ،ومع ذلك يستمر فى نيل هذا الكرم (ص 202).
****
وهو قادر أن يضع الكبارفى مأزق ، وها هو حشمت بركات يعترف لأخيه أشرف :
"لقد وضعنا هذا الكلب فى مأزق
أى مأزق
وبدأ حشمت فى سرد مواقف عديدة بدأها بأرض الزيتون وصاحبتيها حكمت وبشاير، ثم ما اكتشفه من دس سم الزرنيخ لهما ،ثم بقصة السيد وخميسة ،ثم السيدد وفوزية ،وحلمى عبد الباقي وخميسة، ثم تحرش السيد ورجاله بحلمى عبد الباقى، ثم بخطاب خطير كتبه النحال إلى الرئيس ،ثم ما جاء بداخل الخطاب من معلومات قد تفتح النار عليهما ".
وقد توجس أشرف بركات من هذا الولد، لذا نجده ينصح شقيقه قائلا :

" اسمع لا تتصل بهذا الولد ، ركز على موضوع الزرنيخ ، وابحث عن مثالبه الأخرى ، لن نتمكن منه إلا بحصاره ، ومن ناحيتى سوف ألحق بسامى شرف قبل أن يعرض الخطاب فى بوستة الرئيس ، وسأعرض أن أقوم بتسوية الأمر بنفسى بعيدا عن الرئيس ، وإلا سوف تصطدم بمتاعب فى الطريق (ص204).

وحتى يتجنب هذه المتاعب طلب أشرف من حشمت أن يحضر السيد النحال ويجبره على تقديم محضر مصالحة بينه وبين زوجته .. مما ينفى ادعاؤه بخيانتها له ومن ثم تبرئة حلمى .. ولا ينسى أشرف بركات أن يذكر السيد النحال – فى حوار بينهما – أنه يفضح نفسه بالباطل فيرد السيد :

لا تظلمنى ياباشا .. فكفى ما أنا فيه من عذاب .
لست معذبا .. بل أنت معذب .. تسعد بعذاب الآخرين وتعذيبهم .. أنت سيكوباتى .
تقصد سعادتك أننى معقد نفسيا.
وعدوانى .. وتكره المجتمع ، ولا تعرف الشفقة ولا الرحمة .. وتتنفس كذبا .. من هو أبوك الذى يفصل بدلة فى شارع عبد العزيز ؟ أبوك المسكين الكلاف الذى لا يملك إلا جلبابا واحدا ، إلى أى حد وصلت بك البجاحة أن تستخف بعقلى " (ص 206 ، 207) .

وفى حوار بين حشمت بركات وأخيه أشرف ، يصل الأخير إلى رأى فى تحليل شخصية النحال قائلا :
" هذا الذى تعتقد أنه صعلوك هو رجل مملوء بقدرات عالية .. العجيب أنه لا يعرفها ، لكنه لا يحس بها ، رجل يسلك طريقه فى الحياة بتناقض من يلعن الواقع ثم يستثمره ، يبحث عن المجهول ليجعله واقعا . كان بإمكان الشعر أن يشفيه ، ولكن الشعر لا يشفى الشياطين ."

وما الذى سيشفى هذا الشيطان ؟
السياسة .. المخاطرة .. والمقامرة أو السعى إلى الانتحار ، ثم مضى أشرف بركات فى تحليل شخصية أمير بعد أن اكتشفها :
" أمير هذا ليس سوى فقاعة نفسية تستحق التأمل ، فكلاهما جاء من بطن واحدة وينشدان هدفا واحدا كل بطريقته .. أمير غامض السلوك لكن صعوده ملحوظ وسريع الإيقاع : فهو المحاسب الصغير الذى تسبب فى طرد رئيس شركته ، ثم اعتلى كرسيا فى مجلس الإدارة ثمنا لبجاحته ، يلعب السياسة بإيقاع هادئ .. يجيد المداهنة والنفاق .. يشمخ فى موضع وينحنى فى موضع آخر، رأسمالى الآداء ، لكنه اشتراكى الصياح .. هو الشبل الحالى للأسد الذى سيكون .. شبل ينمو فى غابة أخذت فى النمو . يتوارى بأشجارها حتى تتفاجأ الحيوانات الأخرى بكونه صار ملكا عليها ، يهدى صديقاته لرئيسه الأدنئ .. نساؤه السخيات يفرشن أجسادهن لأصدقائه دون أن يتهمنه بالقوادة .. فهو قائد بالنهار وقواد فى الليل "هذان ( السيد وأمير ) ياحشمت يعزفان نفس النغمة على نفس الكمان .. هما شيطانا الزمن القادم " زمن ما بعد النكسة .. زمن المساومة على كل شئ بما فى ذلك الأرض والعرض " (ص 210 ، 211)

ولإيمان أشرف بأن السيد النحال هو رجل الزمن القادم أوعز إلى أخيه حشمت أن يجره إلى عالم السياسة ، فهذا العالم هو المجال الذى يستطيع فيه هذا السافل أن يبرز مواهبه ، ودخول هذا العالم يبدأ بالمحليات ثم بعضوية الاتحاد الاشتراكى ثم التنظيم الطليعى .. ثم مجلس الأمة ، ويفطن أشرف أنه فى حالة حدوث هذا فسيكون السيد النحال :" أصغر الأعضاء سنا وأسوأهم خلقا .. وأكثرهم تأمرا .. وأرقاهم نفاقا .. وأعمقهم حقدا وأغناهم سفالة .."
ويعقب أشرف على هذا بقوله : " ولذا سوف يكون أفهمهم سياسة " (ص 212)

وعلى هذا النحو أخذ حشمت يعد العدة لاعداد السيد النحال نفسيا للمهمة القادمة ، ولم ينس أن يوعز له بأن الرجل الكبير يعطيه الأمان ، ويرتب له المكان ، والمكان هو كرسى فى البرلمان (ص 212)

وما أن جلس السيد النحال على كرسى البرلمان حتى حاصره فتيان يعلن عن رغبته فى أن يفتح له السيد النحال باب الثراء ، وقد سهل له عن طريق موظفيه الحصول على ثلاثة ملايين جنيه لاستثمار ألف فدان فى أرض الخطاطبة على أن يضع نصف المبلغ باسم السيد النحال والنصف الباقى باسم فتيان (ص 285، 286) وتنتهى الصفقة بقول السيد النحال لفتيان : " انس الألف فدان .. خلاص .. هذا المشروع انتهى .. بعد عدة سنوات سوف يستولى البنك عليها ضمانا لديونه ، ولا أحد سيلوم البنك لأنه دفع أمواله فى أرض بائرة ، فالخبير سيؤكد أن الأشجار ماتت بفعل الإهمال .

ويدخل السيد النحال بمشروع جديد مع فتيان يتطلب عمل بطاقة استيراد وتصدير .. وفى عرضه قال :
" سنستورد ثلاثة آلاف طن لحوم من أسبانيا .. صفقة سيشاركك فيها أحد أبناء واحد من كبار المسئولين .. شبل .. هل تذكره ؟ سيسافر معك .. تفاوض بنفسك للحصول على أفضل سعر ..سيترجم لك ويعرفك على الشركات والمسالخ هناك " (ص288)
وعندما يكتشف أن اللحوم فاسدة ولا تصلح للاستهلاك الآدمى يظهر السيد النحال ليؤدى دوره فى تمرير الصفقة التى تستقر فى بطون المصريين ، وتقتسم شيكات الصفقة مناصفة بين النحال وفتيان وذلك بعد أن يزعم النحال انه تم التضحية بخمسمائة طن لقاء تمرير الصفقة ، لكن الحقيقة أن ثمنها كان قد استقر فى حساب النحال ، ويتناسخ الفساد ويتوالد بظهور " رأفت حشمت بركات " فى تمرير هذه الصفقة .

ومن صفقة الألف فدان إلى صفقة اللحوم إلى صفقة الصلصة (ص 288)
ولم يشأ السيد النحال إلا أن يكون جامعا لكل خصال السفالة والنذالة ، وها هو يبدى لنا سحنة أخرى من سحناته وهى سحنة الديوث" ، وذلك حين لا يفوت مناسبة زفافه على فوزية دون أن يعقد مجلس الأنس الذى يعبق بالحشيش والدخان ومأدب الطعام وها هو يهمس فى أذن أشرف بركات على مسمع من حشمت بركات :" وليمتك الفاخرة جاهزة فى مكان لا يخطر على البال .. غرفة نومى .. بعد العشاء المجهز سيكون فى انتظاركم صنفا مذهلا .. عندما تعطر غرفتى به سأستمد فحولتى من كرمك .. أرجوك لا ترفض دعوتى " (ص 237 )

ونتساءل أى فحولة هذه من إمرئ يحول بيت الزوجية إلى غرزة لتعاطى أحجار الحشيش .. من الطبيعى أن يكون الرد السريع على هذا الفحل هو الطمع فى زوجته ، ولذا يشير حشمت على أشرف أن يضم فوزية لطاقم موظفيه على سبيل الإعارة من المجلس الذى تعمل به وذلك للاستفادة منها فى مطبخه وفى تصفيف شعر امرأته ولا مانع لدى السيد النحال من أن يجعل زوجته طباخة ما دام ذلك سلمه فى الصعود وها هى فوزية تسأله : هل جعلتنى طباخة ؟
لا ياحلوة أنتى مديرة القصر
فى أى قصر سأعمل ؟
قصر أحد كبار الرجال فى مصر المحروسة .. الرجل الذى يجلس قريبا من العرش .. ثقى أنى أصعد بك سلم المجد (ص 239)
لكنه فى الحقيقة كان يهوى بها إلى الدرك الأسفل ، وذلك حين استباحها حشمت بركات ثم طلب منها أن تدس السم لجمال عبد الناصر ولكن بكمية مضاعفة عن الكمية التى كانت تقدمها لحكمت وبشاير (ص 240 ).
ولئن كانت الأضواء قد ركزت على السيد النحال فى عصر عبد الناصر ، إلا أنه واصل فى عصر السادات ،إذ بدا اسمه فى الظهور على صفحات الصحف كناشط سياسى فى الاتحاد الاشتراكى (ص 266)

ويقفز السيد النحال قفزة أخرى فى تنمية ثرواته بالاستيلاء على القصر المهجور المتاخم لحدائق الملك والذى اشتراه من الحراسة ، ليتخذ منه قاعدة ينطلق منها لانتخابات البرلمان عن دائرة البلد ، وسط دهشة من عبد الجليل أبو سنة نائب الدائرة العتيد الذى يعزيه صديقه بقوله :" الأيام دول ياعبد الجليل .. أبوه كلاف بهائم .. أخته هربت مع اسكافى متجول وتزوجته ، وأخوه الأكبر مات متأثرا بخبطة على رأسه من مسجل خطر .. وإخوته الثلاثة بالكاد خرجوا من إصلاحية الأحداث العام الماضى ، وكلها أحداث فى حياة أسرته لا يعلم عنها شيئا .. مثلما لا يعلم شيئا عن قصره الجديد .."(ص 167).

ووضعت الترتيبات ليفوز ابن النحال بمجلس فى البرلمان ، فها هو يفد إلى البلد فى صحبة وزير الصناعة والمحافظ الذي أشاد بالمرشح العصامى الذى انتزع مصنع السكر من فم الأسود ليقيمه هنا لأبناء بلده ..لأنه رجل يملك حصافة رجال الاقتصاد ، وحنكة أهل السياسة ، ونبل أولاد البلد !!!(ص 268).

وعندما يتفضل السيد النحال على أمه وأبيه وإخوته ليعيشوا معه فى القصر المغتصب يلقى بهم فى الإسطبل الذى يقع فى الحديقة الخلفية بالقصر ، وكأن عباس انتقل من إسطبل إلى إسطبل فيعلق فريد هنيدى ساخرا :
" يعنى من جحر ياعباس إلى جحر أفضل .. هذا هو ابنك البار"(ص 271)

وكما تطرد العملة الزائفة العملة السليمة تعفف النائب العتيد عبد الجليل أبو سنة عن منازلة السيد النحال هذا الذى قدم إلى القرية فى صحبة النظام ممثلا فى المحافظ ووزير الصناعة.
ولأن حشمت بركات والسيد النحال قد كسبا مالا وفيرا من صفقة الحشيش المهربة فى فراغات السيارة المرسيدس ، فقد أصبحت لعبة مفيدة ، وهاهو حشمت يغازل السيد بقوله :" سنستورد زيتونا من اليونان ، وجرارات من رومانيا ، أما محتويات صفائح الزيتون واطارات الجرارات فستملأ بالحشيش بالطبع " (ص 273)
لكن الغريب أن أمثال السيد النحال يحظون بكافة ألوان العناية والرعاية ، حتى إن سيادة الرئيس نفسه يتكرم بزيارة دائرته لحقن الدماء بين أنصار النائبين المتنافسين وتكون أشبه بتمثيلية هزلية حين يطلب من عبد الجليل أن يتنازل لمرشح الحكومة ، السيد النحال.
وتبدو بهلوانية السيد النحال فى الاحتفال الذى أقامه كمرشح للبرلمان ، وفوجئ ببعض الأسئلة المحرجة التى تكشف خسته ووصوليته من قبل فريد هنيدى مرة ،ومن قبل على بن جوهر مرة ثانية ، وكادت آمال السيد النحال تذوى وتذوب ، لكنه بمهارة تصدى وطرح مجموعة من الأسئلة تبدو فى ظاهرها منطقية ، لكنه استطاع أن يفلت من الحلقة النارية التى حاصرته من قبل أسئلة فريد هنيدى وعلى بن جوهر ، " بل إنه " نال من التصفيق و الاستحسان ما جعل الشيخ فريد هنيدى يقف مذهولا لهذه القدرة الفذة التى يستطيع بها الضلال أن يزيح الحق بقول ظاهره الفضيلة وباطنه الباطل "(ص 280،278)

ارتدى السيد النحال هذه المرة ثياب الثورى الغيور على الثورة ،لاسيما أنه نال كرم قائدها ،ولعله فكر لماذا لا يبحر فى بحر السياسة ، وهو الذى خاض بحارا كثيرة وأثبت جدارته وخرج وشبكته ممتلئة فى كل مرة ، وشجعه على ذلك أنه " اكتشف أن العوم والسباحة فى هذا البحر ليس فى حاجة إلى موهبة عظيمة .. وكان قد اتفق مع نفسه أن كفاءة السياسة قوامها النفاق وعمقها التآمر ، وهو بالصدفة يملك منها الكثير " (ص243)

وربط أشرف بركات بين شخصيتى أنور السادات والسيد النحال وذلك حين قال عن ابن النحال : إنه رجل مملوء بقدرات عالية قد يكون لا يعرفها لكنه حتما يحس بها ، سوى رجل يسلك طرقه فى الحياة بتناقض من يلعب الواقع ثم يستثمره .رجل يبحث عن المجهول ليجعله واقعا ، رجل كان بإمكان الشعر أن يشفيه لكن الشعر لا يشفى الشياطين .. رجل لا تشفيه سوى المقامرة والمخاطرة والسعى إلى الانتحار ..(ص299)

ولم ينس السيد النحال نصيبه فى قافلة النفاق التى واكبت زيارة الرئيس للقدس ، ولم يكتف بنشر صفحات التأثير الكاملة التى تتصدرها صورة الرئيس بطل الحرب والسلام .. با ختراع عبارات لم يأت بها أحد قبله مثل " سلام الأقوياء والزلزال " (ص 300)
وفى حملة فريد هنيدى التى شنها على فتيان فتيان ، رجل الاقتصاد الإسلامى ، كشف تاريخهم المزرى بالاضافة الى كشف تاريخ ولدى النحال السيد وأمير حتى لقد :" صار سوق النحال راكدا .. وساروا كالجراد الشره يهط على المراعى الخضراء فيحرقها ..النحالون ياسادة أعلوا من شأن الكذب بعد أن قتلوا فضيلة الصدق .. النحالون ياسادة انتصروا لسياسة الفهلوة والانحناء والمقايضة بديلا عن الصدق والشموخ والالتزام .. النحالون ياسادة أعلوا من شأن الاستيراد بديلا عن الانتاج .. ومن شأن العمولة بديلا عن الأجر.. والاستسهال والتواكل بديلاعن المكابدة والإصرار.."(ص321)

ويهرب أحد ولدى فتيان إلى خارج البلاد بمساعدة وزيرين : أحدهما أمير النحال ، مما جعل حلمى عبد الباقى يقول :" إن الجديد فى هذا الأمر هو أن الوزراء صاروا موفورى الدناءة حتى إنهم يعملون لحساب لصوص الشعب .. فما المانع أن يمون أمير النحال الوزير خادما عند مربى الماشية فتيان فتيان ثم قال :" إنهم أتوا جميعا من مزرعة آثمة تربوا فيها مع الحقد والدناءة ، وإنهم لم يجتمعوا فى طفولتهم على مبادئ الأسوياء من الناس ، فإنهم عندما تفرقوا فى سنوات التكوين عادوا فاجتمعوا فى شكل منقار مدبب نهشوا به لحوم المصريين (ص 326)

وعندما تكشف عورة فتيان يلوذ بشيطانه السيد النحال لعله يساعده فى الوصول إلى مخرج ، لكنه يخذله ، فيبرز كل منهما للآخر نواجذه ..
- " بيتك من زجاج يا بن كلاف البهائم .. قف معى ولا تقف ضدى
- " زجاجى أقوى من حجارتكم أيها الحيوان فوفر أعيرتك الطائشة نحوى ..
- " عيار اليائس الناقم قد لا يطيش دائما
- " ومن ذا سيسمع صوتك وأنت فى زنزانة مساحتها متر مربع؟
- " إذن فأنت تعلم مصيرى
- " حفاظا على أموال الأرامل والثكالى
- " الأرامل التى إزددن واحدة هى نادية عز الدن ربما يزددن واحدة أخرى هى خميسة عفيفى
- " وقد تنضم إليهن زوجتك لتتحول أسرتك كلها إلى ذكرى
- " بعض الرحمة أيها الجبار
- " رحمتى لا تليق إلا بمن يستحقها وأنت لست منهم
- " لم نعهدك رحيما فى أيام صعلكتك ،ألقيت بجوهر البقال فى السجن " وأنت فى أيام نذالتك ألقيت بى فى السجن
- "لم يخف حقدك على من يومها
- " قد يخففه ان آراك محشورا فى زنزانتك (ص 327)
ويهوى فتيان إلى هوة الضياع وعندما ينظر حوله فيجد أن أصحاب المناصب الكبيرة التى كانوا يحيطون به انفضوا من حوله . فيحتمى بأصحاب الضمائر النظيفة حتى ان عجزوا عن نجدته ، يناشد روح الشيخ فريد هنيدى وتبرق فى خاطره صورة حلمى عبد الباقى (ص 328)
استولى النحال على أرض حكمت وبشاير وتحولت هذه الأرض الفضاء إلى أرض عامرة بالمبانى ، فالمسجد الكبير الذى يتصدر مقدمتها تبرز على واجهته الآية الكريمة " هذا من فضل ربى " المبنى المستطيل بطوابقه الخمسة تقول لافتة إنها " مدارس النحال النموذجية الخاصة " المبنى الفخيم ذو المدخل الجرانيتي الخاص يشير اسمه إلى أنه " المبنى الإدارى لمجموعة شركات النحال " (ص 315)

وتشير خميسة فى حوار مع زوجها حلمى عبد الباقى إلى قدرة النحال إلى التشكل والتلون قائلة :
" النحال يا حلمى هو رجل العهد القديم والعهد الجديد .. وكل العهود الآتية فموهبته أكبر من أن تقف عند عهد بعينه ، لأنه الهواء الذى يدخل كل البيوت ، ويلفح كل الوجوه ، ويهز كل الأشجار دون أن يراه أحد .
ناهيك عن أنه من المستحيل أن يمسك أحدنا الهواء ، وهو يشلح عن الرجال جلابيبهم ، ويطير فساتين النساء .
لك الحق .. فكم من هواء راكض تآمر على عوراتنا ونحن نلوذ بالأمان (ص315)

ويظهر وجها ولدى فتيان : احمد وفتحى فى إعلانات شركة الفتيان لتوظيف الأموال ، ويصبحان الوجهين الممثلين للجيل القادم السائر بإخلاص على درب الآباء : درب النفعية والانتهازية .. فها هو الوالد فتيان أدرك ان الألف فدان الذى سهل له الحصول عليها السيد النحال ليس شرطا أن تكون مزروعة حتى يرهنها للبنك ، إذ يكفى أن تكون مزروعة على الورق ويمكن أن يحصل بموجبها على أضعاف ثمنها كقرض مقابل مائة ألف جنيه يدفعها لمدير البنك عن كل مليون يقترضه ، وسار فتيان فى ركاب السيد النحال ، وكان تلميذا مخلصا فى المدرسة ،إذ نفذ وصيته حتى قال له :" يجب أن تسعى إلى نشر صورتك يافتيان مع رئيس الوزاء وأنت تصافحه فى الصفحات الأولى من كل الصحف القومية " ويمهد له الطريق حين يجلسان فى مقصورة مباراة كرة القدم وبفخرة من السيد النحال لمصور صحفى يتم التقاط الصورة أثناء مصافحة فتيان لرئيس الوزراء :" سنفوز بالمباراة بفضل حضورك ياباشا"(ص318)
وكانت النتيجة هى جريان نهر الأموال فى شركات فتيان لتوظيف الأموال ، والسيد النحال يشجعهم على الاستمرار فى جمع الأموال بشرط التعجيل بمستحقات الجورنالجيةالذين يروجون لشركاته ، ويطلب عشرة شيكات ، كل شيك بثلاثمائة ألف دولار ، ويغريه بالإسراع فى كتابة الشيكات حتى يوافيه بفكرته الجهنمية الثانية (ص 318)

وتتلخص تلك الفقرة فى جمع أموال المصريين فى الخارج وتحويلها بالعملة المحلية إلى ذويهم فى مصر ، ولما تكدست الأموال ، أشار عليهم السيد النحال بتوظيف هذه الاموال فى البورصات العالمية ، ويحقق فتيان وولداه مكسبا سريعا ، لكن فتيان يكتشف أن ولده فتحى يكاد يضيع منه بسبب الإرهاق ، أما ابنه الثانى فيقع فريسة الإدمان والنساء ، ويغطى آل فتيان أنباء انهيار شركاتهم بالاستعانة بشيوخ الاسلام الذين يؤكدون للمخدوعين أنهم فى أمان نظير عمولات خاصة .
وتنهار مملكة فتيان فيجد فتيان نفسه متورطا فى الملايين التى اقترضها بعد حساب فوائدها فضلا عن اتهامه بقتل الشيخ فريد هنيدى ، فيقررأن يخرج عن صمته ، وأن يذيع ما لديه من أسرار تدين عهدا بكامله ، ووضع هذه الأسرار أمام خميسة عفيفى فى مظروف كبير قائلا :" لم يغفر لى أننى كنت لعبة فى يد الشيطان .. ولم تغفر لى محاولتى اليائسة كشف جرائمه التى ستجدين بعضها فى هذا المظروف"(ص329)

وعندما كانت خميسة تتأنى فى قراءة بعض الصفحات .. وعندما كانت ترفع حاجبيها بين الحين والحين كان ضيفها يعرف أنها لا تصدق ما تقرأه .. أسماء لآلاف قطع الآثار المهربة .. أسماء لشخصيات معروفة شاركت فى هذا التهريب .. عقود شراء أسلحة .. صور شيكات بمئات الملايين تم غسلها .. قصاصة من صحيفة يديعوت أحرونوت تحمل صورة ناطقة بابتسامتين تجمع السيد النحال وموشى ديان أمامهما بعض قطع الآثار .. صورة أخرى له بصحبة يهوديات فى شوارع تل أبيب .. وعشرات من حالات التربح والتزوير والابتزاز وجلب المخدرات (ص330)

وعندما واجهت الحكومة فضائح السيد النحال بالصمت والتجاهل ، انبرى حلمى عبد الباقى محتجا على هذا التدليل الذى يحظى به رجل مجرم ، فرد عليه كاتب معارض آخر قائلا :
"السيد حلمى عبد الباقى يتعجب لكل هذا التدليل وتلك الحماية التى يتمتع بها السيد النحال ..ألا تعلم ياسيدى أن النحال هو الإرث المنقول من عهد إلى عهد ؟ ألا تعلم أنه خادم كل العهود؟.. أليس هو البادئ دوما بفتح مبايعة جديدة للرئيس فى كل مرة ؟ أليس هو قامع أصوات المعارضة فى مجلس الشعب فيسكتها وهو يلوح بحذائه ؟.. إنه البلدوزر الجاهز دوما للكسح والاكتساح طيلة النهار ثم يعود إلى نومته الهنيئة فى حضن الحكومة ليلا ..فليوف حلمى عبد الباقى مجهوده ، وليقمع ثورته بنفسه ..فمجهوده وثورته لن يغيرا من الأمر شيئا ..فكل ما تريده الحكومة سيتحقق وكل ما يشير به النحال سيكون رهن التنفيذ ..والقافلة تعوى والكلاب تسير "(ص335)
وفى طريقه إلى شرم الشيخ لفت نظر الدكتور ياسر حلمى عبد الباقى صورتان كبيرتان : الأولى للرئيس مكتوب أسفلها نعمة الحاضر ، والثانية لولده جمال مكتوب أسفلها نعمة المستقبل ، ويسأل أمه إن كانت تدرى من أقام هاتين الصورتين فترد على الفور:
- "السيد النحال طبعا .."

- "مضبوط .. تصورى ؟"
- "وما الجديد فى ذلك ياولدى؟إنها مهمته "
- "تقصدين مهمته الجديدة لتوريث الحكم ؟"
- "لا .. إنها مهمته الدائمة كقواد سياسى "
- "وهو طبعا يراهن من الآن على كسب الرئيس القادم "
- "ولم لا تقول :إن الرؤساء هم الذين يراهنون على كسبه هو ؟أليس هو الذى يفتح الباب لجموع النحالين خلفه لإطلاق المبايعة لكل ولاية رئاسية جديدة ويتولى إنجاح ذلك فى كل مرة ؟.."
- "ولكن الحديث صار معلنا حول اتجاه ابن الرئيس فى التخلص من الحرس القديم ليستبدلهم بشباب من لجنة السياسات "
قالت خميسة فى يأس وقرف :
" ديكور .. وإعادة طلاء لشقة حل بها ساكن جديد .. هل الطلاء يغير من جوهر الشقة شيئا ؟"(ص 343، 344)
وحول الإشاعات التى أطلقت حول بيع مصنع السكر ، كتب حسن رأفت إبراهيم فى مدونته :" عندما أراد السيد النحال أن يضع الناخبين فى جيبه أخذ المصنع لنفسه"
ثم طرح أسئلته :
هل يمكنكم قياس مساحة الجيوب التى يملكها النائب المحترم السيد النحال؟
يقولون : إنها جيوب تتسع للمكاسب الصغيرة ، أربعون ألفا تضمن بها مكانا لولدك بكلية الشرطة أو الكلية الحربية " والمكاسب الكبيرة " مليونا جنيه تضمن بها مقعدا فى مجلس الشعب.

لكن الرياح لا تأتى دائما بما تشتهى السفن ،إذ انقلب السيد النحال على حلمى عبد الباقى عندما ظن أن ثمة علاقة آثمة تربطه بزوجته .. ويفاجئهما مع زوجة حلمى التى استدعاها السيد بمكالمة تليفونية لتكون شاهدة .. على لقاء زوجها بزوجته فى محل جروبى ، ويحدث الصدام ، ويعد السيد النحال عدته باستدعاء عظمائه الخمسة ليكونوا عونا له فى التخلص من حلمى عبد الباقى غير أن حشمت بركات وفايز فودة يتدخلان لفض هذا الحشد بالاقناع أولا ثم باستدعاء الشرطة التى شحنتهم ومضت بهم (ص 191)
وعندما تضيق الدائرة حول رقبة فوزية ، وتشعر بخيبة أملها فى السيد النحال تلجأ إلى حشمت بركات كى يساعدها على استرداد حقوقها من السيد ، غير أن حشمت يضعها تحت التهديد حين يلوح لها بزجاجة السم التى يحتفظ بها والتى كانت تستخدمها ضد حكمت وبشاير بوازع من السيد النحال ثم يقول لها : " السيد النحال خطورته امتدت حتى وصلتنى أنا شخصيا ، قد يحتاج الأمر أن نتعاون معا ضده لكسر شوكته .. ها أنت مستعدة لذلك ؟ أعدك أن أكون رهن إشارتك (ص 223)
وتفاديا لخطورة النحال يرتب كل من أشرف بركات وشقيقه حشمت موعدا مع سامى شرف يقدم فيه النحال تنازلا عما كتبه للرئيس فى خطابه الذى أرسله إليه .. وينتهز النحال- كعادته- الفرصة ، ويطلب من الموظف فى مكتب الرئيس الحديث إلى سامى شرف ، إذ إنه يريد أن يؤكد له أنه مواطن صالح ، وذلك بتبرعه بكل أمواله التى وفرها لحفل عرسه وشراء جهازه للمجهود الحربى ، وعندما يصل هذا الخبر إلى جمال عبد الناصر يطلب مقابلة السيد النحال ويظفر الأخير بمصافحة الرئيس تحت أعين الكاميرات التى تبعث بالصور إلى جرائد الصباح ، ويصبح السيد النحال بطلا يشكره الرئيس ويشارك فى مؤتمر الاتحاد العام للعمال ويطلق تصريحاته للصحف ويشارك مندوب الرئاسة فى حفل زفافه . أما تعليق أشرف بركات فيبدو من خلال هذا الحوار مع حشمت :
" شفت ياحشمت ؟ هل صدقتنى الآن ؟ هذا السفاح تبرع بفلوس الحشيش وبراءة الأطفال فى عينيه .. وضع جمال عبد الناصر نفسه فى جيبه .. وجعل الإعلام المصرى تحت أمره ..الداهية ذهب معنا إلى الرئاسة لسبب يخصنا لكنه كان يرتب لنفسه شيئا يخصه ..داهية"
وهتف غريمه حلمى عبد الباقى :
" يجب أن نسلم أنه ذكى وداهية ويملك مشروعا لا يعرفه الا هو "
ووافقه أشرف بركات على الفور:
" مشروعه ركوب الموجات ، أو خلق هذه الموجات إن لم يجدها .. قلت عنه : إنه سياسى بالفطرة .. ها هو يركب موجة المجهود الحربى وولع الرئيس بالشباب الوطنى الناهض.."
وجذب حلمى عبد الباقى نسخة من مجلة المصور وراح يقرأ منها بصوت عال :
"الرئيس عندما تنحى كان يقول للشعب : سأنصرف لأنى لن أقبل الحلول الاستسلامية التى تفرض على ، ثم تراجع عن التنحى عندما تأكد أن الشعب فعلا يرفض الحلول الاستسلامية وأن الناس يقفون معه .. ما رأيك فى هذا التحليل ؟"
فهتف أشرف بركات :
" تحليل عجيب ومقنع لا يرسله ابن النحال للناس ،لكنه يرسله إلى جمال عبد الناصر نفسه .. إنه غزل سياسى من ولد عبقرى .. يا الله .. معقول هذا الولد "؟(ص236)

وامتد نشاط النحال وتوسع فى كل الاتجاهات ،حتى إنه عمل فى مجال السياحة بعد لقاءات مع شخصيات يهودية . وعندما أصيب السيد النحال فى ساقه تلقى علاجه فى تل أبيب ، وقد أعيد إلى مصر بساق واحدة ، وقد عرف ياسر حلمى من مدير المستشفى أن قاتل أبيه قد وصل :
" قاتل أبيك – ياياسر- جاءنا وقد ترك شلوا من أشلائه فى مكان ما .. من حاول قتله لم يفلح فى الإجهاز عليه.."(ص349)
ويبدو إبداع السيد النحال فى اقتناص الفرص وتوجيهها لصالحه فى زيارة جمال مبارك له فى المستشفى باعتباره أحد رجال الحرس القديم .. لكنه أبى أن يكون مجرد كومبارس فى خلفية صورة تسلط أضوائها على نجم ساطع (ص350).
واستدعى النحال فى هذا اللقاء كل قواه الإبداعية حتى إن جمال مبارك شعر أنه يجلس فى حضرة عدد من الرجال ذوى السحن المختلفة ، كل سحنة تتماهى بسحنة أخرى لرجل مختلف .. القاسى والمعلم والدجال والناصح والقواد والقديس( ص 350)
ويخرج بابتكاره الجديد الذى يتحف به جمال مبارك وهو " الجمهورية الملكية " (ص352 )مثبتا من خلال حواره أنه يمتلك سحنات أكثر من السحنات الست المذكورة آنفا.
وكما القصيدة يرد عجز هذه الرواية على صدرها ، من خلال العودة إلى الأصل ، أصل عائلة النحالين الذى بدأت به الرواية ، عباس عبد المحسن إبراهيم النحال، هذا الرجل الذى فقد حواسه إلا واحدة ، وهى حاسة الإنجاب من خلال زيجاته الكثيرة الرخيصة ، هذه الذرية التى ملأ بها ملاحق قصر ولده السيد النحال .. يعلق معاذ فريد هنيدى فى مدونته قائلا عن عباس النحال :
" هذا الفحل البقرى العجوز ، المتمتع بآلة ذكورية خرسانية لم يدب فيها الوهن ، اتضح أنه يحمل كما هائلا من البراءة والعفوية ، فالرجل لم يقصد بهذا الإمعان التناسلى أن يشج رءوسنا بالكرب والكدر وهو ينثر ذريته كحبوب اللقاح فى شقوق الحياة ، الرجل لم يتعمد أن يسد علينا منافذ الأمن والفضيلة ، كل ما هنالك أنه يلهو بالشئ الوحيد الذى يعرفه ولا يعرف غيره وهو مفاخذ ة النساء ، ثم لا يعنيه بعد ذلك ما يثمر عنه هذا اللهو من أشياء .."
فيا أبناء الأجيال القادمة..
نصيبكم من الطرح النحالى استوى ..
طرحكم قادم وسوف يجد مرتعه فى انتظاره ..
ولأنه لا شئ قد تغير من مكونات التربة المصرية الصالحة لنمو واستفحال هذه الكائنات .. فليس أمامكم سوى أحد أمرين :" إما أن " تقلبوا " بطن التربة ، وإما أن "تقبلوا" طرحها المرير .." (ص 357، 358 )
ويكاد يصل الكاتب بهذا إلى نفس النتيجة التى وصل إليها صلاح عبد الصبور فى مسرحيته " ليلى والمجنون " بعد أن احترقت القاهرة وعم الفساد . فقال على لسان سعيد :
ياأهل مدينتنا .. انفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا .. رعب أكبر من هذا سوف يجئ.
أمير النحال :
أما أمير النحال فقد بدأ حياته فى الدنيا باسم مسروق قال له السيد وهم صغار :
" أبوك سرق لك هذا الاسم من ابن ناظر المواشى .. كان اسمه أميرا .. يعنى كلاف المواشى سرق اسم ابن ناظر المواشى "( ص17 )وليس فى سيرته ضغيرا ما يفخر به ، فقد جمع كتب وكراسات زميله زكريا مسعود حين دهمته سيارة وأخذها لنفسه (ص 17) ، وهو الذى أكل علبة الحلوى الخاصة بزملائه ووضع مكان الحلوى حصى (ص17) ، وهو الذى صفعته فتاة على وجهه وأوسعته شتما حين امتدت يده إليها فى قاعة السينما ، وهو الذى خرج ببعض الملابس التى قدمت إليه من قبل والد صديقه نجيب النجار لأنه ولد غلبان يستحق المساعدة (ص18 )، ثم هو الذى تجرأ على شقيقة صديقه ودس لها خطابا غراميا بين كتبها ، غير أن شقيقها قد عاقبه بالشكل الذى جعله يختفى من الشلة ومن المدرسة أيضا ، عاجزا عن المواجهة بعد فضيحة علنية أمام زملاء الدراسة (ص22 )ويبدو أن السرقة كانت داء استشرى فى أبناء النحال جميعا، فهذا عرفة الصغير قد نال علقة ساخنة من جوهر البقال وزوجته عندما ضبطاه متلبسا بسرقة فحل بطاطا (ص 24) وعندما يفتح السيد النحال غرفة تذكاراته تسيل منها الذكريات الأليمة بدءا من اليوم الذى " ضبطوا فيه أباه وهو يسرق القمح من غيط المصلحة ، ثم وهو يسرق قماش اليفط ، وتذكر حوادث أمير الذى نال علقة ساخنة من فريق كرة بكامل أفراده عندما سرق حلواهم وعلقة أخرى من إخوة زميله قتيل السيارة زكريا مسعود لأنه جمع كتب زكريا من بين دمائه وجمعها لنفسه ، ثم تذكر حادثة عرفة الجسور الذى عثر على شبكة صياد مليئة بالسمك فى قاع الترعة فانتزعها بمهارة وأتى بحصيلتها من السمك وكانت حصيلة تنبئ كثرتها أنها مسروقة ، ومع هذا فقد أثنى عليه والده مرسلا إليه آهة تعجب مثيرة " كيف أتيت بسنارتك بهذه الشيكارة المليئة بالسمك ؟ عجل ياأم الخير بشى هذا السمك .. عجلوا يابنات ..." ولم يفهموا أن سر التعجل هو أن راعى المنزل كان واثقا أن صاحب السمك سوف يجئ .. وقد أتى الرجل فلم يجد من سمكه إلا بقايا عظام قوامها تلة عالية فى منتصف الطبلية .. ثم اتى الناس على صياحه فاقتربوا متزاحمين ليروا بأنفسهم جسم الجريمة ..(ص24)

ومن الطبيعى أن تصبح الوصولية إحدى سمات آل النحال ، وها هو أمير يصبح نائبا لرئيس إتحاد طلاب الجمهورية (ص141) بالوصولية يصلان هو وشقيقه وبالتسلق يتسلقان ، وها هو فريد هنيدى يقول بمرارة لصديقه رأفت إبراهيم :
" أما قلت من قبل إن ولدى النحال سيتسلقان إلى أعلى المناصب .. صدقونى ؟"(ص141)
وقد وصل فريد هنيدى إلى هذا اليقين من خلال فهمه لطبيعة النحالين وقدرتهم على التسلق والمراوغة والمهادنة والمصانعة .. إلى آخر الصفات الإنسانية الذميمة .

أجاد أمير فى عمله ككاتب تقارير عن المجتمع الطلابى " وقد اكتسبت تقاريره أهمية خاصة عند حراس النظام لأنه يضع فى أيديهم مصير المجتمع الطلابى ، ويشير إلى اتجاه الريح عندهم "(ص76) كان من ضحاياه الشاعر صابر منير لأنه هجا عبد الناصر بقصيدة ، ومن ضحاياه أيضا الدكتور راضى وذلك لآرائه السلبية فى النظام الاشتراكى (ص 76،77).

وكما كان مجاهد فى رواية " كيفية ألا أكون هكذا " يتسلم رسالة من زوجتيه عبارة عن صفحتين : إحدهما من المش والثانية من الفسيخ ، وقد دفنت فيهما لفافات الحشيش ، فإن السيد النحال يرسل لأهله من مصر المحروسة رسالة من العجوة ، ويفطن فريد هنيدى إلى أن سر اختيار السيد النحال لهذه الرسالة بالذات ترجع إلى مرونة العجوة فى احتواء أى جسم صلب بداخله إذ علقته بها (ص 79). وما هذا الجسم الصلب بالطبع سوى لفافات الحشيش التى كان يتسلمها بدير عبر عنتر مكاوى فخميسة .
وهو – أمير – لا يشعر بأى لون من ألوان الانتماء للقرية التى نما فيها وترعرع ، ولئن كان طاهر زين الدين على استعداد لأن يدفع حياته لمن يمنحه سعادة يوم واحد من أيام القرية ، فإن هذه الأيام لا تجلب لأمير إلا الشعور بالاستخفاف والشفقة والقرف (ص 82).

ولئن كان بدير يشعر بالقرف من المكان " قريته " فإنه يشعر بالازدراء من الزمان " ماضى أسرته " وكما يوجه له طاهر اسماعيل الخطاب قائلا :
" من الواضح أنك ياأمير تنظر إلى أسرتك بعين النقمة والإزدراء فقررت أن تصنع لنفسك ماضيا بعينيه تزينه بكل الفخر الكاذب والجمال المصنوع "(ص84).

وهكذا يبدو ابن النحال إنسانا بلا جذور مكانية أو زمانية ، كأنه متمرد على الجغرافيا والتاريخ ، يبغى مسحهما ليقيم فوقهما جغرافيا وتاريخا من صنعه الخاص وإن كانت صناعة زائفة .. المهم أن تبهر المحيطين به ، ثم حدث أن اقتحم أمير عالم السياسة من باب اتحاد الطلبة ، إذ أصبح عضوا فيه ،ذلك حين أنس فيه ناصر عبد العليم قدرته على المراوغة ، ويختار لجنة الرحلات ويعد الصحاب برحلة فى عزبة أبيه المزعومة والمليئة بالخيول والزهور والطبيعة الخلابة (ص 71) . وهو ليس على استعداد للتنازل عن هذه الأكاذيب رغم يقينه بأن ناصر عبد العليم قد اكتشف حقيقته وعرف حقيقة أبيه لكنه لا يجد بدا من الاعتراف حين تتم مواجهته من قبل ناصر عبد العليم الذى يباغته قائلا : " أمير .. من أنت ؟" 
" أنا بن إقطاعى يربى الخيول والزهور .. بفارق واحد أنه هو وخيوله وزهوره من صنع خيالى ، أليس هذا ما تريد أن تتأكد منه ؟"
"ولكنك ياأمير وعدت اللجنة كلها بقضاء يوم فى عزبتكم الوهمية "
" ها أنت قد قلت إنها وهمية .. فأين سيعثرون عليها ؟"
" وكيف تتصرف "
" قبل الرحلة بأسبوع سأعلن حزنى بطريقتى الخاصة على الملأ لأن والدى جن فى عقله وباع العزبة "
ندت عن مختار ضحكة مفاجئة وهتف :" أنت شيطان "
ثم واصل إعجابه " سأكتب للجماعة ألا يستهينوا بك "
فهم أمير على الفور من هم الجماعة ولكنه لم يفهم معنى ألا يستهينوا به .
" تقصد أن الكتابة "هذه المرة" ستكون فى صالحى "
" وهل تشك فى ذلك ؟أنت مكسب غير مسبوق لحراس النظام .."
" هل تسميهم هكذا ؟.."
" ونحن اوفياء للنظام .."
" ونحن اسمنا هكذا ؟.."
"أجل ونحن أوفياء النظام .."
وتتجلى سفالة المحاسب أمير النحال ، حين يدخل على سالم شاهين رئيس الشركة المؤممة التى يعمل بها ليقول له بكل أدب أو بكل وقاحة :" يافندم كل رؤساء الشركات يضعون صورة الزعيم جمال عبد الناصر فوق رءوسهم ولكن سيادتك تضع صورة شقيقك المهندس خيرى شاهين فوق رأسك ، وتضع صورة الزعيم أمامك .. يافندم إذا جئت غدا ووجدت تصحيحا لهذا الوضع فلا تسأل عن الفاعل ، فأنا الذى سأحضر صورة كبيرة للرئيس بدلا من هذه الصورة الصغيرة وأضعها هنا فوق رأسك " (ص152).
وفى الوقت الذى كان فيه السيد النحال يطفو فوق السطح ويحقق مآربه الرخيصة بأساليبه القذرة ، كان امير النحال يسير فى خط مواز ، فهو الذى فتح الباب لرئيسه سالم شاهين رئيس شركة المقاولات المتحدة أن يقدم استقالته ، وأصبح بطلا أمام موظفى الشركة ، وحاز على رضا رئيس مجلس الإدارة الجديد حامد شبراوى الذى تعامل مع أمير النحال على أنه معجزة ينبغى أن تفتح له الأبواب المغلقة وأن ينال حظه فى الصعود .
حاول السيد بعد ذلك أن يغرى شقيقه أمير بالاتجاه إلى عالم السياسة ؛ إذ هى بوابة النفوذ ، وشواطئها يمكن أن يبحر إلى طموحاته ، وأومأ إليه أن هذه هى رغبة أشرف بركات وأنه :
يريدك بجانبى
السياسة ليست من أحلامى .. خذها لك
ستكون مدخلك لكل ما تحلم به..اجعلها قاطرة لعربتك
تاريخى ملئ بسقطات ساذجة لا تليق بمن يعمل فى السياسة ... لقد عرفت طريقى ... فلتمض أنت فى طريقك (ص218)
ولأنه عرف طريقه فلقد أبدع بطريقته فى إعداد مشروعاته بجانب اللواء مهندس حامد شبراوى مدير الشركة الذى استبشر خيرا لأن الرئيس أطاح بالرقابة الإدارية ، وقد وجد هذا القرار ترحيبا من جانب صحفى نحالى قال : " فالرقابة لم تكن سوى صرح من صروح البلادة والاصطياد .. والإطاحة بمثل هذه الصروح الزائفة هى الهدية التى يقدمها الرئيس لسوق العمل الذى يعوزه الانطلاق ".. وصدق حدس أمير النحال حين أصبح هذا الصحفى فيما بعد رئيسا لتحرير جريدة قومية ، وفتح باب الفساد على مصراعيه ، وسخر حامد شبراوى إمكانات الشركة لبناء مستشفى على شاطئ النيل فى المعادى وذلك بمساعدة أمير الذى أصبح يمتلك هو الآخر مزرعة هائلة يعمل بها رأفت عبد الواحد (ص 290) وتجلت عبقرية أمير النحال فى إبداعه الجديد : بنود وهمية ، مستندات يتم ترتيبها مع مهندس الحكومة والمقاول ومهندسى الشركة ، ويتم تقسيم الغنيمة مناصفة (ص291).
ويدخل العنصر النسائى فى دائرة الفساد فيشعلها ويهتك أسرارها ، فحامد شبراوى يقع فى غرام أرملة طروب تسر له بتجاوزرات أمير فينقلب عليه ، لكن الأخير يكشف مغامرات حامد العاطفية لزوجته التى تضبطه متلبسا فيخر مغشيا عليه رهن الإقامة فى غرفة العناية المركزة بمستشفى المعادى .. كل هذا الفساد والنهب وثورة الجياع تشتعل فى مصر (ص292) ، فى الوقت الذى انهمك فيه أمير النحال بتشوين مواد البناء للانتهاء من الفيلا والمسبح والسور ورصف الطرق فضلا عن أنه طلب من مهندس نحالى أن يضع له مقايسة أعمال إضافية لبنود غير منظورة فى حدود مليوني جنيه أو أكثر .. وكله فى جيبه (ص291).
ولئن كان حامد شبراوى رئيس شركة المقاولات المتحدة هو صنيعة أمير النحال ،إذ يسر له ما حصل عليه من أموال ومن مواد بناء وآلات لبناء مستشفاه ، لكنه يعود فيفشى حجم سرقاته من خلال الشكاوى التى قدمها إلى إدارة الكسب غير المشروع ،وفى الوقت الذى أبدع فيه أمير بصرف نظر اللجان الرقابية عن تصرفاته وسرقاته فإنه كان يبدع أيضا فى فضح رئيس شركته السابق( ص 293 ، 294) .

وتفنن أمير من بعد فى إهانة رأفت إبراهيم لأنه يعلق أفعاله على المشيئة الإلهية ، ولأنه يتمسك بقيم الماضى ولأنه رفض أن يكون ناقلا الخمر لساحته . وأمعن فى إهانته عندما شبهه بالعاهرة (ص296).
ولم ينس مكانه فى مسلسل النفاق " وظهر للناس وجه أمير النحال يبتسم برقة وهو يهدى للرئيس مباركته وتأييده مع كل العاملين بشركة المقاولات المتحدة على صفحات كاملة فى الصحف السيارة ، فهذا هو الأخ الأصغر يفعل ما يفعله الأخ الأكبر وبرع فيه لاحتواء الرئاسة .. وما خفى كان أعظم . وبنفس الحيلة المكشوفة التى يعلم صاحبها أنها مكشوفة عمد أمير إلى فكرة الحوار الصحفى مدفوع الأجر حتى وإن بدا أنه ليس كذلك – حتى يأخذ راحته فى الوثوب بين الأغصان كقرد يلهو ..فأوضح ان شركته أخذت على عاتقها مهمة القيام بتصميم وتنفيذ مبنى مجمع الأديان الذى يحلم به فخامة الرئيس وحدد له مكانا قدسيا فى وادى الراحة بسيناء الحبيبة التى يعمل سيادته على إعادتها كاملة غير منقوصة إلى أحضان الوطن ." (ص302).
وها هو حشمت بركات ينتقد رأى حلمى عبد الباقى فيمن حوله قائلا :" السيد النحال هو الانتهازى الخادم الذى يأكل على كل الموائد وامير النحال هو أصغر من سرق منصبا كبيرا جلس به على قمة واحدة من كبريات شركات المقاولات فى مصر " (ص303) وفى " مدونة أبى" يبدى الشاب حسن رأفت رأيه بنقل بعض عبارات حلمى عبد الباقى قائلا " ولأن كلا الرئيسين السادات ونميرى لم يؤاخذا على ما فعلاه فإن كل الأفعال اللاأخلاقية صارت تنهمر وتمر مرور الكرام مثل مرور عشرات السفن الحاملة للحوم الفاسدة بأمر وزير التموين أمير النحال ..ابن مصر البار " (ص 345).
وأمير دون غيره من رجالات مصر ، التى لم تنجب رجالا أكفاء يرتقى إلى درجة الوزير ، ومن وزارة التموين إلى وزارة التضامن الاجتماعى ليطفئ نار اشتياقه لخدمة الجماهير المطحونة!!! (ص 337).
" وما إن تصل إلى نهاية الرواية حتى تشعر بضيق فى التنفس وارتفاع فى ضغط الدم على هذا الخراب الذى حل بوادى النيل ، وحين ترى النحالين يزدادون ويتناثرون فى أرجاء مصر المخروبة يعيثون فيها نهبا وسطوا .. أكرر متحسرا مرة أخرى مع صلاح عبد الصبور :
عبثُ ، والأيام تَجِدْ
لا أدرى ، كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السفلة والأوغاد.

شخصيات واقعية:
لكن مهارة الكاتب تتجلى – فيما تتجلى – فى كونه رسم شخصيات تعيش وتتنفس بيننا ، ونحن نصطدم بهم فى شوارعنا ، ونبصق على وجوههم ، إذا أطلوا علينا عبر الشاشات فشخصية السيد النحال ، تحيلنا منذ البدء على شخصية برلمانية مشهورة ، والقارئ يتتبع مسيرة الشخصية الروائية ، ويقارن بينها وبين الشخصية الحقيقية الموازية لها من الواقع ، ولئن ساوره الشك فى بعض الأحيان إن كانت الشخصية الروائية هى ذاتها الشخصية الحقيقية ، إلا ان هذا الشك يزول تماما عندما طرح رأفت إبراهيم أسئلته فى مدونته قائلا :
هل يمكنكم قياس مساحة الجيوب التى يملكها النائب المحترم السيد النحال ؟ يقولون إنها جيوب تتسع للمكاسب الصغيرة ، أربعون ألفا تضمن بها مكانا لولدك فى كلية الشرطة أو الكلية الحربية ، والمكاسب الكبيرة مليونا جنيه تضمن بها مقعدا فى مجلس الشعب ".
عند هذا الحد يعود يقينك إليك ، لتثق ان هذه الشخصية الورقية هى نفسها الشخصية الحقيقية التى كنت تراها تختال بخستها ووقاحتها وفظاظتها تحت قبة البرلمان ، على شاشة التلفاز .لكن المهم هو أن شخصية السيد النحال لا يمكن أن تنحصر فى شخصية واحدة ووحيدة تعرفها ، ففى عصور الفساد يكثر النحالون ، وتتماهى وجوههم ، وتتشابك مصالحهم ، حتى ليختلط علينا الأمر فى بعض الأحيان ، ونحتار فى تمييز وجه نحالى عن وجه آخر ، فالسحن متشابهة ، والأخلاق واحدة ، والأهداف محددة ، ناهيك عن أن المنشأ واحد ، هو حظائر البهائم ." (23)
والشخصيات التى تمثل الشعب المصرى بكل ما فيه من نقاء وإخلاص موجودة ومتعددة ، ولكنها لا تملك نفس الأدوات التى تمتلكها الشخصيات الشيطانية السابقة .. ولذلك بدت هذه الشخصيات ضعيفة وعاجزة عن أن ترد كيد الشياطين ، ناهيك عن أن تجد لها مكانا لائقا .. تتنوع هذه الشخصيات من مثقف كبير مثل حلمى عبد الباقى ، وبطل رياضى مثل فريد هنيدى وحلاق مجتهد مثل طاهر زين الدين ، ومهندس محب مثل رأفت إبراهيم .. ومن الشخصيات النسائية هناك : خميسة وهناك فوزية ، لكن مصائر هذه الشخصيات جميعا تكون مأساوية ،وذلك حين يخرج حلمى عبد الباقى من المعتقل جثة ملفوفة فى صندوق خشبى ، وحين ينهش الجمل ذراع فريد هنيدى وتتبدد أحلامه ، ويسرى السرطان فى جسد طاهر زين الدين .
لكن من أصلاب هذه الشخصيات تخرج أجيال جديدة تعد بالخير ، فهناك الدكتور ياسر حلمى عبد الباقى ، وحسن رأفت إبراهيم ومعاذ فريد هنيدى ، وهم قادرون بما يحملون من براءة وبكارة أن يثقبوا ثغرة وسط الظلام الدامس الذى يحيطهم من طائفة النحالين الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد ..
فريد هنيدى بطل كمال الأجسام وحكايته فى تربية الأرانب والتهامه لدجاج الحظيرة ، وبسبب مواظبته على تكوين جسمه قلد بطلا أول بالجامعة فى كمال الأجسام مما حرك الإحساس بالحسرة فى قلب أمير النحال (ص 113) .
غير أن الأبطال الذين يبنون أجسادهم ، ويسيرون فى الطريق المستقيم يكون جزاؤهم الدمار ، وذلك حين يتعرض لنظرة عجوز ترهقه وتفتك به ، ثم لجمل دار هنيدى العملاق الذى قبض بفكه الرهيب على ذراعه حتى تهدل وتهشم (ص 142) وينتهى به الأمر إلى بتر ذراعه (ص 144 ).

نهرالفساد يتدفق فى أوردة البلاد:
وحين يتوجه رأفت إلى الاسكندرية ليطلع على نتيجة البكالوريوس ، يبدى له فريد عدم اكتراثه بالنتيجة ، وفى لحظة فارقة يكتشف المصحف الذى كان موضوعا أمامه طيلة السنين الماضية ، لكنه لم يره ، فكان ملاذا له ، ثم استكمل دراسته فى كلية أصول الدين ، لكى يربى روحه كما ربى جسده من قبل ، ويكون فريد هنيدى هو أحد السجناء الذين أودعوا فى السجون فى عصر السادات ، وقد كره هذا الرجل بسبب صعود شخصية النحال فى معيته ، وذلك بعد أن أعجب به لأنه فلاح متدين ، منذ الوقت الذى كان السادات يتحدث غن دولة العلم والإيمان ، كان فريد هنيدى يحاول أن يطرد اليأس بالإيمان (ص 266) وكانت هذه نقطة تحول مفصلية فى حياته ، وإذا أصبح الشيخ فريد هنيدى الغاضب على النظام (ص 275 )ولعل موت طاهر قربه أكثر من الله وشجعه على الزهد فى الحياة إذ إنه " واصل رحلة زهده فى كل شئ إلا الإبحار فى كتاب الله .. وتحول من دارس قديم لأصول تربية العضلات إلى دارس جديد لأصول تربية النفس وهاديها لهدى الدين .. وتحول وصفه " لبطل " إلى ندائه " بالشيخ " ورأى الناس أن الشيخ فى داخله كان " مقموعا " (ص 278) .

وهو الذى وضع السيد النحال فى مأزق حين وجه إليه أسئلة بعينيها فى المهرجان الذى أقامه للترشح للبرلمان ثم أنهى أسئلته بقوله :
" ثق ياابن بلدنا العزيز .. آسف ياابن هذا البلد العزيز أننا لو كنا بحاجة إليك لذهبنا إليك ولكن لأننا لا نعرف لك مكانا أو مكانة فاعلم أننا لسنا بحاجة إليك " (ص 279).
ويخرج النحال من شبكة الأسئلة المنصوبة له بمهارة ، وينال استحسان الناس وتصفيقهم ،غير أن الشيخ البطل تعلم من هذا الدرس " ألا يتهاون فى معاركه مع الباطل وزويه .. فالباطل يحتشد أمام الحق بكل أسلحته الزائفة، وقد يصرعه " (ص 280).
ولذلك وجدناه قبل أن يحل ضيفا فى معتقله يتصدى للنظام الذى يطلق النار على أفراد الشعب فى أحداث 17 & 18 يناير 1977 ويطالب بالقصاص من رأس النظام " مؤكدا أن حاكما يطلق النار على شعبه هو حاكم فاقد لشرعيته ولا يليق ان يبقى يوما واحدا فى سدة الحكم "(ص 293).

وعندما يتصدى فريد هنيدى لكشف التاريخ المخزى لفتيان فتيان ولولدى النحال ، ، كان جزاؤه أن تدهمه سيارة وتقذف به فى الهواء ، وعندما يغطى أحد المارة وجهه الممزوج بدمائه بالصحيفة التى فى يده ، ترى نادية زوجة القتيل فى ظاهر الصفحة صورة أمير النحال مبتسما لأنه أمسك وزارة التموين .. اليوم (ص 332) وهكذا يصعد الوصوليون والمرتشون واللصوص ، ويموت الشرفاء تحت عجلات سيارات هؤلاء اللصوص ، وتكتشف نادية ان قتلة زوجها هم فتيان فتيان وولدا النحال مستترين خلف " السنى " و" خالد بق " تحققت نبوءة فريد هنيدى البعيدة حين قال : " أولاد النحال سيكونون من حطام القطر المصرى " (ص 322). ويشعر المجتمع بالاستياء ،وعندما يأتى تقرير النائب العام نافيا أن يكون حادث قتل فريد هنيدى مدبرا .. يعلق حلمى عبد الباقى : لخميسة :
" لا تأملى خيرا فى نظام استمد وجوده من سلطة ساداتية مغتالة .. لا جديد هناك .. ولن يكون هناك جديد " (ص 223).
عندما توجه رأفت إلى القاهرة يبحث عن مكان لمستشفى يعالج فيه صديقه هنيدى لم يجد غير بدير يطلب منه العون ، لكنه أيقن هو وخميسة أنهما راهنا على شخص خاسر .. نذل .. وبلا قلب ، وتعلل بأن فريد لم يعد طالبا حتى يتدخل لصالحه باسم الاتحاد ، وبدا كما لو كان يلهو مع بعض الفتيان أثناء المكالمة ، مما يعنى أنه كان سعيدا بما ألم بغريمه (ص 144) . ولعلها فرصته فى الانقضاض على فوزية بعد أن يتخلص من فريد هنيدى .
وفى سجون مباحث أمن الدولة يلتقى كل من فريد هنيدى وحلمى عبد الباقى لأنهما يقفان ضد معاهدة كامب ديفيد ،وذلك فى الوقت الذى يعلو فيه راكبو الموجة ، فعنتر مكاوى الذى يعمل بالحشيش والانتاج السينمائى معا وعرفة وعوض عاشور أصحاب التوكيلات وأطراف الصفقات وولدى فتيان الصبيين الذين يعيدان بداية أبيهما ، ولكن بأرقام ذات أصفار عديدة ، وتحدث حلمى عبد الباقى عن انتقال المافيا لسوق الحشيش إلى ميدان الآثار، وحرص رواد التطبيع على إنجاح المعاهدة برحلات إلى تل أبيب لا يخفون فيها وجوههم ، وصار – فايز فودة وفتيان – مخلبين لوحش كاسر هو السيد النحال ، اما أمير النحال فقد أحاط مزرعته بعشرات المزارع المسروقة الثمن لملاك كلهم من رجاله بعد ان حصل على حصانته كعضو بمجلس الشورى ، ولم يتأفف عبد الجليل أبو سنة – المعين مثله ثمنا لصفقة قديمة تنازل فيها لأخيه عن كرسى البرلمان أن يجلس بجواره " (ص 304 ،305).
حلمى عبد الباقى أحد ضباط ثورة يوليو ، والسيف المشرع فى وجه الخيانة والجبروت ، يعتقل وينكل به دون رحمة بعد أن بلغ من العمر سبعة وستين عاما . وجريمة هذا الرجل أنه آمن أن السلام المزعوم مع اسرائيل هو مجرد وهم ، وأنه رفض أن يكون ذيلا للسلطة ، وأن يكون أول سفير فى تل أبيب وأن يصبح نحالا محتالا لا يهنأ بالنعيم المسروق شأن كل النحالين ، ولم يعد حلمى عبد الباقى من سجنه إلا فى صندوق خشبى (ص 336) .

إنه عصر اغتيال الشهداء وصعود الخونة لذا يعبر كاتب مهموم بقوله : " هنيئا للخونة بالنظام ، وهنيئا للنظام بالخونة ، أما أنتم ياأبناء الفراعنة العظام فجهزوا أشلاءكم حطبا رخيصا لأقران أبناء صهيون وأتباعهم النحالين الخونة " (ص 336) .

طاهر زين الدين اسماعيل ، جبل على الاعتناء بنفسه وشعره ، فضلا عن دماثته ورقته ، وهو فى نظر عارفيه رومانسى مثل عبد الحليم حافظ ، أعده الجد ليرث دكان ابيه زين الدين ، ولولا أنه شعر بالظلم الذى سيوقعه بطاهر حين يحرم من الدراسة ويجعله يتفرغ للعمل فى دكان الحلاقة لاسيما أن أقرانه قد التحقوا بالثانوى العام فاستنكف أن يقل عنهما حفيده فى مستوى دراسته (ص 49) ورغم هذا فقد وجد طاهر نفسه منخرطا فى العمل بالدكان ، شجعه على ذلك الجد نفسه بحجة الحفاظ على مملكة جده وأبيه المعرضة للحظر من جانب الولد كرم الذى يبحث عن دكان ينافسهم ويقتنص زبائنهم (ص 50) ورقة نفسه جعلته أكثر الإخوان تذكرا للأصدقاء الراحلين ويحس أنهم ارتاحوا مبكرا من أعباء الحياة ، ويحس أيضا أنه سيلحق بهم عما قريب (ص 51) .
غير أن ورما خبيثا يفترس فخذ طاهر كما افترس الجمل زراع فريد هنيدى ، وبينما كان طاهر يذبل بسبب محاصرة السرطان لجسده كانت فوزية تزداد رونقا وجمالا ، وهذا ما كان يؤجج النار فى صدره لاسيما وهو يرى السيد النحال يحوم حولها ، ويراها تستجيب له غير مقدرة للمخاطر التى تقع فيها بسببه ، ويقرر الطبيب ضرورة بتر ساقه ، ويحمل إلى غرفة العمليات ، ويدور هذا الحوار بينه وبين فوزية حين لمح ظل أبيه ووراءه السيد النحال :
هل أتى السيد النحال بأبى ليقر بموافقته على بتر ساقى ؟
أجل .. ومن الذى أبلغك بذلك ؟
لم يبلغنى أحد ، ولكن هذا ما حدث مع فريد هنيدى عندما بتروا ذراعه..
هل هى صدفة أن يتدخل القدر ويهدى أشلاءنا شلوا شلوا إلى السيد النحال ؟ ما أتعس من تقف الدنيا فى صف أعدائه !.. السيد النحال لم يكن ليطيقنى أنا وفريد هنيدى ، فليهنأ بأشلائنا (ص 160 ، 161 ).
ويفاجأ فريد هنيدى العائد إلى قريته مبتور الساق بأن شجرة ذقن الباشا قد قطعت (ص 162 )وهى الشجرة التى كانت تجمعهم فى ظلها ، يتناجون ويمارس فريد هنيدى الغناء لأصحاب الصحبة .. وبقطعها يكون عهد الغناء والأصدقاء قد ولى ، وهذا الحوار الذى دار بين المصابين : فريد هنيدى وطاهر زين الدين جدير بالتسجيل :
" هل تتوارى من مصيبتك ... أم تواريها يافريد ؟"
" أسوأ ما فى مصيبتنا أنها معلنة ، والأسوأ من ذلك أن رأى الناس فيها معلن "
" إذن فشفاؤنا سيطول بطول أعمارنا "
"ولذا فقد رحت أبحث عنه فى القرآن ، وكتب الدين وقررت الالتحاق بكلية أصول الدين "
" هيهات أن اجد لنفسى ملاذا مثلك "
عمد فريد إلى تحويل دفة الحديث إلى منحنى آخر :" يحكون عن صورك مع الممثلين ونجوم الكرة ."
فرد طاهر :" ويحكون عن صورك فى منصات تتويجك بالبطولة . والأضواء المنسكبة على عضلاتك "
" هذا ما صرنا نملكه .. مجرد صور لماض يمعن فى الغياب .."
فقال طاهر : " وأسوأ ما فيها أنها ستذكرنا بمأساتنا ، فاسترجاع ذكريات الماضى فكرة لن نقوى عليها . كل منا فقد جزءا من جسده ولكنى فقدت كل حياتى : فوزية "
" وأنا فقدت ما هو أنبل منها : البطولة .. والمجد "
" ويكفيك أنها اقتربت من هدفك بمهارة وإصرار تحسد عليهما "
" تلك هى كلمات العزاء التى لا تجدى نفعا .."
" أراك ترفض كل شئ "
" وقد اكتشفت شيئين : ضآلة الإنسان وسمو الحيوان ."
" تقصد الجمل قاتلك "
" ليس قاتلى .. بل ناقلى إلى السمو .. انتحار الجمل بعث لى برسالة "
" تقول برسالة ؟"
" رسالة وضعنى فيها أمام نفسى ، لم أكن اعرف الصبر فضربت الصغير الذى غاب عنى بالفاكهة ، ولم أكن أعرف العطف والحنان فلم أغفر للصغير حنوه على الجمل بإطعامه قبل إطعامى ، ولم أكن أعرف المؤازرة التى تبناها الجمل فوقف فى صف الصغير وانتقم له منى ، ولم أكن أعرف الندم فلم أندم على ضرب الصغير عندما تحولت عنه إلى ضرب الجمل ، ثم ما ضبطت فيه نفسى متلبسا بالضعف فلم أجرؤ على الانتحار مثل هذا الجمل الشريف ، لم أكن حليما والحلم سيد الأخلاق ، ولم أكن رحيما والرحمة فوق العدل ، ولم أكن قنوعا والقناعة كنز لا يفنى .."
" فجيعتك قادتك إلى الفلسفة "
" وأزالت غشاوة كانت تمنعنى من رؤية معنى الحياة السوية ، فلقد فهمت متأخرا أن الله سما بالإنسان إلى أعلى المراتب دون سائر مخلوقاته ووضع عقلنا فى أعلى نقطة من بنائنا الشامخ ، وأن الفعل الدنئ الوحيد الذى تنخفض فيه رءوسنا إلى مستوى مؤخراتنا هو الجنس الذى كنت أسعى إليه فى مغامراتى الشقية ، الجنس الذى حولنا مهمته النبيلة فى الحفاظ على استمرار الحياة إلى مجنون المخادع وبلاهة السفه واستعراض الفحولة المقيتة بعضو ذكرى فى حجم الابهام الأخرس الذى قد نخجل به من أنفسنا إذا قارناه بعضو الحمار .. الحمار ينتصر .. أما سواعدنا فمهما اشتدت فهى فى النهاية عقلة من القصب إذا قبض عليها فك الجمل .. مصيبتى أننى لم أكن أحس بهذه المعانى ولم أشعر بالملائكة التى تقاوم فى داخلى صخب الشياطين "
قال طاهر : " الشياطين تلهو .. وتمتلك الساحة .."
ففهم فريد أن طاهر يحيله إلى الحديث عن شيطانى حياته : السيد وأمير النحال فقال له : " هذان يهربان من نفسيهما المقيتتين فيحطمان مرايا الآخرين قبل أن يشاهدا صورتيهما فيها " ولما علق طاهر على ذلك باقتضاب قائلا :" لقد بدأ بتحطيم مرآتى ". (ص 163 ، 164)

لكن فوزية حمدان ستدفع فاتورة تخاذلها إزاء طاهر زين الدين من ناحية ومشاركتها فى تدمير حكمت وبشاير وقتلهما بالسم البطئ من ناحية أخرى ، إذ مطلوب منها تحت سيف التهديد أن ترتكب جريمة أشنع وهى تدمير أكبر رأس فى البلد (ص 249).
أصبح طاهر قعيدا بعد بتر ساقه ، وكان فريد هنيدى هو السلوى والعزاء له ، جمعتهما المصيبة ويتعجب فريد لهذه الشفافية التى ألمت بروح طاهر ، ووجد أن ما لا يراه بعينيه يراه فى منامه ، فهو أول من عرف بزواج فوزية من السيد النحال ، وذلك قبل أن يروى له فتيان حقيقة ما شاهده فى حفل زفاف النحال ، فظل طاهر ذلك الفتى الرومانسى ، يذرف الدموع حتى مات( ص 277 )، وكأنه يعيد إلى ذاكرتنا بعض ملامح الشعراء العذريين .

وما حدث مع طاهر وفوزية أشبه ما يكون بما حدث فى مصر . فطاهر ومصر أصيبا بالسرطان ولئن كان السرطان قد أصاب فخذ طاهر " إلا أن السرطان الحقيقى أنه لم يعقد قرانه على فوزية ، وتركها نهبا له تارة ولأمير تارة أخرى ، فوزية كانت المؤسسة الهشة التى كان من السهل الاستيلاء عليها .. ووجد أنه ( السيد النحال ) وأمير إذا كان قد تربصا بفوزية فهناك آراء وأسياد آخرون يتربصون لنظام عبد الناصر . (ص 245)

رأفت ابراهيم شاب مهذب صامت ، قسى عليه عمه حين أبعده عن القاهرة حتى لا يكون عبئا عليه وأشار إليه أن يلتحق بجامعة الاسكندرية ، وقد وافق رغما عنه ، وذلك لأنه لا يريد أن يدخل فى صدام مع عمه وهو متعلق بإابنته ليلى ، ويدخر اليوم الذى يعاود وصولها فيه .. لكن ابنة عمه ترفض ، خيبت أماله فيها حين رفضت أن تشاركه الحياة فى دمياط ، وكذلك يطرد رأفت إبراهيم من القاهرة الظالمة مرتين :" مرة لأنه لا يجب أن يقيم بها قرب ليلى ، ومرة لأنه لا يملك الامكانيات التى تساعده على الإقامة فيها مع ليلى " (ص 177).

ونتيجة لهذه الملابسات لم يصل رأفت إلى قطار الزواج إلا بعد أن اقترب من الخامسة والثلاثين ولم ينل سعادة الأبوة إلا بعد ذلك بخمس سنوات ، لكن آفته الكبرى هو داء البلهارسيا لذا ظل كامنا داخله منذ الصغر وأطل الآن فى صورة دفق دموى غزير .. ترسله دوالى المرئ .. وهو يكشف للشيخ فريد هنيدى عن معاناته مع المرضى ومع العجز المادى الذى لا يفى باحتياجاته ، ثم يوصيه بزوجته نادية وابنه حسن (ص 306،307)

وبلغ رأفت درجة بالغة من اليأس لم تنفع فى امتصاصها تباشير فريد هنيدى المتفائلة بنظافة العهد القادم فقال رأفت لفريد :
" أتريد أن تقنعنى أن ولدى النحال سيكفان عن السرقة لأن الرئيس الجديد أصدر قرارا بمنع السرقة .. النحالون يا شيخ فريد سرت سمومهم فى جسد الأمه سريان السرطان فى جسد طاهر والبلهارسيا فى كبده .. إذهب إلى الخطاطبة لترى بنفسك أن مزارع اللصوص تزداد وتتلاصق .. أنهم متمسكون بامتصاص نخاع عظامنا كالجمل الذى تمسك بتكسير عظامك .. الرئيس الجديد ورث قوافل من الجمال الناقمة والسرطانات الهائجة ووديدان البلهارسيا الناهشة .. فليقل ما يقوله .. المهم : الفعل .. ماذا سيفعل؟ " (ص 308)
وكأنى برأفت إبراهيم يستشعر قرب موته وهو يبتسم فى إشفاق لحال ثلاثة من الأصدقاء تحولوا إلى أشلاء : " والفاعل جمل تصدى لفريد ، سرطان اجتاح طاهر، وبلهارسيا تنهش كبدى فى نهم " (ص 308)
****
وهكذا يستعرض الكاتب ما حدث لمصر عبر الستين عاما الأخيرة من انتكاسات ؛ فجذور التردى بدأت فى عصر عبد الناصر ؛ لكن هذه الجذور وجدت التربة صالحة لأن تضرب فيها حتى الأعماق فى عضر السادات ؛ أما الفروع والأوراق فكانت قد أينعت وترعرعت فى العصر التالى ، هذا العصر الذى شهد موجات متتالية ومتلاحقة من الفساد ربما لم تحدث فى مصر حتى فى زمن المتنبى حين قال :
نامت نواطير مصر عن ثعالبها حتى بشمن ، ولم تفن العناقيد
أما ما يحدث الآن(يونيو2010) فقد تجاوز مرحلة نوم النواطير التى تواطأت مع الثعالب، وتهيئة الأجواء " الصالحة " لنموها وانتشارها ... لقد جلس النحالون على مقاعدهم فى كل المواقع ، وأخذوا يديرونها وفق أهوائهم .. لا يخلو موقع الآن فى جهاز الدولة من نحال كبير ، وما نسمعه وما نشهده من مآسي التزوير والنهب والسرقة والابتزاز وبيع الوطن بالقطعة ، والمشترون هم النحالون الذين سرقوا أموال هذا الوطن وهم يستظلون بقباب المجالس التى يصولون فيها ويجولون ويحتمون بالحصانة ، هذا فى الوقت الذى لا يجد فيه الشرفاء من هذا الوطن من يحميهم أو يحصنهم ضد اعتداء النحالين عليهم وتربصهم بهم .
الرواية هى قصيدة رثاء لمصر وما حدث لها بأيدى حفنة من أبنائها وصلوا إلى السلطة بالزور والبهتان ، امتلكوا الأموال التى اشتروا بها كل شئ ، وأخذ الوطن ينكمش تحت أقدام أبنائه الذين دفعوا حياتهم فى سبيل الدفاع عنه .
وفى الوقت الذى ينشغل فيه النحالون بصفقات الحشيش والأفيون والأغذية الفاسدة وبيع الآثار وإحاطة مزارعهم المسروقة بعشرات المزارع لملاك كلهم من أتباعهم ، يتم اغتيال الشهداء ، ويقع ابناء الوطن فريسة للسرطانات والأمراض وتسرق منهم أحلامهم وحبيباتهم . ويصاب الوطن هو الآخر بسرطان أصبح البرء منه أملا بعيدا .

هو زمن صعود القوادين .. هو الزمن الذى يلتبس عليك أن تفرق بين القائد والقواد ،هو الزمن الذى اقتحم فيه الكثيرون عالم السياسة من باب الندالة والوساخة ، وأكثر الناس فى هذا الزمن أفهم سياسة هم أكثرهم وساخة .
ولقد نجح الكاتب بجدارة وهو يرسم السيد النحال .. إذ يجسم من خلاله كل موبقات العصر .. فهذه الشخصية ترسم صورة عصر كامل ، وهى فى ذات الوقت خير تمثيل لهذا العصر ، ولعل هذه الشخصية تعكس ما حدث فى النصف الأخيرمن القرن الماضى، من انهيارات بالقدر الذى تعجز كتبة التاريخ والاجتماع وعلم النفس أن تعكسه .

لقد جمع الكاتب فى شخصية السيد النحال الانتهاكات التى حدثت فى عصر كامل ولئن عد هذا – من وجهة نظر الفن – قصورا حين تبدو الشخصية جامعة لكل خصال الشر ، إلا أننا نتعاطف مع هذه الصورة الفنية ونحس بمدى ما فيها من صدق لأنها تحيلنا إلى أشباهها الذين يحيطون بنا ، ونراهم يملئون بصورهم صحفنا وإعلامنا المسموع والمرئى والمقروء ، وباختصار تعد الرواية وثيقة تؤرخ لتاريخ ونمو واستفحال الفساد فى مصر،فى الثلت الأخير من القرن العشرين، بالإضافة الى العقد الأول من القرن الحالى..
وكما يرد عجز القصيدة الى صدرها ،ترد الرواية الشجرة "البلاد وأشلاء العباد" الى أصلها البذرة "لست أنا .....لكنه اسمى"
خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code