أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

فن المقالة عند د. زكي نجيب محمود

أضيفت فى الجمعة 29 أغسطس 2014

نشأة المقالة الأدبية:

ارتبطت نشأة المقالة العربية بنوعيها الذاتي والموضوعي بالصحافة ، ويعد رفاعة الطهطاوي بما كتبه من مقالات مبكرة في " الوقائع المصرية" ، وغيرها من الصحف رائدا من رواد المدرسة الصحفية الأولى ، وقد حملت مقالاته عيوب البدايات التى ورثتها عن عصور الانحطاط ، غير أن اتصال الرجل بالثقافة الفرنسية ساعده على أن يتخلص من كثير من القيود التي كانت تقيد خطي الكتاب .
إن المناخ السياسي والثوري الذي نشأ فيه جمال الدين الأفغاني ساعد علي التحلل من كثير من هذه القيود . غير أن التيار السياسي يقوى ويشتد مع الموجة التالية التي يمثلها مصطفى كامل ولطفى السيد ، ولقد لعب الأخير دورا خطيرا فى تكوين جيل جديد حمل عبء تجديد الأدب العربى الحديث منهم طه حسين والمازني والعقاد وسلامة موسى ، وكان لكل منهم إسهامه فى كتابة المقالة ، مما أدي إلى دفع دماء جديدة فى شرايينها ، سواء من حيث جدة الموضوعات المطروحة ، أم من حيث طرائق التعبير التى ساهمت فى تبلور أسلوب أدبى حديث ، وقد كان لثورة 1919 ثم ما أعقبها من حراك سياسي أثر فى رواج المقالة السياسية .
ولئن كانت طبيعة الصحيفة ساعدت على نشر المقالة السياسية ، فإن المجلات كان لها أثر أكبر فى نشر المقالة الأدبية ، وحسبنا أن نذكر مجلتى" الرسالة" و"الكاتب المصري" حيث أسهم طه حسين فى تحرير الأولى ، وتولى تحرير الثانية .
ولقد لعبت مقالات طه حسين دورا مهما فى إرساء قواعد المقالة الأدبية بما امتلك من موهبة فى اختيار موضوعات مثيرة للفكر ، وتقديمها بلغة سلسة وشائقة ، ولقد جاءت مقالاته – فى معظمها – محققة لما اشترطه زكى نجيب محمود بعد ذلك فى كاتب المقالة حين قال :
" أن يكون كاتب المقالة محدثا لقارئه لا معلما بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه ، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره ، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه ، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب فى أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا ، نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب فى حديقته ليمتعه بحلو الحديث ، لا أن يحس وكأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب!(1).
وكأنى بزكى نجيب محمود وهو يضع شروطا لكاتب المقالة الجيد – كأنه كان يضع نموذج طه حسين أمامه ليستشف منه ما ذهب إليه من شروط . ولئن كان طه حسين قد وازن بين طرافة المعنى ، وجمال اللفظ ،فإن هذه المعادلة قد اختلت بين يدى أحمد أمين الذى جاء احتفاؤه بالمعانى على حساب الألفاظ ، غير أن أحمد حسن الزيات قد بدا بصورة مناقضة لأحمد أمين ، وذلك حين رجحت عنايته بالقيم اللفظية على حساب المعانى .
وكما كون أحمد أمين وأحمد حسن الزيات ثنائية ضدية فى كتابة المقالة الأدبية ، كذلك كان الأمر بين عباس محمود العقاد وابراهيم عبد القادر المازنى ، إذ رغم ما بينهما من صداقة ، إلا أن العقاد كان جادا وصارما إلى درجة العبوس ، أما المازنى فقد كان مازحا فكها ، ثرثارا وعابثا . كان الأول معتدا بنفسه كأنه هرم راسخ الأركان لا تهزه أحداث الزمان ، بينما كان الثانى مولعا بالتهوين من شأن نفسه كأنه ريشة فى مهب الريح . ولقد انعكس هذا كله على مقالات كل منهما .
ولئن كان زكى نجيب محمود قد تتلمذ على كثير من الأدباء السابقين ، إلا أن علاقته بالعقاد كانت على قدر كبير من الخصوصية ، وذلك حين كان عضوا فى صالونه ، ثم عضوا بلجنة الشعر والفن بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب التى كان العقاد مقررا لها ، وإذ لم يكن العقاد يصبر على حجاج كثيرين ، كان له شأن آخر مع زكى نجيب محمود ، وذلك لما آنس فى مناقشاته من جد وصدق .(2)، وتوجت هذه العلاقة بأن أكرم العقاد زكى نجيب محمود بلقب " فيلسوف الأدباء ، وأديب الفلاسفة " .

تفوق زكى نجيب محمود فى كتابة المقالة :

ثمة عوامل ثلاثة تضافرت معا لكى يصل زكى نجيب محمود بالمقالة الأدبية إلى ذروة تطورها فى الأدب العربى:

1. انجلترا والفلسفة :

لقد كان عطاء انجلترا لزكى نجيب محمود ليس بأقل من عطاء فرنسا لطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل ، هناك عرف الفلاسفة الذين تجاوبت روحه مع أرواحهم ؛ فى مقدمتهم برتراند رسل الذى وجه جل كتاباته للدفاع عن حرية الإنسان وكرامته ، ثم وجه الجزء الباقى لهدم ما شاع فى المجتمع من عادات بالية وتقاليد متخلفة ، وذلك من أجل تشكيل عالم يؤمن بالعلم وقدسية العقل .... مما يمكن القول بأن مسيرة زكى نجيب محمود كانت موجهة بثأثير برتراند رسل مع احتفاظ الأول بأصالته ، بل بقدرته على تجاوز هؤلاء الذين افتتن بهم ومنهم برجسون ونيتشه وشوبنهاور .
وفى انجلترا التقى زكى نجيب محمود الدكتور أ.ج .آير أبرز أعلام الوضعية المنطقية التى تأثر بها الدكتور زكى ، فطفق يدعو لتبنى هذا المنهج ، وجاءت كتاباته تحقيقا عمليا له ، وذلك حين شجع الأخذ بثقافة العصر ، والسير فى ركاب العلم والعقل . ولعل أحدا لم يمزج الفلسفة بالعلم المعاصر كما صنع زكى نجيب محمود ، وريادته فى فلسفة العلوم لا تنكر ، أما حملته على ألوان التفكير غير العلمى فهى غير مسبوقة أيضا ، وكان أول ظهور للفلسفة الحديثة فى كتابه " قصة الفلسفة الحديثة " أما تبسيط الفلسفة وتقديمها باسلوب فاتن فأمر بدهى ؛ فقد جعل الفلسفة تسعى إلى رجل الشارع ، إن لم تكن فى شكل نظريات ومناهج ، ففى شكل مقالات أدبية موشاة بروح الفيلسوف القادر على أن يبث روح الفلسفة فى كل ما يتناوله من قضايا ومشكلات .

2. النبوغ الأدبى :

لئن كانت الفلسفة حرفة زكى نجيب محمود ، فإن الأدب هوايته ، ولقد مكنته قراءاته الكثيرة فى الأدب بصفة عامة أن ينجز الجزئين الثالث والرابع من " قصة الأدب فى العالم " ، عدا بعض الفصول التى تفرد غيره بكتابتها ، وذلك مساهمة فى مشروع مشترك مع أحمد أمين وعبد الوهاب عزام ويحيي الخشاب ، هذا فضلا عن الجزء الخامس من هذه الموسوعة الذى كان قد انتهى منه ، غير أنه لم يتحمس لنشره .(3)
ولقد وظف زكى نجيب محمود منهج الوضعية المنطقية الذى افتتن به على مناهج النقد الأدبى ، فرفض منها ما هو نفسى وتاريخى واجتماعى ، وذلك لأن النقاد اتخذوا من هذه المناهج وسيلة لغاية وراءها ، غير أن المنهج الذى ارتاح إليه هو الاهتمام بالشكل دون المضمون ، وهو اتجاه أقرب من سواه فى النزعة العلمية القائمة على تحليل موضوعى للعناصر وطريقة اجتماعها أو افتراقها دون أن يتدخل الباحث بعاطفة ذاتية تميل به إلى ما يرضى وجدانه ، لا ما يرضى " الحق" مجردا من غواية الوجدان ".(4)
ونبوغ زكى نجيب محمود الأدبى بدا مبكرا ، يشهد على ذلك حصوله على طائفة مهمة من الجوائز ، كان أولها " جائزة التفوق الأدبى " من وزارة المعارف عام 1939 ، وليس آخرها " جائزة الدولة التقديرية" فى الأدب عام 1975 .

3. وضوح الرؤية وتبلور وجهة النظر :

كان لا بد أن تنضح الثقافات المتعددة التى تمثلها زكى نجيب محمود لتبلور موقفا ، أو وجهة نظر محددة للحياة وللكون ، ولقد كان الرجل من هؤلاء الذين تبنوا موقفا علميا عرف به ، وهو أينما ولى وجهه ، انطلق من هذا الموقف ، بل إن كل كتاباته كانت تسير فى الطريق الذى يظهر وجهة نظره . أما وجهة النظر هذه فقد ارتكزت على الإيمان بالعلم والاعتداد بالعقل ، ومحاربة كل ما يقف فى طريقهما ، كما ارتكزت على ثقافة موسوعية تجمع بين العقل والوجدان ، وهذا ما دعا العقاد لأن يخلع عليه اللقب الشهير الذى أسلفناه .
وهو متسق غاية الاتساق فى موقفه الفكرى ؛ إذ يصعب أن تراه مترددا ، بل واضحا وحاسما كالسيف ، وهو على تنوع كتاباته وإبداعاته ،إلا أنه يبدو مثل كل المفكرين الكبار " ضحية لمجموعة من الأفكار الثابتة ، يظل يدور حولها طيلة سنوات إبداعه ، ينيرها بالكشف ، أو يتلمسها بالرمز ، أو يستشفها بلون من الحذر الذاتى ، وهذه الأفكار الثابتة ...... هى التى تهب الأديب تميزه – لا امتيازه – عن سائر أفراد القبيلة الأدبية ، وهو الذى يعطى لكلماته مبرر وجودها ، وهو الذى يسوغ له أن يبحث عن شكل .(5)
لا ينطبق هذا الكلام على إبداعاته الأدبية فحسب ، بل على مجمل نتاجه العلمى ، إذ هو كل لا يتجزأ ، تحكمه وجهة نظر واحدة ، وينطلق من موقف متماسك .يسند هذا الموقف ويدعمه ثقافة عميقة ممتدة جذورها فى تربة معرفية ، وليس غريبا ما يذهب إليه زكى نجيب محمود من صلة قربى بين الثقافة ووجهة النظر ، يقول : " إن ثقافة المرء هى وجهة نظره ..... فوجهة النظر هى " الاتجاه الذى نرسل البصر فى طريقه ".(6) ولم يكن زكى نجيب محمود يرسل بصره إلى الخلف / الماضى ، بل كان يمد هذا البصر إلى الأمام / المستقبل وهو إن كان ينعى على الجيل الحالى فقدانه إلى البوصلة التى تهديه إلى وجهة النظر ، فإنه يذكر أن ماضينا القريب عرف وجهة النظر التى تجسدت فى رفاعة الطهطاوى ثم فى محمد عبده ، ثم فى رجال العشرينيات من القرن العشرين .(7) ومن أولى بزكى نجيب محمود أن تكون له وجهة نظر محددة وحاسمة للحياة والكون والأشياء ، وهو الفيلسوف الذى نضحت الفلسفة على فكره وعمله ، عقله ووجدانه ، مريديه وطلابه ، وهو لم يكن راعيا لطلابه فحسب ، بل إن انكبابه على دراسة المجتمع العربى ، بكل ما يعكس من مشكلات وهموم وقضايا اجتماعية ، واهتمامه بتحليل ثقافة هذا المجتمع وتنبيهه إلى كم الخراب الذى عشش فى عقل الإنسان العربى ، والدمار الذى أصاب وجدانه ، كل هذا من أجل إيقاظ همة أبناء هذه الأمة لعلهم يفيقون على حقيقة وضعهم فى هذا الكون ، وما ينبغى أن يكونوا عليه لينقذوا أنفسهم وأمتهم من مستنقع التخلف الذى غرقوا فيه .
لقد امسك الرجل بمعول كبير لمدة تزيد عن نصف قرن ، وطفق ينهال به على أفكار كان يٌظن أنها مقدسة ، وأن المساس بها جرم ، فإذا بهذه الأفكار تذوى وتذوب كما تذوب الموجة على ذرات الرمل ، إن رجلا مثل زكى نجيب محمود لا بد أن يكون مؤمنا أعظم الإيمان بما يقول وبما يبشر من أفكار ، وليس مجرد رجل يرتكز على موقف واضح ، أو ينطلق من وجهة نظر محددة .
وفى هذا الصدد يمكن القول بأن زكى نجيب محمود كان مؤهلا منذ صباه لأن يستقل برأيه ، وأن يحدد سبيل سيره فى نفسه ، ولقد ترسخت هذه الطبيعة الفطرية فيه مع تقدمه فى مسيرته العلمية ، سيما حين افتتن بـ "الوضعية المنطقية" ، فاذداد صلابة سواء فى قوة رأيه ، أم فى وضوح رؤيته ، ذلك أن الوضعية المنطقية " مذهب على قدر عظيم من قوة الرأى وصلابة الحجة ووضوح الرؤية ، دعامته الأولى أقوى الدعامات وأعلاها شأوا ، ألا وهى العلم الحديث ، أما دعامته الثانية فأجل خطورة ، إنها المنطق الصورى ".(8)

***

أ.د زكي نجيب محمود -إذن- ظاهرة متفردة في حياتنا الثقافية ، وهو رائد حضاري يعرف أن دوره لا يقل عن نقل الأمة التى ينتمي إليها من الركود والجفاف إلي التحول والتجدد ؛ من الاتباع إلي الإبداع ، من التعلق المرضي بالماضي إلى التطلع نحو المستقبل ، من التقليد إلى التجديد .... من التشبث بالخرافة إلى اللياذ بالعلم والعقل ... وهو لم يتراجع عن هذا الدور طيلة حياته قيد أنملة ، ولم ينثن عن هدفه مقدار شعرة ، بل ظل فى مجاله المحارب الصلب الذي لا يرضيه أقل من الهدف المنشود ... وظل مؤمنا بقضيته إيمانا لم يتسرب إليه الخوف أو التردد إزاء السلطات العليا ، ولا إزاء سلطة الجماهير الغفيرة التي التي كانت ترزح تحت سطوة الجهل والفقر والخرافة والتي كان يمكن أن تمثل أعدي أعدائه إذا وقفت مناوئة لأفكاره ... لكنه كان من المهارة والذكاء بحيث يلف أفكاره وآراءه بالشكل الذى تصبح مقبولة لدي هذه الجماهير الجامحة، ولأنه مؤمن أشد الإيمان بحضارة عصره ، فقد وجدنا اهتماماته تتشعب وتشتبك مع مجالات معرفية متعددة ؛ علمية وأدبية وفنية ، وهذا أهله لأن يتناول الفكرة التي تبدو مهملة أو بسيطة ، فإذ بها تصبح بين يديه مشروع مقالة باذخا وشاملا ، وكأنه يصور الكون كله من أفق عال في هذا المقال، ولئن كنا قد أجمعنا علي أن طه حسين وعباس العقاد هما أهم رائدين من رواد النهضة الحديثة في القرن العشرين ، فإن من يقتفي أثر مقالات زكي نجيب محمود في كل المجالات المعرفية التي طرقها، لا بد أن يصل إلى نتيجة مفادها :
إن الدور الذى قام به زكي نجيب محمود لا يقل عن دور الرجلين ، بل يكاد يقف فى موازاتهما علي خط واحد ، وهو في مجال تبسيطه للعلوم وتفتيته الفلسفة إلى ذرات ينثرها هنا وهنالك فى المقالات التى تناولها يراعه، يكاد يسبق العقاد بخطوة ، ولكنه لا يتخلف أبدا عن جسارة طه حسين والدور التنويرى الذى اضطلع به . بل يمكن اعتبار هذا الثالوث أضلاع هرم كبير بزغت منه أشعة التنوير التي أضاءت عالمنا العربى كله .

مكانة المقالة الأدبية عند زكى نجيب محمود :


كانت المقالة الأدبية هى الشكل الأدبي المناسب لطبيعة الدكتور زكى نجيب محمود ، حيث كانت الفلسفة والتأمل عمله ، أما المقالة فكانت هوايته ؛ إذ هى الوعاء الذى أفرغ فيه خلاصة فلسفته وتأمله ، وعادة ما يجد رجل الفكر والتأمل لذته فى البحث عن التجارب الحيوية والحياتية ، يعيد تشكيلها بعد أن يكون قد صهرها في بوتقة فكره وتأمله ... فتخرج هذه التجارب مقالات تصور ما يمر به المجتمع من قضايا ومشكلات .
ولئن كنا نفسر العبارة الشائعة التي تقول بأن الشعر ديوان العرب ؛ نفسرها بأن الشعر هو السجل الحافل الذي يعكس تفاصيل ما كانت عليه الحياة العربية ، فعلى نفس المستوى يمكن القول بأن المقالة الأدبية في القرن العشرين وما بعده هي ديوان العرب ، لأن من أراد أن يتعرف علي تفاصيل الحياة العربية في هذه الفترة ، فليس عليه سوى أن يلجأ إلى ما نشر من مقالات ، وفي المقدمة منها مقالات د. زكي نجيب محمود بصفة خاصة .
ولقد غطت مقالات د. زكى نجيب محمود مساحة واسعة من القرن العشرين ، إذ امتدت هذه المقالات من أواخر الثلاثينيات حتي العقد الأخير من القرن المشار إليه. ستون عاما من عمر الرجل أفناها في كتابة المقالة ، فقال من خلالها كل ما اعتمل في عقله من غضب وقلق ، وكل ما جاش فى صدره من ضيق ونقمة إزاء ما يراه في مجتمعه من مظاهر النقص والقصور ، وصور التخلف والجهل . والمقالة الأدبية- بالذات- دون غيرها من الأشكال الأدبية ، كانت ملاذ الرجل وملجأه ؛ يلوذ بها كلما اعتراه ضيق ، ويلجأ إليها كلما أحاطت به نقمة.

المقالة بين الذاتية والموضوعية :

ولقد اختار زكي نجيب محمود طراز " المقالة الأدبية " وعاء يصب فيه أفكاره ورؤاه ، وهو لم يعمد إلى الفصل بين الذاتية والموضوعية في مقالاته ،. وهو نفسه يوضح خطته في اختيار مقالاته وفي مقدار الذاتية والموضوعية فيها قائلا : " وقد روعى في اختيارها أن تكون من طراز " المقالة الأدبية " التى تلتمس للفكرة إطارا يعرضها بطريقة غير مباشرة ، والتى لا بد لها أن تحمل نغمة من نفس كاتبها ، فهي موضوعية ذاتية معا ، تجئ فيها الفكرة مبطنة بانفعال صاحبها ،أو قل إن هذا الانفعال هو الذى يجئ مظهرا بفكرته ، أيهما شئت أن تكون له الأسبقية علي الآخر : أهى الفكرة تجر وراءها ما يصاحبها من انفعال ، أم هو الانفعال يبحث له عن فكرة تناسبه؟!(9)
هكذا يلخص الرجل كيف تتخلق المقالة وكيف تبدأ بذرة صغيرة ؛ هي انفعال ذاتي إزاء قصور أو عجز أو تشوه أو جهل ، ثم يأخذ هذا الانفعال فى التشكل عبر فكرة ، وقد يحدث العكس ، إذ تبدأ البذرة بفكرة ما تلبث أن تجر وراءها الانفعال الذي يبلورها ، وليس مهما بعد ذلك ، أتسبق الفكرة الانفعال ، أم تأتى الفكرة لاحقة للانفعال ، ولكن المهم أن الانفعال والفكرة ينصهران في بوتقة واحدة ، تكون هي الحاضنة التي تتبلور فيها المقالة الأدبية .
ومن ثم يصعب تقسيم مقالات زكى نجيب محمود من حيث الذاتية والموضوعية ؛ إذ هى في معظمها ذاتية موضوعية معا ؛ تتمثل الذاتية فيما لا يخطئه القارئ من انفعال الكاتب بما يثير من قضايا و يعرض من مشكلات ، أما الموضوعية فقد جاءت المقالات محققة للصورة المثالية التي حددها الدكتور أحمد الشايب للمقالة الموضوعية علي هذا النحو:

خطة المقالة :

"واما خطة المقالة (plan) فهى أسلوبها المعنوي من حيث تقسيمه وترتيبه ، لتكون قضايا متواصلة ، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها مقدمة لما بعدها حتي تنتهي جميعا إلي الغاية المقصودة. وهذه الخطة تقوم على المقدمة ، والعرض والختام.
فالمقدمة – تتألف من معارف مسلم بها لدى القراء ، قصيرة متصلة بالموضوع معينة على فهمه بما تعد النفس له ، وما تثير فيها من معارف تتصل به . والعرض – أو صلب الموضوع – هو النقط الرئيسية أو الطريقة التي يؤديها الكاتب ، سواء انتهت إلى نتيجة واحدة أو إلى عدة نتائج هى فى الواقع متصلة معا ، وخاضعة لفكرة رئيسية واحدة . ويكون العرض منطقيا مقدما الأهم على المهم ، مؤيدا بالبراهين قصير القصص أو الوصف أو الافتباس ، متجها إلى الخاتمة لأنها مناره الذي يقصده . والخاتمة – هى ثمرة المقالة وعندها يكون السكوت ، فلا بد أن تكون نتيجة طبيعية للمقدمة والعرض ، واضحة صريحة ، ملخصة للعناصر الرئيسية المراد إثباتها ، حازمة تدل علي اقتناع ويقين ، لا تحتاج إلي شئ آخر لم يرد في المقالة"(10)
لقد اتسعت منطقة التفكير الفلسفى لدى زكى نجيب محمود لتستوعب الآداب والفنون ، ومن خلال هذه المزاوجة يتجلي الفكر والحس منصهرين في سبيكة قلما نجد لها مثيلا تثمر قدرة فذة علي التذوق ، وعلي تقديم الفن من منظور فلسفي ، ونكون بإزاء نقد جديد وفريد في ثقافتنا العربية ، يقول زكى نجيب محمود:
" لقد حبانى الله ميولا فطرية ، تعددت حتى وسعت منطقة التفكير الفلسفى ، وقابلية التذوق للأدب والفن معا ، وهو تذوق ، قد يعقبه آنا بعد آن ، محاولات النقد القائم علي التحليل والتعليل .... ومن هنا ترابطت فى مخيلتى : الفلسفة ، والأدب ، والفن فى رقعة واحدة".(11)

نموذج للمقالة الأدبية

بيضة الفيل

قال الشيخ : الفيلة تلد ولا تبيض – والمشكلة المراد حلها هي هذه : لو كانت الفيلة لتبيض ، فماذا يكون لون بيضتها ؟ فى الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء ؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة تكون بيضاء ، واستدل على صحة قولة بدليل من القياس ودليل من اللغة ؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التى تبيض بيضها أبيض ، وليس فى طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذ بيضته لون آخر غير البياض ؛ فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك فى حجمه وقوته ونابه ، وهذه صفات كلها لا تستلزم فى البيضة لونا غير البياض فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة ، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة ، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة ، والبيضة هى هى فى لونها بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد هذه الحجة وزنا ورجحانا هو ان الخلائق تجرى على اطراد وتشابه ، فالكواكب متشابهة والبحار متشابهة والطير متشابه والحيوان متشابه ؛ فلو قيل مثلا إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام جاز لنا أن نحكم فى ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين ؛ وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض . وأما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض ، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه ، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض حمرة او زرقة ، لأن الفرع شبيه دائم بأصله ، ولذلك قيل هذا الشبل من ذاك الأسد .
ثم استطرد عمارة فتساءل عن حجم بيضة الفيل وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة ، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله ، بل لأنه فى قوته يوازى عشرين نعامة ، والأساس فى حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه فتصغر بيضة الحيوان أو تكبر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف ، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير علي خلاف الرأى الشائع بين الناس ، وقد أيد عمارة قوله هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا ، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا .
ثم تساءل عمارة أيضا : هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض ، فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير ؟ وأجاب أنه ليس فى نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب فى طبيعته ،فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة ، بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران ؛ وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا تخرج منه ذوات الجناح . وإذا فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح .
وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع فى بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم ؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة ان بيضة الفيل حلال أكلها بشرط ، حرام بشرط : فهى حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس ، وهى حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة . وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الانسان. بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها ، ولا عجب فهو الفقيه العالم الذى سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.
وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث فى بيضة الفيل من حيث لونها ، فقال عن دليل القياس الذى ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذى يبيض بيضة أبيض ، ولذلك فبيضة الفيل لا بد ان تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة ، إنه دليل لا يقوم علي سند من الواقع فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذى يبيض بيضه أبيض. فبيض البط فيه خضرة خفيفة ، وبيض الدجاج فى بعضه حمرة خفيفة ، ومن الطير ما بيضة أرقط ، ومنه ما بيضه ازرق ، وأما دليل اللغة الذى ينبنى على أن البيضة مشتقة من البياض ولذلك وجب أن تكون بيضاء ، فهو استنتاج معكوس ومغلوط فى آن معا : معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض ، فليس هذا دليلا على ان البيضة بيضاء لأنها بيضة ، بل هو دليل علي أنها بيضة لأنها بيضاء ، ولتوضيح المعنى المراد ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز ، فالدقيق أصل والخبز فرع فإن جاز لنا ان نقول إنه خبز لأنه من دقيق ، فلا يجوز ان نقول إنه من دقيق لأنه خبز . والدليل مغلوط ، لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا ،وقلنا إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت نتيجة خطأ ، لأنه لا يكفي أن يكون الشئ أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة ، وإلا لجاز لنا أن نقول أن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض ، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض ، وهلما جرا .
وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة ، بسط رأيه فى لون بيضة الفيل فقال : إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان ، والشذوذ لابد أن ينتج شذوذا ، وإلا لما تكافأت المقدمات والنتائج ، والشذوذ فى البيض أن يكون أسود ، ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تطون بيضته سوداء ، إذ لو باض بيضة بيضاء ، كنا بمثابة من يقول إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها ، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز .
وكان بين تلاميذ بن الحارث تلميذ نجيب ، فتصدى للرد على نقد معسرة ، فقال : إن معسرة وهو شيخ المناطقة فى زمانه ، قد زل زلة : ما كان ينبغى أن يقع فى مثلها رجل مثله ، فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص ، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط ، تراه فى الوقت نفسه يقول إنه مادام الفيل شاذا وجب أن يكون بيضه شاذا فى لونه كذلك ، والشذوذ فى البيض أن يكون أسود فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا ؟ هذا من جهة ومن جهة اخرى نحن نسائل هذا العالم المنطقى: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا ؟ ايظن معسرة أنه مادامت الحية لا تلد إلا حية ، فالأعرج لا يلد إلا الأعرج ، والأعمى لا يلد إلا الأعمى ؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشى على قدميه ، كما ينسل الأعمى من يبصر بعينيه ، فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجرى مع الإلف والعادة ؟
قال الشيخ : هكذا جرى النقاش بين العلماء .....................
****
وزلزلت الأرض زلزالها ، وقال الشيخ : مالها ؟ فقيل : يامولانا قنيلة ذرية ، فى لمحة تقضى على الأصل والذرية .
قيل : فعجب الشيخ أن كان فى الدنيا علم غير علمه.(12)

تحليل المقالة :

يقر الشيخ فى البدء بحقيقة لا يختلف اثنان إزاءها ؛ وهى أن الفيلة تلد ولا تبيض . ورغم يقينه بأنها حقيقة مؤكدة ، إلا أنه يختلق مشكلة لا أساس لها فى الواقع ، وكان عليه بعد ذلك أن يبحث عن السبيل لحل هذه المشكلة ، والمشكلة تبدأ بسؤال عبثى افتراضى هو : لو كانت الفيلة لتبيض ، فماذا يكون لون بيضتها ؟
ولأن المشكلة المفترضة والمطروحة تعد نموذجا للكيفية التى يفكر بها بعض من يتصدون بالفتوى فى شئون الدين .. من الطبيعى أن يختلف هؤلاء الشيوخ العلماء فى الإجابة عن السؤال المطروح فمنهم من يذهب إلى أن البيضة ستكون بيضاء ، ويتلمس فى سبيل الوصول إلى ذلك الأدلة القياسية واللغوية . غير أن عالما آخر من هؤلاء يفند أراء الشيخ الأول ويثبت ضعف أدلته القياسية واللغوية .
ويتأكد هذا العبث الفكرى ، أو إن شئت قل : هذا الخراب العقلى حين يتساءل الشيخ الأول عن حجم بيضة الفيل بعد أن وقر فى قلبه وعقله أن الفيل يبيض فعلا ونسى أن سؤاله كان افتراضيا .. غير أنه ينساق وراء هذا الفرض ليستولد منه فرضا آخر أو عبثا آخر وهو التساؤل عن حجم بيضة الفيل ، ثم يذهب إلى أبعد من هذا فى شطط العقل حين يتساءل : هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض ، فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ ثم يأتى التساؤل الأخير عن حكم الشرع فى بيضة الفيل أيحل أكلها للمسلمين أم تحرم عليهم ؟
ولأن التساؤل الأول عبثى ، فمن الطبيعى أن ترد الأسئلة المستولدة منه عبثية على هيئته، غير أن عمارة بن الحارث يطرح هذه الأسئلة بمنتهى الجد والصرامة، وليس الأمر فى البحث عن إجابات بأقل جدية وصرامة من طرح الأسئلة .
وبعد أن يفرغ عمارة بن الحارث ما فى جعبته وما يجود عليه علمه الشرعي واللغوى يتصدى له معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله فى بيضة الفيل ، وفى النهاية يتصدى أحد تلاميذ بن الحارث للرد على نقد معسرة بمنطق يسير فى نفس الاتجاه الذى يسير فيه العالمان السابقان.
والمقال صورة تهكمية على كيفية النقاش بين العلماء .... انهم لا يتصدون لمشاكل حقيقية يعانيها الناس ، ولكنهم ينزلقون إلى عوالم وهمية ،ويتبنون قضايا عبثية يتصدون للدفاع عنها بقوة وحرارة مصرين على أن ينتصروا لما يتبنون من أوهام ، متصورين بهذا أنهم يدافعون عن الحقيقة ، ولعلهم يذهبون أبعد من ذلك حين يتصورون أنهم يقيمون دعائم الإسلام التى يدأب علماء الغرب على تقويضها.
الكاتب يشعر بالغضب ، أو لعله قد أحس بغير قليل من القلق مما يحيط به من الطريقة التى يتناول بها علماء زمانه الأمور ، وربما ذهب إلى أنه لا مستقبل لهذا الوطن مادامت الصفوة فيه تعتمد العبث علما وتجاهد فى البحث عن أدلة تسنده وبراهين تدعمه ، وتفنى أعمار العلماء وهم غارقون فى هذا العبث حتى أذقانهم ، يملؤهم الإحساس بأنهم يرسون على الأرض قواعد العلم الذى ليس وراءه ولا أمامه علم .
فهم وحدهم يمتلكون أزمة العلم ، ويحتكرون مدينة العلم مصطفين أمام أبوابها يحرسون ما تخزنه هذه المدينة فى أحشائها من كنوز.
غير أن غضب الكاتب وسخطه لا يتحول إلى صياح وضجيج وعويل إزاء هذا العبث الذى يراه ، ولكنه يلجم مشاعره ، بحيث يسري هذا السخط فى نغمة هادئة مصطبغا بفكاهة لطيفة ، ومن المؤكد أن الكاتب يشعر بغير قليل من النقمة على علماء زمانه الذين أهدروا كل القيم العلمية باصطناعهم لهذه الأساليب العبثية ، غير أن نقمته لا تخلو من تفكه ودعابة .
السخط الذى يسرى فى نغمة هادئة خفيفة ، والنقمة التى لا تخلو من الابتسام ، والغضب الموشى بالسخرية .... هذه هى البذرة الأولى التى تتفتق عنها المقالة الأدبية للكاتب ، وحين يصوغ الكاتب نفسه شروط المقالة الأدبية ، يصوغها على هذا النحو :
" شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما ، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل ، فإن التمست فى مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها ، وإن افتقدت فى مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه ، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع فى كثير أو قليل ، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة.(13)
مزج السخط بالفكاهة هو الدم الذى يسرى فى عروق المقالة الأدبية فينعشها ويملؤها نضارة وحيوية ، ويجعل الفكرة تسطع فى جوانب العبارة . والسخرية أو الفكاهة الحلوة المستساغة تطالعنا فى مقالة زكى نجيب محمود بدءا من عنوانها ، ثم لا تلبث أن تسرى فى جميع أجزائها ، إلى أن تختم بها.
فالتركيب الإضافى الذى يتكون منه العنوان : " بيضة الفيل " يثير فضول القارئ ، ويثير أسئلة كثيرة فى ذهنه ،ويدفعه للمضى فى طريق القراءة لمعرفة سر هذه البيضة التى لم يسمع بها من قبل ، ولأننا ندرك أن الفيل لا يبيض ، فسنتعامل مع الأمر على أنه لون من السخرية التى ستتأكد حين نلتقي بأسماء الشخصيات التى يجرى الكاتب على لسانها رؤيتها للمشكلة المطروحة ، فثمة عمارة بن الحارث بن عمارة وثمة معسرة بن المنذر ، وهما إسمان يحيلان إلى أسماء تراثية تتردد على أسماعنا كثيرا ، وكأنه يؤكد علي ارتباط أصحاب هذه الأسماء بهذه الطريقة العبثية فى التفكير ....... ويظل نسغ السخرية يسرى فى لحاء المقال من خلال الطريقة التى يطرح بها الشيخان العالمان أسئلتهما أو استدلالاتهما أو رؤيتهما أو دفاع كل منهما عن وجهة نظره ....... ثم لا يخفى علينا خلط الجد بالهزل ، وذلك حين تدار مناقشة تبدو فى ظاهرها جدية ، غير انها تخوض فى أمر هزلى ، وتأتى الخاتمة على هذا النحو لتبلور هذه السخرية فى عبارة تطيح بهؤلاء الشيوخ وبعلمهم :
"وزلزلت الأرض زلزالها ، وقال الشيخ : مالها ؟ فقيل : يامولانا قنيلة ذرية ، فى لمحة تقضى على الأصل والذرية .
قيل : فعجب الشيخ أن كان فى الدنيا علم غير علمه".
وتتبلور السخرية هنا مكثفة وكاشفة لحالة العقم التى يعيش فيها هؤلاء الشيوخ ، ومظهرة كيف أنهم يعيشون منفصلين عن واقعهم ، وأنهم قد انكفئوا على متونهم وحواشيهم ظنا منهم أنها تحمل فى طياتها علوم الدنيا ، وعندما تدركهم علوم الآخرين مهددة بفنائهم يعجبون ويصدمون أن يحمل كتاب الكون علما غير ما يعلمون.
وحين يمسك الكاتب بمعوله ليقوض دولة العلم الباطلة ، لا يتعالم ولا يدعى أنه أعلم من غيره ، ومن ثم فإنه لا يحاول أن يعلم قارئه ، بل يترك هذا القارئ ليستشف ما وراء المقال من ضرورة السعى وراء العلوم الحقيقية التى تغير حياة الناس نحو الأفضل.
والكاتب حين يختار موضوعه يلتقط فكرته الأولى مما يعج به العالم من حوله ، ويمكن أن يتصور الكاتب وقد ضاق ذرعا بالطريقة التى يعالج بها الشيوخ أمور الدنيا والدين، فكان هذا الضيق هو نقطة البدء التى تتبلور حولها أفكار وآراء وأحلام تتفاعل كلها لتصب فى نهر المقالة الذى يستوى أمامنا دفاقا بالأفكار والآراء .
ومادامت المقالة أقرب إلى أن تكون نجوى صديق لصديقه يبثه من خلالها آراءه وأفكاره ، فمن البديهى ان يأتى أسلوبها سلسا سهلا خاليا من الصنعة والزخرفة والألفاظ البراقة ، بريئة من التكلف فى اللفظ والصورة.

***

التجديد فى المقالة الأدبية

1- التجديد فى الموضوع :

استطاع زكى نجيب محمود أن يلبس المقالة الأدبية ثوبا قشيبا لم تدركه على أيدى الكتاب السابقين ، ومن ثم كان من حق الرجل أن يتحدث عن إنجازه فى فن المقالة ، وعن رفدها بدماء جديدة ، ووجدناه يقف موقفا معارضا لمن أسماهم بقادة الأدب المصرى سواء فى فهمهم لطبيعة فن المقالة أو للطريقة التى يُتناول بها هذا الفن .
فى كتابه " جنة العبيط " بدأ زكى نجيب محمود الحديث فى المقدمة عن رأيه فى المقالة الأدبية ، وأعلن أنه يخالف بهذا الرأى ماذاع وشاع من آراء فى أدبنا ، ثم قدم للكتاب بفصل عنوانه : " أدب المقالة " فصل القول فيه فى شروط المقالة الأدبية الجيدة كما يراها .(14)
والشرط الأول هو" أن يكون الأديب ناقما، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل"(15)
أما الشرط الثانى فهو " أن يكون كاتب المقالة محدثا لقارئه لا معلما بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه ، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره ، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه ، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب فى أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا ، نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب فى حديقته ليمتعه بحلو الحديث ، لا أن يحس وكأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب!(16)
ثم نراه يوافق على ما اشترطه الكاتب الانجليزى " جونسون " فى المقالة الأدبية وذلك حين يشترط الأخير" أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق ، أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة . وهو في ذات الوقت لا يوافق على ما تعارف عليه أدباؤنا فيما يتصل بمفهوم المقالة حين يرونها " موضوعا انشائيا مدرسيا كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق فى الكم لا الكيف". (17)
وهو يكرر اختلافه مع هؤلاء الأدباء ويتهمهم بأنهم غير مقروئين ، وها هو يصيح فيهم " لا تعجبوا ياقادة الأدب المصرى ألا يقرأكم إلا قلة من طبقة القارئين ، لأنك تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المعلم لا الزميل، موقف الكاتب لا المحدث ، موقف المؤدب لا الصديق ، ويصطنع الوقار فلا يصل نفسه بنفسه ، وإلا حدثنى بربك أى فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسى".(18)
باختصار ، يأخذ الرجل على كتاب المقالة الأدبية فى مصر ، أنهم لا يلتزمون المعايير التى ينبغى أن تتوفر فيها، وأنهم إنما يكتبون موضوعات إنشاء أو خطب وعظية ، أو وصايا تأديبية ، أو دروس أخلاقية .... وما أبعد المقالة الأدبية عن كل هذه المعانى.
أما من حيث الأسلوب فيشترط زكى نجيب محمود أن يكون أسلوب المقالة سلسا يتناسب مع أسلوب السمر ، وأن تبرأ المقالة من الأساليب المصطنعة ، ومن الألفاظ البراقة ومن كل ما يثقل كاهل المقالة من مظاهر التزيين والتكلف.
كذلك ينبغى أن يكون كاتب المقالة الأدبية صادقا ، وهو لن يكون كذلك إلا إذا لمس الموضوع الذى يتناوله ، أو الفكرة التى ينطلق منها أوتار نفسه ، فتجاوب معها عقلا وروحا ووجدانا ، وهو حين يكتب يشعر أنه يسكب ذاته على الورق ، وهو فى هذا يشبه كاتب القصيدة لأن كلتيهما ( المقالة والقصيدة ) " تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب او الشاعر، وتتغلغل فى ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون ؛ وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق فى درجة الحرارة : تعلو وتتناغم فتكون قصيدة ، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية". (19)
يفطن زكى نجيب محمود كذلك إلى صعوبة فن المقالة وأنه لا يسلس أمام أى كاتب ، ويحذر من ينخدعون بسهولة المقالة بل يذهب إلى أنها أصعب فى الممارسة من الفنون الأدبية الأخرى ، وهو يعتبر المقالة أرفع من هذه الفنون ، لما تضمره من معانى وإيماءات ، يقول فى هذا الصدد " فقد يظن أحيانا أنها ضرب هين من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية . والواقع على عكس ذلك ، لأن أرفع الفن هو ما خفى فنه على النظرة العابرة ، فما أكثر من ينجح فى كتابة القصة والقصيدة ! وما أقل من يجيد كتابة المقالة.(20)

2- التجديد فى اللغة :

يعرض زكى نجيب محمود لنمط شائع من الشيوخ يستخدم اللغة لا لكى ينعش بها العقول ، ويحرك الأفكار ، ولكن لكى تسترخى العقول على شواطئ هذه اللغة ، وربما ذهبت فى بيات شتوى أو إن شئت قل ،بيات صيفى وربيعى وخريفى لا نهاية له . ولعله يشير إلى أن آفة الآفات أن تتحول اللغة إلى غاية ؛ تصبح غاية لذاتها ؛ إذ تشنف الآذان ، وتطرب الأذهان بسماع موسيقى اللغة وإيقاعاتها ...... ومن ثم تستفحل اللغة لتصبح عالما قائما بذاته مستقلا عن عالم الإنسان ، مؤديا إلى انفصال الإنسان عن لغته ، لعل هذا سبب فى لجوء معظم أفراد الشعب إلى استخدام اللغة العامية يسيرون بها حياتهم ، وذلك عندما يشعرون بانفصال اللغة الفصحى عن واقعهم ؛ إذ تحلق بهم فى سموات بعيدة ، فى حين تخوض أقدامهم فى مستنقعات الحياة ، وأوحال الأرض .
ولعل الرجل ينبه إلى ضرورة العمل على ردم الفجوة بين حياتنا الفكرية كما نطالعها فى الكتب ، وخبراتنا الإنسانية كما نعاينها ونعانيها على الأرض . وهو أيضا يفرق بين الألفاظ المنطوقة من اللغة والفكر " إذ من النطق ما هو هراء وتخليط كتخليط المجانين ، فلا بد إذن من شروط ينبغى لها أن تتوافر فى المنطوق ليكون ذا علاقة بما نسميه فكرا ، لقد كان أول ما افتتح به " ابن جنًى " حديثه فى الجزء الأول من كتابه" الخصائص " هو أن يفرق بين " القول " و " الكلام " ، بحيث جعل " القول " ما تتحرك به الشفتان ، وأما
" الكلام " فلا يكون إلا إذا اكتمل اللفظ حتى بات مستقلا بنفسه ، مفيدا لمعناه ، فلئن كان كل كلام قولاً ، فليس كل قول كلاماً.(21)
ثم هو يرى أن تطور اللغة مرهون بشرطين : " أن تحافظ على عبقريتها الأدبية أولا ، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنم المترنمين ، ثانيا ، وبغير هذه الثورة فى استخدامنا للغة فلا رجاء فى أن تحقق لنا الوسيلة الأولية التى ندخل بها مع سائر الناس عصر التفكير العلمى الذى يحل المشكلات "(22)
وفى هذا السياق يطفو على سطح الذاكرة تصوير فذ لصلاح عبد الصبور يجريه – على لسان سعيد – فى مسرحية " ليلى والمجنون " ، وذلك حين يعبر سعيد عن شوقه إلى هذا القادم القادر على أن ينفخ من روحه فى جثث الألفاظ الميتة فتحيا وتتوهج ، وتصبح لسان حال الناس ، وليس لسان حال المتشدقين بها ، يقول سعيد :
" يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها
يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال
إذ تتأبًى أجنحة الأقوال
أن تسكن فى تابوت الرمز الميت
يأتى من بعدى من يبرى فاصلة الجملة
يأتى من بعدى من يغمس مدًات الأحرف فى النار
يأتى من بعدى من ينعَى لنفسى
يأتى من بعدى من يضع الفأس برأسى
يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة
ويغنى بالسيف "(23)
ويتمادى " سعيد " فى الهجوم على هؤلاء الوعاظ الأوغاد المتاجرين بالكلمة ، يخفون بألفاظهم الجوفاء وجه الصدق القاسى ، وتتحول اللغة من أداة لكشف الحقيقة إلى وسيلة للتمويه عليها وسترها ، لذلك نجده يحمل عليهم حملة شعواء ، ويصفهم بأقذع الصفات ، فهم :
" كٌهانٌ الكلمات الكتبة
جٌهًالٌ الأروقة الكذبة
وفلاسفة الطلسمات
والبلداء الشعراء
وتماسيح الأموات
أقْعوا- فى صحن المعبد – مثل الدببة
حكٌوا اقفيتهمُ ، وتلاغوْا كذباب الحانات
لايعرف أحدهم من أمر الكلمات
إلا غمغمةً أو همهمةً أو هسهسةً أو تأتأةً أو فأفأةً
أو شقشقةً أو سفسفةً أو ما شابه ذلك من أصوات
وتسلو بترامى تلك الفقاعات
لما سكروا سُكر الضفدع بالطين
طربوا بنعيق الأصوات المجنون
حتى سقلت أجفانهم ، واجتاحتهم شهوة عربدة فظة
فانطلقوا فى نبرات مكتظة
يتنزعون ثياب الأفكار المومس والأفكار الحرة
وتلوك الأشداق الفارغة القذرة
لحم الكلمات المطعون
حتى ألقوا ببقايا قيئهم العنين
فى رحم الحق
فى رحم الخير
فى رحم الحرية".(24)

هكذا تنتحر الأفكار ، وتتحول الكلمات إلى جثث ميتة ليس فيها من مظاهر الحياة إلا الصوت ، والصوت الأجوف على وجه التحديد ، فهى غمغمات أو همهمات أو هسهسات أو تأتآت أو فأفآت أو شقشقات أو سفسفات ،ويلاحط تكرار مقاطع الكلمات : غمغم ، همهم ، ....الخ والذى يوحى بالتكرار غير المفيد والانبهاربما تحتويه اللغة من رنين وتزيين وترنيم .
اللفظ هو الهدف ، أما ما يؤديه اللفظ من معنى فليس مهما ولذلك نجد زكى نجيب محمود حين يشير إلى موضع التحول العظيم لينتقل العربى من حال إلى حال – نجده يرفع عقيرته قائلا : " ها نحن أولاء نضع الجواب : من حضارة اللفظ إلى حضارة الآداء ".(25)
وهو يلقى مزيدا من الضوء على هذه العبارة قائلا : " هو انتقال من ثقافة الكلمة إلى ثقافة العلم المؤدى إلى عمل ".(26)
وهو يخطو بالانسان العربى خطوة جديدة فى طريق تقدمه وذلك حين " ينتقل من ثقافة " الكلمة " إلى ثقافة " التشكيل " ، الذى يغير بها وجه الأرض ، ويحاول بعدها أن يبدل وجه السماء وأجرامها ، على الأقل بأن يزيح عنها السحر ويرفع النقاب " .(27)
وها هو يشير إلى من يحمل عبء التقدم قائلا " لم يعد التقدم مرهونا " بالعلماء" الفقهاء الذين يقصرون العلم على شروح على النصوص ، ثم على حواشٍ تلحق بالشروح ، أو الذين يجعلون الفقه " فقهاً " بما هو مسطور فى الكتب ، مهما كانت لهذه الكتب مكانتها . تلك ثقافة " الكلمة " ؛ ذلك علم " " بالكلام " وفقهٌ بالقراءة والكتابة . تلك جميعها بضاعة من أجاد أن يقرأ وقد يحسن أن ينضد اللفظ فى عقود أو موشحات ومطرزات ؛ لكن لا تلك الثقافة ولا ذلكم العلم والفقه بمديرٍ عجلات المصانع ، ولا برافع لطائرة جناحاً ، ودع عنك أن يوجه تقنيات الحرب فى ساحات القتال".(28)
وهو يؤكد على أن طريق التحول من التخلف إلى العصرية هو " أن تنتقل من "معرفة " قوامها الكلام ، إلى " معرفة " قوامها الآلة التى تصنع ". (29)
إن زكى نجيب محمود وهو يواجه مشكلة موقفنا من التراث فى كتابه الفذ " تجديد الفكر العربى " ويقف منها موقفا حاسما كعادته لا ينسى أن يثير مشكلة اللغة التى اكتسبت طابعا سحريا على ألسنتنا ، فأصبح لها حياة مستقلة عن حياتنا ؛ إذ تحولت إلى غاية حين ابتعدت عن التعبير عن واقع الناس ، وهو لذلك يرى " الفجوة فسيحة فسيحة فسيحة بين دنيانا الفكرية كما يصورها لنا الكاتبون ،وبين خبراتنا الشعورية كما يكابدها المكابدون ، ليست تلك من هذه ، ولذلك لا يقرأ منا أحد مقالا أو كتابا ، إلا ويحس كأنما خرج من نفسه ليتقمص أنفسا أخرى ليست هى أنفسنا ، إنما هى أنفس الذين ننقل عنهم إذا نقلنا ، أو يحس كأنما خرج من نفسه ليدخل فى مجموعة نغمية تقصد أجراسها إلى الآذان ولا تقصد إلى العقول أو القلوب ، وليس ببعيد عن ذاكرتنا ما كان يحدث لصغار الأطفال فى الكتاتيب ، حين يطالبون بحفظ أجزاء من القرآن الكريم ، فلا يحفظون إلا نغما صوتيا ، لا يدركون من معناه ذرة ، وإنى لأخجل أن أقول عن نفسى كم عاما مضى من عمرى قبل أن أتبين تفصيل المفردات التى ركبت منها آيات حفظتها صغيرا ، كالآية " لإيلاف قريش إيلافهم ...." أو كالآية الكريمة " ألهاكم التكاثر ...." (30)
تعمدت أن اطيل فى الاقتباس السابق لكى أبرز موقف الرجل من اللغة ، وكيف تحولت إلى طقس سحرى تصرفنا بما تحتويه من زخارف لفظية وتراكيب نغمية عن مواجهة قضايا الحياة اليومية ، وإن رجلا ينعى على اللغة ماانحدرت إليه لا بد أن تكون له لغته الخاصة فى مقالاته . ومن المؤكد أن كل من قرأ مقالات زكى نجيب محمود قد توقف عند استخدامه للغة وانتقائه للألفاظ بقدر كبير من الحساسية ، وهو ينتقيها لا من أجل رنينها وجرسها ، ولكن باعتبارها خدم للمعانى ، وبقدر ما كان الرجل دقيقا فى فكره كان دقيقا بنفس المستوى فى استخدامه للغته ، ولئن كانت اللغة وسيلة هامة بالنسبة للجماهير فى التعبير عنها ، فإنها تصبح أكثر أهمية سواء بالنسبة للعلماء وهم يصوغون نظرياتهم العلمية ، أم بالنسبة للفلاسفة عندما يتخذونها وسيلة لعرض أفكارهم .
والمقالات الأدبية التى خلفها زكى نجيب محمود كانت معرضا لعرض أفكاره ورؤاه ، ولقد كان الرجل حريصا على أن تأتى هذه الافكار واضحة ودقيقة ، ومن المؤكد أنه قد استفاد من جهود علماء مثل ليبنتز ورسل وكارناب فى ابتكار لغة خالية من العيوب .(31)
هنا يصعب تجاهل كون الفلسفة تدور حول اللغة ، ولقد تبلور الموقف أخيرا حول ما يعرف بفلسفة اللغة ، أما مذهب الوضعية المنطقية الذى آمن به زكى نجيب محمود فقد أعلى من شأن الدقة فى التفكير والوضوح فى اللغة . لقد تركز اهتمام الفيلسوف فى عصر العلم فى ضبط اللغة وتحليلها ، والألفاظ التى لا تشير إلى شئ فى العالم الخارجى تعد ألفاظا زائفة خالية من المعنى، ويرى الرجل أن " أمثال هذا اللفظ الزائف كثير ، نديره بيننا فى الحديث والكتابة ونظن أننا قد أفهمنا وفهمنا ؛ حتى يعنَ لنا أن نقف موقف المدقق ، فيتبين ساعتئذ أننا فى الحقيقة إزاء لفظ لا يعنى شيئا كنا أدرناه فيما بيننا على ثقة منا بعضنا ببعض ،وعلى عقيدة منا بأن الكلمة ما دامت مما يكتبه الناس ومما ينطقون به ، فيستحيل أن تكون قد خلقت عبثا ، ولا بد أن يكون لها معنى .(32) 

أسئلة للمناقشة:

1- ناقش جهود الأدباء فى تطوير فن المقالة منذ نشأتها حتى بلغت مرحلة النضج.
2- ناقش العوامل التى أكدت تفوق زكى نجيب محمود فى فن المقالة .
3- ناقش مكانة المقالة الأدبية عند زكى نجيب محمود.
4- المقالة الذاتية والموضوعية هى الوعاء الذى صب فيه زكى نجيب محمود أفكاره . ناقش.
5- ليست كتابة المقالة عملا عشوائيا ولكنها تسير وفق خطة واضحة . ناقش.
6- يرسم زكى نجيب محمود صورة تهكمية للعلماء من خلال مقالة " بيضة الفيل " ناقش.
7- جدد زكى نجيب محمود فى فن المقالة موضوعا ولغة . ناقش.

الهوامش:

1. د. زكى نجيب محمود : جنة العبيط ، دار الشروق ، ط 2 ، 1982 ، ص 9
2. د. زكى نجيب محمود : مع الشعراء ، دار الشروق ،
3. د. زكى نجيب محمود : قصة عقل ،
4. د. زكى نجيب محمود : قصة عقل ،
5. صلاح عبد الصبور : رحلة على الورق ، الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1971 ، ص 20 :21
6. د. زكى نجيب محمود : هموم المثقفين ، دار الشروق ، ط1 ، 1981 ، ص 202 &203
7. د. زكى نجيب محمود : هموم المثقفين ، دار الشروق ، ط1 ، 1981 ، ص 203
8. د. يمنى الخولى : ماهى الوضعية المنطقية ؟ : بحث منشور ضمن كتاب " الدكتور زكى نجيب محمود فيلسوفا وأديبا ومعلما" جامعة الكويت ، 1987 ، ص 71
9. د. زكى نجيب محمود ، قصاصات الزجاج ، دار الشروق ، ط1 ، 1974 ، ص 7
10. د. أحمد الشايب : الأسلوب ، ط 2 ، مطبعة الاعتماد ، 1945 ، ص 74
11. د. زكى نجيب محمود ، قصة عقل ، دار الشروق ، ص 173
12. د. زكى نجيب محمود ، جنة العبيط ، ص 67:72
13. د. زكى نجيب محمود ، جنة العبيط ، دار الشروق ، ط2 ، 1982 ، ص 9
14. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 5&6
15. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 9
16. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 10
17. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 11
18. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 11&12
19. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 14
20. د. زكى نجيب محمود ، المصدر نفسه ، ص 14&15
21. د. زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ، دار الشروق ، ط 5 ، 1978 ، ص 215
22. المصدر نفسه ، ص 223
23. صلاح عبد الصبور : ليلى والمجنون ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة ، 1970 ، ص 46& 47
24. المصدر نفسه ص 52 & 53
25. د. زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ، ص 234
26. المصدر نفسه ، ص 234
27. المصدر نفسه ، ص 235
28. المصدر نفسه ، ص 236
29. المصدر نفسه ، ص 239
30. المصدر نفسه ، ص 219
31. عبد الله العمر : مقال منشور ضمن كتاب" الدكتور زكى نجيب محمود فيلسوفا وأديبا ومعلما " ، ص 112
32. زكى نجيب محمود : من زاوية فلسفية ، دار الشروق ، ط 1 ، 1979 ، ص 111

تعليقات القرآء

كتب د.ستار مصطفى بابان فى الجمعة 05 مايو 2017

شكرا للاستاذ احمد عبد الحي، علی إهتمامه بالفیلسوف العربی الكبیر، د.زكی نجیب محمود. ولنا أطروحه‌، تحت عنوان (مقالات زكی نجیب محمود، دراسة أسلوبیة)، وقدمنا نسخة منها هدیة الی المكتبة المركزیة لجامعة الاسكندریة، تمت مناقشتها، في جامعة كوية, بإقليم كوردستان العراق, سنة2013م, للعلم والفائدة ..... مع فائق تقديري للجميع.

كتب حمراوي خضرة فى الأربعاء 25 مارس 2015

شكرا على هذه الدراسة القيمة موضوع يستحق البحث نظرا لتغييب اسم كزكي نجيب محمود من قائمة النقاد

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code