قراءة جديدة فى الصور المسيئة
اشتعلت الجامعة عقب اشتعال فتيل الصور التى قيل إنها مسيئة للرسول . وأراها مسيئة إلينا لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان علىَّ آنئذ - كأستاذ وكمشرف على كلية الآداب بكفر الشيخ - أن أشاطر الطلاب مشاعرهم ، لكن كان لا بد أن أصارحهم بأن هذه لن تكون آخر الإساءات ، كما أنها لم تكن أولها ، وستظل حلقات مسلسل الإساءة تتوالى مادمنا غارقين فى مستنقع الركود والتبعية ، وأكدت أن طريق العلم الذى يوصلنا إلى القوة هو السبيل الوحيد لضمان كف أذى الآخرين عنا ، أو على الأقل إبطال مفعول هذا الأذى ، ولم تمض فترة طويلة حتى فاجأنا بابا الفاتيكان بإهاناته ، ومن قبل اتهم بوش الإسلام بالفاشية ، ومن بعد صدرت صحف غربية توجه إساءات بالغة للإسلام وللمسلمين .
وأرى أن الصورة المعاصرة التى يقدمها المسلمون عن الإسلام هى سبب سوء الظن بهم وتقديم الإساءة تلو الإساءة إليهم ، ولئن بلغت هذه الإساءة محمدا صلى الله عليه وسلم أو القرآن فإن المعنِىَّ هم " أتباع محمد " و " أمة القرآن " .
إن الصورة التى ترسخت فى الذهن الغربى عن الإسلام هى محصلة لصور مدعى الإسلام ومنتسبيه ، محصلة لشيوخ انحرفوا بتوظيف الدين ـ قرآنا وسنة ـ من تحليل كوابيس النهار إلى تفسير أحلام الليل ، محصلة لشيوخ الفضائيات الذين يحسدون على جرأتهم بالإفتاء فى أى شئ دون أن يتوتر لهم حبل من أحبالهم الصوتية ، محصلة لواقع وعظى فج يمارس أبشع عمليات اغتصاب لحرية الإنسان وكرامته ودينه متوسلا بغابة من الميكروفونات المسعورة التى لا تراعى دينا ولا ذمة ، ولا تراعى حتى حرمة بعضها البعض ، ناهينا عن تعمد غض السمع والبصر والفؤاد عن آيات الله التى تنهى عن الجهر بالصلاة ، هى محصلة لمستنقع التخلف الذى غرقنا فيه بعد أن تصالحت معه حواسنا ، هى محصلة لأعمال البلطجة والفساد ، للنهب فى السر والسرقة على المكشوف ، هى محصلة لوزارات تتخبط ، وجامعات فقدت شرفها ولا تستحى وهى تمنح كل يوم عشرات من درجات الدكتوراه بمرتبة الشرف .
بعد ذلك ماذا عساكم تتوقعون شكل الصورة التى يلتقطها الآخر لكم ؟ واهمون انتم إذا تصورتم أنه سيقدم لكم صورة مزورة مثل تلك التى أدمنتم رسمها لأنفسكم أو لبعضكم البعض . ولأننا لا نريد أن نرى أنفسنا على حقيقتها وليست لدينا الشجاعة ، فسنظل نصرخ ونندد ونشجب ونتظاهر ... كومة قش اشتعلت وبعد دقيقة تكون الرياح قد عصفت حتى برمادها ... نملأ بالمقالات صحفا لا يقرأها أحد ، وبالفضائيات صخبا لا يراه أحد ، وبالإذاعات ضجيجاً لا يسمعه أحد ، وبالدنيا عويلا لا يصادف ود أحد .
يا سادة يا وعاظ ، يا موحِّدون ، يا من تذوبون عشقا فى الرسول ، هل تسمحون أن أهمس فى آذانكم وأقولها صريحة لكم ، أنتم آفة الدين ، أنتم - لا هم - الذين أسأتم إلى الرسول ، ولو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قام من قبره وألقى نظرة عليكم ، لهاله حالكم ، ولجلس لتوه مستندا إلى جذع شجرة ، مستبشعا ما يرى ، ومتشبسا بالسماء وهو يردد : اللهم أشكو إليك ضعفى قومى وهوانهم على أنفسهم وعلى الناس . . وأكاد أسمعه وهو يهمس : لما هانوا هنت . . لما هانوا هنت ..
ليس القرنان اللذان ظهرا فى إحدى الصور المسيئة سوى قروننا نحن ، قروننا التى نبتت فى رءوسنا على غفلة منا ، غير أنى أراها ، أراها فى المواصلات وفى الشوارع وفى الحارات ، أراها فى قاعات المحاكم وفى مدرجات الجامعات ، أراها فى أروقة الوزارات وفى المجالس وعلى المنصات . . . بحاجة نحن إلى إسترداد بصيرتنا لنتحسس رءوسنا ولنفهم عن أى مستوى إنسانى تخلينا ، وإلى أى مستوى حيوانى انحدرنا ، وكيف اختلطت ـ من ثم ـ القيم لدينا فأضحى الدجال عليما وصار اللص كريما وأمسى الوصولى حليما . . . لم نعد نفرق بين القاتل والمقتول . فى لحظة صدق نادرة انفتح باب الرؤيا أمام صلاح عبد الصبور ليرى زمننا مشيرا إليه :
" هذا زمن الحق الضائع / لا يعرف فيه مقتول مَن قَاتِلُهُ ومتى قتله /
ورءوس الناس على جثث الحيوانات / ورءوس الحيوانات جثث الناس /
فـــتحســــس رأســــك / فـــتحســــس رأســــك
وهو يكرر العبارة الأخيرة مرتين ليزيل شكا قد يعترينا فى إمكانية أن تنبت قرون فى رؤسنا ، أو أن توضع رءوس الحيوانات فوق جثثنا . .
يا سادة هذان القرنان اللذان شهدناهما فى إحدى الصور المسيئة هما رمز لقروننا ـ التى نبتت فى رءوسنا ونحيا بها فى القرن الحادى والعشرين ، ولا علاقة البتة للرسول صلى الله عليه وسلم بها ، وأجزم أن صورة الرسول لم ترد بخاطر أىِّ من صانعى الرسوم ، ما دار بخلدهم وخواطرهم هو صورتنا نحن . . أقرءو الصور ثانية لتروا أنفسكم . وكفى تنطعا ومكابرة ، ودافعوا عن أنفسكم فليس الرسول بحاجة إلى دفاعكم .
وهل يفرق الغرب بين الإسلام التاريخى والتيارات الإسلامية المعاصرة ؟ وحتى إن شاء أن يفرق ، فإنه سيظل أسير صورة مترسخة فى الذهن الغربى تختزل التاريخ العربى فى كونه تاريخ القتل وسفك الدماء وجز الرؤس وقطع الرقاب ، تاريخ الحكام المستبدين من ناحية ، والر عايا المدجنين على السمع والطاعة من ناحية أخرى .
ليس أمامنا سوى حل واحد ووحيد ، هو القوة ، حين نمتلك القوة سيتغير التاريخ ، أقصد ستتغير صورتنا فى عين الآخر ، وسيصبح تاريخنا على الفور هو تاريخ الإخاء والتسامح والمودة ، العفو والسلام والمحبة ، أنت ضعيف ، لن يرى فيك الآخر إلا ما يؤكد ضعفك . أنت قوى ، سيرى الآخر ما يثبت قوتك . ما دمنا ضعافا ستظل الإساءة تسقط فوق رءوسنا تلو الإساءة ، ولن تنتهى الإساءات ، والتاريخ يقول لنا ويؤكد ، فقط سينتهى مفعولها حين نصبح أندادا لا ذيولا ، منتجين لا مستهلكين ، فاعلين لا قوالين .
منذ قرون وخطباء المساجد المفوهون يتوسلون بالدعاء على (الكفار) ، من فوق جميع المنابر - عبر الميكروفونات والحناجر - بدءا من المسجد الحرام حتى أصغر زاوية - يدعون عليهم ليتولى الله مهمة تدمير ديارهم ، وتيتيم أطفالهم ، وترميل نسائهم ، وجعلهم وبلادهم غنيمة للمسلمين .. ما حدث وما يحدث هو العكس . ولم يستجب الله دعاءً واحدا من ملايين الأدعية التى قيلت من فوق ملايين المنابر عبر قرون لأن الله حين نظر إلينا لم نحل فى عينيه .. حين نظر إلى عبادتنا وجدها معجونة بماء النفاق والرياء ، وحاشا لله أن يقبل عبادة مغشوشة .
حين نصبح أندادا لهم لن نكون بحاجة إلى الدعاء عليهم ، ولن نكون بحاجة إلى معاداتهم وسنراهم بشرا أسوياء مثلنا ، وسنشعر بحاجتنا إلى الاقترب منهم ، والتعرف عليهم ، وتبادل المنافع معهم .
وحين نصبح أندادا لهم سيكفون تلقائيا عن الإساءة إلينا ، وحتى لو أساءوا فلن يكون لدينا الوقت للرد عليهم، مثلما نسئ إليهم الآن ولا يعيرون إساءاتنا اهتماما ، لأنهم أسمى من ذلك وأكبر .
د. أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب المتفرغ
كلية الآداب - جامعة طنطا