الرؤية الدرامية فى الأغنية العربية
ببساطة الدراما تعنى الصراع ؛ قد يكون صراعا فى الأفكار أو الرؤى أو الاتجاهات أو الأيديولوجيات ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأغنية فإن الصراع سيكون بين المشاعر والعواطف والأحاسيس ؛ وبما أن عاطفة الحب هى البؤرة التى تتجمع عندها ثم تنطلق منها كل الاشعاعات العاطفية والشعورية ، فإنه (الحب) سيكون مفجر الصراع ، ولئن كان الصراع يتطلب طرفين نقيضين أو أكثر ، فإنه فى مجال الحب سيكون بين محبة ومحبوبها ؛ وذلك عندما تقع المحبة أسيرة حب وهمى ؛ تتوهم أن الحبيب المتخيل يبادلها الحب ، لكنها تكتشف فى النهاية أنه لا يحس بها لأنه يعيش حبا آخر ، أو عندما تقع المحبة فى حب حقيقى ويحدث أن يتواعد المحبان على اللقاء فى مكان ما ، وفى هذا المكان تجلس المحبوبة فى انتظار حبيبها الذى لا يجئ ، فتقع فريسة الصراع بين شوقها للقاء وبين خوفها من غياب الحبيب..
أو عندما يحلق طائر الحب على صديقين يسيران معا حين تمر عليهما حسناء وتضحك لهما ؛ وتكون هذه الضحكة هى مفجرة الصراع بين الصديقين ؛ لأن كلا منهما يفسر الضحكة لصالحه ، لكن لم لا تكون لصاحبه ؟
هذا الصراع هو الذى يولد الحركة ويشعل المشاعر مترددة بين الارتفاع والانخفاض ، الشك واليقين ، الوهم والحقيقة ، الحضور والغياب ، أنا أم هو .
والشاعر الذى يدرك التناقضات والمفارقات فى المشاعر ويلتقطها حالة إحتشادها فى نفوس الشخصيات ، ثم يقوم بتسجيلها لينقلها للمتلقى الذى تنتابه نفس المشاعر التى حركت ذات الفنان ، مثل هذا الشاعر هو الذى ينقل إلينا رؤية درامية ، تتحرك من خلال الفعل ، وتتواصل من خلال الحوار .
والأغنية العربية بوجه عام ذات طابع غنائى ؛ أى يتغنى فيها الشاعر مشاعره وخواطره ، وينفث من خلالها آهاته وهمومه ، أحلامه وأمانيه ، لواعجه النفسية وأحاسيسه الشخصية ، ولهذا نجدها تتمحور حول ضمير ال "أنا" إذا كان يبث همومه ، أو ضمير "أنت" إذا كان بصدد مناجاة الآخر .
الملحوظ إذن هو سيادة الطابع الغنائى وانحسار الطابع الدرامى بالمعنى الذى قدمناه عن الأغنية العربية ، وعند استقرائنا للأغنية العربية لا نكاد نعثر إلا على عدد نادر من الأغانى التى يغلب عليها الطابع الدرامى ...
وكما أن الشعر العربى فى مجمله شعر غنائى ، فكذلك الأغنية ؛ غنائية بامتياز ، ودرامية فى حدود بالغة الضيق والندرة ، من بين عشرات الآلاف من الأغانى العربية لا نعثر إلا على عدد محدود من الأغانى الدرامية ؛ وحتى هذه الأخيرة تتفاوت فيها درجة الدرامية من المستوى البسيط إلى المستوى المركب...
ويقع اختيارنا على ثلاثة أغانى نرى أن الرؤية الدرامية تتوفر فيها بصورة لافتة :
1. أغنية " ساكن قصادى " لنجاة الصغيرة ، كلمات حسين السيد ، لحن : محمد عبد الوهاب سنة 1960.
2. أغنية " فاتت جنبنا " لعبد الحليم حافظ ، كلمات حسين السيد ، لحن : محمد عبد الوهاب سنة 1974.
3. أغنية " الركن البعيد الهادى " لأنغام ، كلمات صلاح فايز ، لحن : محمد على سليمان سنة 1988.
وتاريخ ظهور الأغنيات يعنى أننا نشهد أغنية درامية واحدة كل عقد من الزمان .
عندنا فى الأغنية العربية أن الرجل هو الذى يبادر بالبوح عن مشاعره تجاه الأنثى ، غير أن هذه القاعدة تكسر فى أغنية "ساكن قصادى" ؛ حيث تبادر المحبة بالبوح بمشاعرها تجاه هذا الذى يسكن فى مواجهتها :
ساكن قصادى ... وبحبه ... وأتمنى أقابله
فكرت أصارحه ... لكن أبدا مأقدرش أقوله
هى عاجزة عن نقل مشاعرها نحوه ، بحكم القيم العربية التى تجعل البوح عن المشاعر شيئا صعبا ، وذلك رغم أنها فكرت أن تصارحه ، ولكن هذه القيم تقف سدا منيعا دون تحقيق ما فكرت فيه ، وفضلت أن يظل حبها مكتوما إلى أن تحين الفرصة ، والحب المكتوم يتنفس من خلال الأحلام التى تكبر فى القلب وتحرضه على الطمع فى المزيد ... وتحلم المحبة – فيما تحلم – بأنها ستصادفه يوما فيسلم عليها ، ويطالع صورته ساكنة فى عينيها ، وتنقل إليه شعورها رعشة يديها.
ويظل هذا الحب يكبر ويكبر فى عالم الحلم الذى غزلته هذه المحبة وهى متشرنقة حول ذاتها.
هذا هو المقطع الأول الذى يقدم لنا المحبة وطبيعة الحب الجارف الذى انغمست فيه إلى قمة رأسها وهى لم تلتق حبيبها بعد ، ولم تتعرف على مشاعره تجاهها ...
لكن المفاجأة تصادفنا فى المقطع الثانى من الأغنية ، وذلك حين تستيقظ المحبة ذات صباح على صوت فرح فتبادر بالنظر من النافذة لترى علامات هذا الفرح ، ويتبادل جيرانها معها الإشارات قائلين لها : " عقبالك " فتسأل : من ؟ وتعرف أنه جارها الذى يسكن فى مواجهتها ... وعلى المتلقى أن يستبطن مشاعر هذه المحبة التى بنت أهرام حبها على رمال متحركة .
غير أن هذه المشاعر تزداد حدة حين تعزم هذه المحبوبة على أن تذهب لتهنئ العروسين ، ربما فى محاولة لمداداة خيلاتها ، أو أن ما حدث كان شيئا عاديا ومتوقعا ، وهى للمرة الثانية تجاهد فى إخفاء مشاعرها وكان عليها أن ترسم على شفتيها ابتسامة ، وعلى وجهها بشاشة كاذبة وهى ذاهبة لتقديم التهنئة :
رحت الفرح بالليل ورسمت بعينيه الفرحة
ساعة ما كان بيشيل بإيديه وبعينيه الطرحة
شربت شرباتهم وأنا قاعدة بصالهم
لحد ما قاموا ومشيت أوصلهم
لم يعد لهذه المحبة حق أن تحلم ، ولا حق أن تأمل ، فقد تبدد الحلم مع هذه اليقظة المفاجئة ، وتبخر الأمل بعد أن عاينت حبيبها وهو يهيم بأخرى ؛ إذ كان يرفع "الطرحة" عن وجه عروسه بعينيه قبل يديه ، ولا نملك إلا أن نرثى لحال هذه المحبة ونتعاطف معها وهى تلف وتدور دائخة مثل مجنونة حتى تجد نفسها :
ولقيتنى فايتة من جنب بابه
لاهو دارى بقلبى ولا باللى نابه
ياويلى ياويلى من طول غيابه
وعذاب الجرح اللى فاتوهلى وسابه
وليس بخاف أن الحركة الدرامية تتصاعد درجة درجة فى الأغنية إلى أن تلقى بهذه المحبة على شاطئ اليأس تجد ذكرياتها التى خلفت هذا الجرح الغائر فى نفسها .... حتى تصورت أن قلبها الصغير عاجز عن استيعاب هذا الحب الكبير ....
أما أغنية " فاتت جنبنا " فتطالعنا على هذا النحو :
فاتت جنبنا ،فاتت جنبنا أنا وهو
وضحكتلنا ، ضحكتلنا أنا وهو
فتتخيل الصديقين وهما سائران ؛ إذ تمر هذه الفاتنة بجوارهما وتنظر إليهما ضاحكة ، تتفجر الحركة الدرامية من هذه الضحكة التى انشغل الصاحب الأول فى تفسيرها :
أعرف منين إنها قاصدانى أنا مش هو
وأعرف منين إن الضحكة دى مش له هو ، له هو
وليه أنا ؟ ليه أنا ؟ ليه مش هو
وتظل الحركة الدرامية تتحرك متذبذبة بين "أنا" و "هو".
وتعبر هذه الأسئلة المتتالية عن الحيرة والقلق والرغبة الجارفة فى معرفة .. لمن هذه الضحكة ؟
ولا عجب أن تشعل هذه الضحكة الحركة الدرامية وتوجهها ، سيما حين تتكرر هذه المصادفة بعد ذلك ، ويفاجأ الصاحبان بهذه الفاتنة ظلا ثالثا يسابقهما ؛ فيلتفت الأول فيراها باهرة الحسن والجمال ، فلا يملك قلبه إلا أن ينبض بحبها سيما حين تكرر ضحكتها لهما وتتركهما فى حيرتهما ودهشتهما .
لكنه حين ينظر لصاحبه يستبطن مشاعره فيجده يريد أن يطرح عليه نفس السؤال الذى يدور فى خلده وهو : لمن هذه الضحكة ؟ لى أم لك ؟ ، يجفل عن السؤال ، ووسط الدهشة والحيرة يذهب إالي بيته مخدرا بهذه الضحكة التى تتردد فى سمعه وتملأ كيانه موزعا بين شعورين : الضحك والبكاء:
فرحان عايز أضحك
مهموم عايز أبكى
وهنا تتصاعد الحركة الدرامية وذلك حين يتوزع الفؤاد بين الرغبة فى الضحك إن كانت هذه الضحكة له ، والرغبة فى البكاء إن كانت الضحكة لصاحبه ، ووسط هذه المشاعر المتضاربة لا يملك إلا أن يخفف الضغط النفسى الذى يتعرض له من خلال البوح بحقيقة المشاعر التى تسربت إلى وجدانه:
حبيتها
أيوه أنا حبيتها.... مش قادر أنسى ضحكتها
وكان لابد أن يمر وقت حتى تهدأ العاصفة التى سببتها هذه الضحكة ويهدأ القلب ويصبح فى حالة تسمح له بالتساؤل عن كيفية الوصول إلى صاحبة هذه الضحكة :
وبعد يومين ، ابتدى قلبى يصحى من الفرحة
وصحانى
يسألنى امتى هنشوفها وأنا أقوله نشوفها فين تانى
غير أنه يظل أسير نار الغيرة ، خشية أن تكون هذه الضحكة ليست له وتكون من نصيب صاحبه ، وهكذا ظل يفسر أحوال صديقه من واقع هذه الضحكة :
إن لاقيت صاحبى بيضحك أقول :
دى لازم قابلته
وإن لمحت فى عينه شكوى أقول:
دى لازم خاصمته
غير أنه يحسم أمره ليخرج من عذاب الحيرة والشك ليعرف الإجابة منها ، ولقد استدل على طريقها بعدما تجشم العذاب :
وعرفت طريقها عرفته عرفته ، عرفته
وشقيت على بال ما عرفته ، عرفته
وما إن التقاها حتى سألها عن موقعه منها .. وذلك فى رسالة قصيرة من سطرين :
وجانى الرد جانى ولقيتها بتستنانى
وقالتلى أنا من الأول بضحكلك يا اسمرانى
ويفوز الأول بالجائزة فيهلل فرحا :
أنا أنا ، أيوه أنا أنا ، أنا أنا أنا مش هو
وهكذا تثبت الـ "أنا" وتنفى الـ "هو" ، ويحسم الصراع الدرامى بانتصار الـ "أنا" على الـ "هو" .
* * *
أما التجربة الدرامية الثالثة فهى أغنية "فى الركن البعيد الهادى".
وذلك حين يتواعد الحبيبان على اللقاء ، ويحددان المكان :
" فى الركن البعيد الهادى
وفى نفس المكان فى النادى "
وتذهب الحبيبة وتظل جالسة منتظرة الحبيب الذى لا يأتى ... وكلما مضى الوقت يزداد الشوق ، ويزداد الخوف من نسيان الوعد ، فترسل آهة طويلة تبحث عنه :
وفين انت فين يابحر الحنان
وفين انت فين يابر الأمان
ياخوفى لتنسى معادى
فى الركن البعيد الهادى
ويمر الوقت ويذوب الثلج فى كأس الليمون ، ويتهامس الجالسون على هذه التي تجلس بمفردها ، ماذا يقولون عنها ؟ وتقع فريسة للصراع ، هل تظل تنتظر أم تنهض لتغادر المكان:
استنى تانى ولا ايه ولا ايه؟
استنى تانى استنى ليه ليه
لكنها تفضل أن تتصل به لتسأله عن سبب غيابه حتي لا يغضب منها إن جاء ولا يجدها فى انتظاره:
طلبته عاتبته / قالي أهلا ياحياتي / وفى وسط موجة غضب / رمالى نجمة وطوق / وبكل رقة وأدب / وبشوق ما بعده شوق / قالي النهارده ايه / قلت النهارده السبت / من خجلى دبت وتبت / مالقيتش عندى رد / ميعادنا كان الأحد
وهنا تتبدد مخاوفها ، وتكون اجابته هى التحية التى أضاءت الظلام التى اكتنفها وهى الطوق الذى أنقذها من الغرق في زورق التية واليأس والانتظار ، وذلك أن موعدها كان الأحد .
كم من المشاعر والتناقضات والتوترات استطاع الشاعر أن يثيرها هنا ، ساهمت فى طبع هذه التجربة بالطابع الدرامى الذي كثفها وضمن لها البقاء والقدرة على النفاد إلى المتلقين الذين يسعدون مع الحبيبة حين يرمى إليها الحبيب طوق النجاة بعد تذكيرها بالموعد المنسي.
لوحظ أن التجارب الثلاث السابقة المستشهد بها مصرية ، لكنها بحكم الشيوع والانتشار واحتضان الوجدان الجمعي العربي لها وتبنيها ، اعتبرت عربية ، لأنها تجاوزت الحدود المصرية لتنتشر وتكتسب الطابع العربي ، فهى مصرية عربية مثل كل الفنون التي تنتجها مصر ، ويحتضنها العرب ، ويجدون فيها صدى لما يحسونه ويشعرون به.
بقلم الأستاذ الدكتور / أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة دمياط