آباء السيسى وأجداده ، وجوه من القوات المسلحة
عزا الكثيرون دخول ثورة 25يناير النفق المظلم إلى عدم وجود قيادة راشدة تمسك بدفة السفينة تصل بها إلى شاطئ الأمان ، زاد الطين بلة أن الفترة التي حكم فيها المجلس العسكري وقيل إنها فترة انتقالية ، كانت بامتياز فترة انتقامية ، لأن تخبط هذا المجلس وعدم وضوح رؤيته أدخلنا في متاهات ، ووجهنا إلى مسارات خاطئة، جعلتنا نبدأ السير في الطريق من جديد ، وكأن هذه الفترة لم تعد فترة ضائعة فحسب ، بل بدا الأمر كما لو كان المصريون يعاقبون على هذه الثورة التي ما كان يجب عليهم أن يقوموا بها ، وأكبر العقاب هو تسليم البلاد لأيدي الإخوان الذين أدخلونا في نفق أكثر إظلاما، وكان علينا أن نبدأ من نقطة الصفر وكأن أبا زيد الثورة المصرية لم يغز ولم يثر ولم يدفع باهظ الثمن ولا بالغ التضحيات.
وسط هذا الظلام الدامس أشرق وجه الفريق عبد الفتاح السيسى ، فاستقبله المصريون استقبال صحراء طال انتظارها للمطر ، وكما تتفتح الصحراء لتستقبل قطرات المياه بشوق وفرح ، كذلك استقبل المصريون كلمات السيسى ، تفتحت قلوبهم ، وانتعشت عقولهم ، وازدهرت الآمال في نفوسهم .
إن هذا الظهور المباغت للفريق السيسى أنعش ذاكرتي لأستحضر آباءه وأسلافه من أعمدة العسكرية المصرية الراسخة في التربة المصرية من أمثال أحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وجمال عبد الناصر ، وتسعفنى ذاكرتي الآن على استحضار ثلاثة وجوه معاصرة من بين مئات الآلاف من الوجوه التي عرفتها أثناء سبع سنوات قضيتها جنديا في مدرسة العسكرية المصرية ، بدءا من عام 67إلى ما بعد نصر أكتوبر 73حتى التسريح النهائى من القوات المسلحة عام 1974.
الوجه الأول
في مدرسة المظلات بأنشاص ، أطل علينا بوجهه الأسمر الوسيم ، ونظراته المتوقدة ذكاء ، وحركاته الواثقة ، والتلويح بيده الذي يأتي منسجما ومتمما لنبرات صوته ، وهو يلقى علينا خطبه الحماسية التي كان يجد نفسه مدفوعا إليها بحكم الظرف القاسي الذي كانت تمر به مصر عقب نكسة 67، هذه الخطب التي جعلت صورته تتماهى في نفوسنا مع صورة جمال عبد الناصر سيما حين يتهدج صوته ليذكرنا بواجبنا إزاء الجنود الإسرائيليين الذين يلوثون قناة السويس بالاستحمام فيها والاستجمام على شاطئها ... وقد كانت وجوه الشبه كثيرة ، فهما صعيديان أسمران تنطق كل خلية فيهما بحب هذه الأرض والتفانى في عشقها والوصول إلى أبعد مدى في التضحية من أجلها ، كان صدقه حقيقيا ،لا افتعال فيه ، ولا آثر لرياء أو نفاق أو ادعاء ، هكذا خلقه الله ، ولا تبديل لخلق الله ، حاسما كان وجازما إلى أقصى درجة ، وإنسانا يبكى أمام المواقف البسيطة كأنما يسكنه طفل .
لم ألتق في حياتي إنسانا يذوب عشقا في تراب هذا الوطن كما التقيته ، ولم أسمع خطابا حماسيا يتحدث عن مصر وزعفران ترابها وفيروز رمالها كما سمعت منه .
ولم أر في فترة تجنيدي إنسانا يعدل بين الجندى الصغير والضابط الكبير في الثواب والعقاب كما رأيته .
إنه المساعد حسين عبد القادر ، كبير معلمي مدرسة المظلات أو إن شئت قل : هو مدرسة المظلات ، ذلك أن المدرسة بدونه كانت تبدو خالية وهى تغص بكل زبائنها ، كما هى ممتلئة به ؛ لأن مجرد وجوده كاف لاستدعاء كل زبائن المدرسة من قادة وجنود وضباط صف ، ومعلمين ومساعدي معلمين.
وكل معلمي مدرسة المظلات، كانوا من صف الضباط، ولم يكن بينهم ضابط واحد، أو هكذا كان الأمر أثناء الفرقة (115) التي كنت أحد أفرادها في الشهور الأولى من عام 1968.
لكن صف الضابط كان يوازى في قوته وجسارته وتأثيره مائة ضابط .... هكذا رأينا صف الضباط في مدرستي الصاعقة والمظلات ، لقد كان حسين عبد القادر أسدا ، ولم تحل له الحياة إلا وسط حشد من الأسود، حتى الجنود المستجدون أراد لهم أن يكونوا أسودا، أما الضباط الذين أوفدتهم وحداتهم للحصول على فرقة القفز عادوا إليها أسودا يحدثون زملائهم عن روعة التدريب في مدرسة المظلات وعن أسدها حسين عبد القادر .
هذا الفريق من ضباط الصف هم الذين كانت تقوم على أكتافهم أعباء التدريب وهم بين الضباط والجنود الحلقة الكبرى بين حلقتين أقل حجما.
ومن رأى حسين عبد القادر، أو عرفه أو تخرج في مدرسته يعرف أنني لا أبالغ إذا قلت إنه يعدل ألف ضابط.
من طينة بشرية فائقة الجودة سواه خالقه ، فارسا نبيلا ، ومقاتلا جسورا ، صادقا وأمينا ، نظيفا وعفيفا....كأنما كان يدرك حساسية الموقع الذي يشغله، إنه مسئول عن مدرسة المظلات ؛ أحد جناحي القوات الخاصة ، أما جناحها الثاني فيتمثل في مدرسة الصاعقة التي يتخرج فيها أبطال الصاعقة والمعنى أنه المسئول عن سلاح له خطورته وتأثيره في المعارك، وكما كان يقال لنا : إن جندي القوات الخاصة يساوى عشرة جنود من الأسلحة الأخرى ،وكانوا يؤكدون ذلك بما نناله من تحسين مستوى الطعام ومن أصناف إضافية ننالها هذا فضلا عن علاوة القفز التي كان يحسدنا عليها زملاؤنا في الأسلحة الأخرى...والزى الخاص المميز لجندى القوات الخاصة ؛ هذا الأفرول المموه ، والبيريه الاحمر للمظلات والأزرق للصاعقة والبادج المعلق على الصدر والذى يعلن عن نوع السلاح الذي ينتمى إليه الجندى. أما الحذاء فكان مميزا هو الآخر برقبته الطويلة التي تبتلع فوق الجورب طرفى البنطلون ، فيبدو الحذاء برقبته الطويلة لامعا مختالا بين البيادات الأخرى مقطوعة الرقبة.
يكوًن سلاحا " الصاعقة " و " المظلات " ما يسمى "بالقوات الخاصة "؛ تلك التي تتلقى تدريبا فائق الجودة بحيث تستطيع القيام بما تعجز عن القيام به سائر القوات في كل الوحدات ، إنها تلك القوات التي يستعان بها في القيام بمهام تتطلب كفاءة قتالية عالية وبنية جسدية كاملة ، وقد تكون هذه العمليات خلف خطوط العدو وتتم بالإسقاط بواسطة المظلات، أو عن طريق الإبرار الجوى بالطائرات المروحية "الهيلوكبتر"......، هؤلاء هم جنود الصاعقة والمظلات . وهما معا يشكلان " القوات الخاصة " التي كان يقودها اللواء " سعد الدين الشاذلى " هذا الاسم الذي بدأ يتردد على أسماعنا بعد أن انخرطنا في سلك سلاح المظلات ، محاطا بقدر كبير من التوقير والتقدير ، جعلنا نتشوق لرؤيته .
كأنما أدرك حسين عبد القادر ، أنه - وإن كان الرجل الثالث في الترتيب القيادي لمدرسة المظلات ، بعد قائد القوات الخاصة ، ثم قائد المظلات – إلا أنه يتصرف كأنه الرجل الأول إدارة وقيادة وتأثيرا وحضورا، ولهذا كانت يده مطلقة في هذه المدرسة ، لقد كان القائد والرائد ولم نكن نرى أحدا غيره، صحيح أننا كنا نسمع عن قائد مدرسة المظلات ولم نره ، وكنا نسمع عن اللواء سعد الدين الشاذلى قائد القوات الخاصة ، لكنا لم نره في مدرسة المظلات . وظنى أن هذين القائدين قد عرفا ما لحسين عبد القادر من قوة وتأثير ومن قدرة على إدارة المدرسة وكفاءة في تدبير شئونها فتركاها له.وقد كان الرجل أهلا لهذه الثقة . فقد كان يقود المدرسة كما لو كانت مدرسته الخاصة ، أو مشروعه الخاص، كان محبا لطلاب مدرسته ، محبا وموجها وناصحا وحريصا على أن يكون كل شئ في مكانه ، إنه نموذج للقائد الكفء.. وأظن أننا كنا بحاجة إلى هذا النموذج في تلك الفترة العصيبة ، لأننا كنا بحاجة إلى أن نسترد ثقتنا في قواتنا التي اهتزت عقب نكبة 67، كان مصاحبا لنا في فترة التدريب الأرضي ، ثم تجده حاضرا معنا ساعة القفز من الأبراج ، وتفاجأ به في الطائرة يثير الحماس والفرح في النفوس كأن يوم القفز يوم عيد .
يصعد معنا إلى الطائرة في يوم القفز ، كانت كلماته تبدد كل المخاوف والوساوس والهلاوس التي يمكن أن تنتاب إنسان مقدم على القفز من طائرة يفصلها عن الأرض حوالي 1500متر .... يسير بيننا مشجعا مرددا بأعلى صوته " وحوش" فنرد خلفه " وحوش يافندم " ثم يعود قائلا : " أسود " فنردد : " أسود يافندم " ولا يعلم إلا الله مدى الخوف والرعب الذي كان يملأ قلوب هذه الأسود .....لكن وجود حسين عبد القادر كان كافيا لأن يجعل القافز منا لا يحجم عن القفز مهما استبد به الخوف والرعب.. كان ينجح في جعلنا ننتصر على الخوف .. ويجعل الوقت الثقيل يمر سريعا بقفشاته وضحكاته لا سيما حين يضاء اللون الأحمر الذي يعنى الاستعداد للقفز ، وهذا يعنى أن القافزين سينهضون من مقاعدهم ليتجهوا نحو الباب الذي كان فتحه مصحوبا بأزيز يخلع القلب ، وما هى إلا ثوان ويظهر النور الأخضر حتى تكون المجموعة الأولى من القافزين خارج الطائرة سعداء بمظلاتهم التي فتحت وها هم يشعرون أنهم أصبحوا نسور الجو ، وما هى إلا لحظات حتى يستعد القافز لاستقبال الأرض بما تدرب عليه من ضرورة أن يكون وجهه في اتجاه الريح مع ضم الرجلين والحرص على أن يستقبل الأرض واقفا بدلا من أن يستسلم للوقوع على الأرض فتمتلئ المظلة بالهواء وتجره على الأرض مما يعرضه للسحل وتداعياته .
بحسب القافزين أن يروا حسين عبد القادر واقفا عند باب الطائرة يشير إلى كل قافز قائلا : " اقفز ياوحش " حتى يجد القافز نفسه وقد بلغ الأرض بعد أن سيطر على مظلته وطواها شاعرا بأنه أسد حقيقي وليس أسدا مجازيا كما كان حاله قبل القفز.
لكن أكثر ما بهرنا في حسين عبد القادر هو طريقة تعامله مع الضباط الذين كانت تتراوح رتبهم من الملازم إلى العقيد والعميد ؛ إذ لم يميزهم عن الجنود ، وكان وهو ضابط الصف يوقع جزاءات على كبار الضباط إذا ما تقاعس احدهم في أداء المهام المطلوبة منه ...، وكثيرا ما كنا نتندر من هذا العقيد الذي وقع عليه جزاء بأن يعد عشرين من التمرين رقم (6) ..فيأخذ وضع التمرين ، وما إن يبدأ في العدد 3أو 4حتى يسقط على بطنه حين تعجز يداه أن تحملاه ، أو من ذاك النقيب الذي يتعثر وتخونه ركبه وهو لم يزل يعد الرقم عشرة للتمرين رقم (9)... لكن حسين عبد القادر كان حاسما مع هؤلاء وكان يسخر من طراوتهم ورخاوتهم التي لا تناسب العسكريين الأشداء من رجال القوات الخاصة.
حسين عبد القادر هذا علامة في تاريخ سلاح المظلات .. وما أظن أحدا من الذين تتلمذوا في مدرسته يمكن أن ينسى وطنيته وشجاعته وجسارته وفروسيته. . إنه أستاذ نصف قوتنا الخاصة التي كان لها دور كبير في حرب أكتوبر التي قدمت أكبر التضحيات في معركة "الثغرة" على وجه الخصوص.
كلما استعدت شريط الذكريات تماهت صورته مع صورة الفريق عبد الفتاح السيسى ؛ تلك التي صادفت قبولا حسنا لدى المصريين فأقول وأنا أتأمل الصورة الأخيرة متماهية - في نفسى – مع ذكرى الصورة القديمة لحسين عبد القادر :
" هذا الشبل من ذاك الأسد "
إنه عسكري من الطراز الفائق الممتاز ، رحمه الله وأجزل له العطاء قدر ما علم وما قدم لهذا الوطن من أبطال كانوا هم وقود نصر أكتوبر 1973.
الوجه الثاني
اللواء سعد الدين الشاذلي
عقب نكسة 67يشهد مركز تدريب القوات الخاصة بأنشاص – لأول مرة – أكبر حشد من الجنود الذين حصلوا على مؤهلات عليا ومتوسطة ؛ حشد من المهندسين والأطباء والمدرسين والتجاريين ....فيما يعنى أن خامة الجندى قد تغيرت من جندي أمي أو شبه أمي إلى جندي نال قسطا معقولا من التعليم ، لكن إذا كان الجنود قد تغيروا فإن الضباط وضباط الصف ممن كانوا يتعاملون مع هؤلاء الجنود لم يتغيروا .
وكان طبيعيا أن يتعاملوا مع الجندى الجديد بنفس طريقة التعامل مع الجندى القديم ، فلم يكن من السهل على هؤلاء أن يغيروا أساليبهم التي تربوا عليها لعشرات من السنين في يوم وليلة ، فما إن يقف الواحد منهم أمام الطابور حتى يلقى مجموعة من الأكليشيهات اللغوية المحفوظة تدور جميعها حول تهديد الجنود وربما تحقيرهم ، أو التقليل من شأنهم ، وهى صيغ لغوية كانت تتردد على ألسنتهم جميعا فيما يعنى أنهم كانوا يتوارثونها جيلا عن جيل ، لكن هذا الأسلوب إن كان قد استساغه الجنود القدامى ولم يجدوا فيه غضاضة ، فإن الأمر مع الجندى الطبيب أو المهندس أو المدرس كان مختلفا ...ومن هنا حدث الصدام ...وكان الصدام يأتي أحيانا في صورة استنكار لما يقال ، ولم يكن المعلمون من الضباط أو الصف قد اعتادوا أن يواجهوا بأي نوع من الاستنكار لما يأتون به من أفعال أو أقوال ، فبدءوا يظهرون شدة أكثر ، لكن هذه الشدة كانت تواجه باستنكار أشد ...وظل هذا الاستنكار يطفح على السطح رويدا رويدا إلى أن وجد الجنود أنفسهم يتجمعون بعد أحد طوابير التمام المسائية معلنين عن استنكارهم بصوت مسموع كان أقرب ما يكون إلى مظاهرة احتجاج ، غير أن أحد ضباط الصف المخضرمين نصح هؤلاء بأن الطريقة المثلى للتعبير عن الرأي هي في التوجه إلى اللواء سعد الدين الشاذلي قائد القوات الخاصة ، فهو وحده القادر على أن يردع كل متجاوز .... واستجبنا للنصيحة ... وفكرنا أن نكتب شكوانا ، وقد استثمرت ما لدى من أقلام وأوراق كانت بصحبتي كجزء من أدوات الثانوية العامة التي كنت أستعد للتقدم إلى امتحانها هذا العام.
أذكر أنني كتبت باسم الجنود المؤهلات الذين تركوا أعمالهم كأطباء ومهندسين ومدرسين ، وأتوا لأداء الواجب المقدس ، وكانوا يؤملون في معاملة تليق بالمستوى التعليمي الذي حصلوا عليه ، كما تليق بالمهمة الملقاة على عاتقهم ، وهى تحرير الأرض واسترداد كرامة الوطن ، فليس معقولا أن تناط مسئولية استرداد هذه الكرامة إلى إنسان تهان كرامته عشرات المرات على مدار اليوم .
ذهبنا إلى مقر قيادة القوات الخاصة وسلمنا شكوانا إلى سكرتير مكتب القائد وكان أحد الضباط ... أما المفاجأة التي لم نتوقعها أبدا ؛ أنه في مساء ذلك اليوم ، وعقب انتهاء طابور التمام ينبه علينا أنه على كل وحدات القوات الخاصة ؛ صاعقة ومظلات ، التوجه صباحا إلى مقر قيادة وحدات المظلات لأن قائد القوات الخاصة سيلتقي بنا.
وفى صباح اليوم التالي خرجت السرايا من أماكنها في أنشاص في طوابير وهن يرددن شعارهن فكنت تستمع أصداء هذه الشعارات تتردد في سماء أنشاص آتية من أماكن متعددة مرددة : " وحوش ، أسود ، .. بر .. بحر .. جو .. تضحية .. فداء .. مجد ".
ويضم هؤلاء جميعا أرض واسعة في قيادة الوحدات ... وبعد البروتوكول العسكري المعتاد ... ينتهي الأمر بأن يسلم الطابور للواء سعد الدين الشاذلي الذي نراه لأول مرة ، شخصية مهيبة ، مؤثرة ، عسكري من طراز رفيع ، نحيل الجسم ، متوقد الذكاء ، لا تخطئ العين ملامح العبقرية التي تبدو من حركاته الجسمية ومن طريقة سيره ومن نظرات عينيه . لكنه يملك عليك حواسك حين يتكلم بلغة واضحة ، ونبرات حاسمة ، بدأ بالترحيب بالجنود وذكرهم بأهمية الدور المنتظر منهم في تحرير الوطن ، ثم فاجأنا بترديد العبارات التي كتبناها له حين قال : لا يسترد كرامة الوطن جندي مجروح الكرامة ، ثم حدثنا عن بالغ حرصه على كرامة الجندى ؛ هذا الجندى الذي يعد حجر الزاوية في النصر المرتقب ، وأنه لن يسمح لأحد أن يخدش كرامة أي جندي ، وأن عقابا صارما ينتظر أي رتبة يبدر منها ما يوحي بذلك .
كان هذا اللقاء ، وكانت هذه الكلمات كافية لأن تبرئ ما في نفوسنا من جراح ، لكن الأهم أنها كانت كافية لردع كل من تسول له نفسه بعد اليوم أن يتجرأ على جندي بالفعل أو القول، وبدا الجيش المصري كما لو كان يولد من جديد ، أو كما لو أن تاريخ ميلاد جديد بدأ في ما يتصل بالتعامل مع الجنود ... وهكذا أرسى الشاذلي قاعدة : أن الجندى المؤهل يستحق معاملة راقية ترتفع إلى مستوى ما حصل من علم ... وعلى كل المتعاملين مع الجنود أن يعيدوا النظر في طريقة تعاملهم معهم ، صحيح أن بعضهم وجد صعوبة في التعامل مع الوضع الجديد ... فكنت تجد صف ضابط يجاهد جهادا عنيفا وهو يتجنب القاموس القديم الذي اعتاد تكراره في كل مناسبة ليصوغ طريقة مختلفة في الكلام لم يعتد عليها ، وكم تندرنا على صف الضابط الذي حاول أن يتجمل وهو يخاطب أحد الجنود فقال له : " سيادتك " وهو تعبير لا يقال إلا لكبار الضباط .
لكنها كانت ثورة حسمها اللواء الشاذلي ؛ إذ لا مفر من صياغة خطاب جديد في التعامل مع الجنود ، وكانت هذه هي نقطة البداية الجوهرية في إعادة بناء الجيش المصري الذي سيعقد عليه الأمل في تحرير هذا الوطن.
غير أن إحساسا عاما غمر الجنود جميعا ، وهو أن اللواء الشاذلي هو السند الحقيقي لهم ، ولم يخيب الرجل ظنهم لأنه كان يشعرهم أنه معهم لحظة بلحظة ، ولذا كان يباغتنا بين الحين والآخر بكتيبات صغيرة يمكن أن يضعها الجندي في سترته ، وقد أودع هذه الكتيبات خبرته العسكرية ، بحيث يعلم الجندى كل ما يهمه معرفته بدءا من أموره الشخصية إلى التصرف في المواقف القتالية .... لا أنسى أنه علمنا كيف أن زمزميه مياه تكفى لإرواء ظمأ فصيلة من الجنود ، وذلك بأن يملأ غطاء الزمزميه ويرشفه الجندي قطرة قطرة . ومن ذلك أيضا كيف يستحم الجندي بكوب ماء ؛ وذلك بوضع منديله في هذا الكوب ، ثم يمرر المنديل على جسده ليخلصه مما علق به من عرق وتراب ؛ ثم نكرر هذه العملية أكثر من مرة حتى يطهر الجسم تماما .. وكثير من مثل هذه الأمور التي مازلنا نستفيد منها في حياتنا العملية.
أذكر على سبيل المثال أن انقطاع المياه الذي يسبب مشكلة مزعجة لكثير من الناس لا تمثل شيئا ذا بال بالنسبة لي ؛ إذ يكفي أن أحتفظ بجردل واحد من المياه ، وحين أتذكر كوب الشاذلي ، أحمد الله كثيرا على هذا الخير العميم ... الذي يكفي حاجتي فترة انقطاع المياه وإن استمرت يوما أو يومين ، وتأتي المياه ولم ينفذ ماء الجردل بعد .
وعلى هذا النحو نستطيع أن نرتب حياتنا بالاعتماد على أبسط الأشياء ، علمنا الشاذلي كيف نستغني عن الأشياء ، لأن كل شئ له بديل متاح ، لا كيف نلهث خلف اقتنائها وإن كبدتنا أعباء ... أذكر أنني لا أحتاج إلى أن أقتنى سيارة ، لأن البدائل كثيرة ومتاحة ، وربما كانت أكثر أمانا وأقل تكلفة ، وأذكر أيضا أنني لا أحتاج في أى ظروف إلى أن أستوقف تاكسيا ، لأن أي مشوار في حدود ثلاثة كيلو مترات أعتبره فرصة للتريض ، وأترجل سعيدا .
أذكر أيضا أنه عندما كنت معارا إلى المملكة العربية السعودية ، كانت المسافة بين منزلي والكلية تصل إلى عشرة كيلو مترات ، وكنت قد آليت على نفسي أن أخصص يومي الأحد والأربعاء للوصول إلى الكلية ما بين المشي والجري والهرولة ، غير أن المشكلة التي واجهتني ، هي أنه بين الحين والآخر تفاجأ بزميل لك أو تلميذ عندك يقف بسيارته يدعوك إلى أن يصطحبك معه ، وعندما تعتذر عن ذلك شاكرا ، يتعجب الطلاب السعوديون قائلين وهم يشيرون إلى سيارتهم : لماذا خلق الله هذه إذن ؟ أليس لكي نريح هذين ؟ مشيرين إلى القدمين ، فأقول : إن الله لم يخلق هذه ( مشيرا إلى السيارة ) ولكن هذه من ابتكارات الإنسان . لكن الله خلق هذين ليحملا هذا ( مشيرا إلى الرجلين ثم إلى الجسد) وكنت أواصل السير مغتبطا بجسارتي ثم بقدرتي على الاستغناء.
هذه الدروس الحياتية هي من آثار ما تعلمناه في مدرسة اللواء الشاذلي ، ما تعلمناه منه شخصيا ، وما تعلمناه عبر التعليمات التي كان يتحفنا بها أو الكتيبات التي كان يسهر عليها ليقدم لنا وجبة تفيدنا أثناء الحرب ، فإذا بنا نكتشف أن فائدتها قد انسحبت على أيام السلم .
وعندما أقابل الزملاء القدامى ممن تخرجوا في مدرسة الشاذلي ألحظ فيهم رضا وقناعة وقدرة على تهيئة حياتهم بسهولة ويسر ، كأنما روح اللواء الشاذلي قد تلبستهم جميعا ، فطبعتهم بطابعه ، وجملتهم بأخلاقه .. رحمه الله ... فقد ترك لنا من الأخلاق ثروة لا تنفد .
قد يحسب البعض أن ما يقوم به تلاميذ اللواء الشاذلي شيئا باهظا ومكلفا . ولكنه في الحقيقة شيء هين ويسير ، وخاصة حين نقيسه إلى ما تدربنا عليه لسنوات طويلة من نظم للتقشف والعمل بسعادة في أقسى الظروف ... علمونا كيف نعتد في غذائنا على دواب الأرض وعلى أعشابها إذا عز الطعام .. وعلمونا كيف نتصرف بأنفسنا لتدبير أمور حياتنا ومعاشنا والقول المأثور في هذا هو " الجيش يقول لك : تصرف " .
أذكر طوابير السير التي كان علينا اجتيازها سواء في الوجه البحري بطريق القاهرة / إسكندرية أم في وادي قنا بالوجه القبلي ، وكانت مسافة الواحد منها تصل إلي ستين كيلو مترا ، على الجندي أن يجتازها وهو يحمل أدواته كما لو كان ذاهبا إلى مهمة قتالية....
وكنا في الغالب نسير على طرق أسفلتية ... وقرب النهاية يكون التعب والإجهاد قد بلغ من الجنود مبلغه ، وكان النوم يأتينا في شكل غفوة تستغرق ثوان ، يوقظنا من هذه الغفوة وقع القدمين الذي تحول عن الأسفلت إلى الرمل المجاور ، فنأخذ مكاننا السليم في الطابور ، ثم تعاودنا الغفوة ثانية وثالثة ... لكن هذه الثواني لها فعل السحر في تخليص الجسم من كثير من تعبه وكدره ، فتبدو كما لو كانت هبة من الله لهؤلاء الجنود للتخفيف عنهم حتى يصلوا إلى هدفهم الذي لا مناص من الوصول إليه مهما استبد بهم التعب ومهما لحق بهم من إجهاد ...
بعد هذه الرحلة هل يمكن لمثلي أن يستعين بـ " توك توك " أو " تاكسى " ؟ . لقد أودع الله في هذين القدمين أسرارا كثيرة وقوى خفية ، غير أننا باستسلامنا إلى حياة الدعة والراحة والكسل قد جعلنا أسرار الله تجفونا وتهجرنا لأنا لا نستحقها .
مازلت حتى هذه السن (67سنه) أواظب على السير لمسافات ليست قصيرة . أتحرك من محل إقامتي في دمياط الجديدة متوجها إلى دمياط القديمة حيث محل عملي ، مع سابق اتفاق مع زميلي الدكتور ابراهيم منصور على أن يلحق بى بسيارته لأني أكون قد بدأت السير قبل موعد تحركه بساعتين ، وإلى أن يصل إلىّ أكون قد تجاوزت ميناء دمياط ، وأوشكت أن أصبح على مشارف دمياط القديمة، وحتى يصل إلىّ زميلي أكون قد اجتزت ما يقرب من ستة كيلو مترات وأعتبر أن هذا فضل كبير في هذه السن .... لكن هناك إلى جانب متعة المشي ما هو أمتع ، فرصة أن تري وجوه الناس عن قرب ... أن تتأمل الحجر والشجر ... أن تراقب سلوك البشر ، ومن المؤكد ستواجهك بعض المواقف التي لا تخلو من طرافة ، مثل هذا البائع المتجول الذي يضع أقفاصه على عربة يجرها حمار ثم يدعوك إلى الركوب معه إشفاقا عليك من مشقة السير ، فتشكره ، فيدعو الله مخلصا أن يديم عليك نعمة الصحة ... تقترب في مثل هذا الموقف من هذا المصري البسيط الطيب ، والذي يختزل معاني جميلة كامنة في نفوس المصريين جميعا.
ثم هذا الشرطي الذي يجلس في أحد أكشاك المرور ، يلاحظ تكرار مرورك أمامه سائرا على قدميك ، فيظن أنك تسير لأنك لا تملك أجرة الباص . فيغلبه الفضول ويسألك : لماذا تسير في حين أنه يمكنه أن يوفر لك توصيلة مجانية ؟ وحين يكرر ملاحظته في أيام تالية ، تخبره بأنك تسير تريضا فيسأل عن عملك . لكنه يندهش حين يعرف أنك أستاذ في كلية الآداب ، وحينئذ يذكر لك أن ابنته طالبة في هذه الكلية ، فلا تملك إلا أن تبدى استعدادك لأن ترد له الجميل . ألم يبد استعداده لأن يوقف لك أي مركبة يضمن لك فيها الركوب المجاني تعاطفا مع ظروفك ؟ ، ليس أقل إذن أن ترد له الجميل في ابنته إعجابا بمروءته وشهامته ، واستعداده لأن يساعد أبناء السبيل من أمثالي.
أما هذه المرأة التي تتحدى تجاعيد وجهها الزمن ، فتلفت نظرك حين تمر عليها لتجدها قد ملأت الأقفاص الموضوعة على عربة بجانب الطريق – ملأتها بحزم خضروات متنوعة ؛ فجل ، جرجير ، بقدونس ، كسبرة ، شبت ؛ فتعجب كيف استطاعت أن تنجز هذا العمل ونحن ما زلنا في الصباح الباكر ، فتخبرك بأن البركة في البكور ، وأنها تبدأ عملها بعد فراغها من صلاة الفجر ، ثم تطلب منك أن تساعدها في حمل هذه الأقفاص ، ثم تدعو لك بدعوات مخلصة لا أظنها تخطئ طريقها إلى السماء ، ثم هى على استعداد لأن تفضي إليك بأسرارها ، فقد أصبحت زبونا عندها ، وها هى تحدثك عن عقوق الأبناء ، سواء الابن الذي استحوزت عليه زوجته ، أو الابنة التي تفرغت لرعاية زوجها وأبنائها ونسيت أمها ........
هذه المشاهد والمواقف الإنسانية الثرية ، كيف يصادفها المرء إلا سائرا على قدميه ، وإلا متخليا عن مثل هذه العربة الفارهة التي وقفت إلى جوار بائعة الخضروات يطلب صاحبها بعض حاجته منها ، وأثناء ذلك لا ينسى أن ينظر إليك شذرا ، سيما حين يرى آدميا في زى أستاذ منهمك في مساعدة بائعة الخضروات على حمل بضاعتها .... ثم يمضى بسيارته وهو ينظر إلىّ ، فأتابع ما تبقى من ملامح وجهه من المرآة هامسا : " والله لو علمت ما أنا فيه من متعة لألقيت بسيارتك جانبا وقاتلتني على هذه المتعة " ثم طفقت أحمد الله على نعمة السير ، وكذا على نعمة التفاعل مع هؤلاء البسطاء وعدم التعالي عليهم ، وهو ما يمنح الإنسان رضا وسعادة تعجز الاختراعات الحديثة كلها أن تمنحها إياه .
بقلم الأستاذ الدكتور / أحمد عبد الحي
أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة دمياط
يوم الحادي عشر من فبراير 2011م رحل سعد الدين الشذلي حيًّا ورحل مبارك ميتًا.