بواكير الرحلة المقدسة
قبل أن ينصرم عام الحزن ؛ عام 1967، كنا قد استدعينا نحن الشباب المصري الذي انتهى توا من دراسته المتوسطة أو الجامعية ، في إطار خطة قررت القوات المسلحة تبنيها ، وهى تجنيد حملة المؤهلات لأنهم الأقدر على استيعاب التقنيات الحديثة لاسيما بعدما تكشف من تخلف الجيش المصري عن العصر تدريبا وتسليحا وتعليما وإدارة، وهو ما ظهر جليا في نكسة 67فى يونيو الحزين....وبناء على نتائج الاختبارات التي أجريت لنا في مناطق التجنيد ثم توزيعنا على الأسلحة....ومن هناك؛ من منطقة تجنيد الزقازيق حملنا أمتعتنا على أكتافنا ليلا لنجد أنفسنا في صباح اليوم التالى في مركز تدريب القوات الخاصة بأنشاص..وكنت أسمع عن سلاح المشاة ..المدرعات..المدفعية..لكنى لم أسمع عن هذا السلاح الذي وزعت عليه وهو سلاح القوات الخاصة..وهناك في أنشاص عرفنا ما كنا نجهله بعد أن عرفنا أن هناك مدرستان :مدرسة للصاعقة وأخرى للمظلات..وكنا نستيقظ صباحا على زئير الجنود وهم يهزون السماء بشعارهم وكنا نتبين منه كلمات يرددونها:أسود..وحوش..بر..بحر..جو..وما هى إلا أيام حتى كنا نحن الجنود الجدد قد انخرطنا في سلك الجنود القدامى ،وبدأ هذا العالم الجديد الغريب تتكشف لنا معالمه شيئا فشيئا، وأصبحنا على دراية بالملامح التي تميز مدرسة الصاعقة عن مدرسة المظلات ،بحيث يمكننا أن نختار بينهما في يوم الاختيار....وكان حضور ما يسمى " بطابور المعركة" في مدرسة الصاعقة كافيا لعزوفنا عن الإستمرار في سلاح الصاعقة ..،وتفضيل سلاح المظلات عليه،رغم ما ينطوى عليه هذا السلاح من مخاطر كانت أصداؤها تتردد على مسامعنا من قدامى الجنود.
أما " طابور المعركة" فحكايته، أنه يضع الجندى في أجواء المعركة ،ولا أنسى يوم أن طلب منا أن نسبح في أحد المستنقعات المعدة سلفا والتى سبق أن ألقيت فيها جثث لتشكيلة من الحيوانات؛ قطط وكلاب وفئران وثعابين....ثم يطلب منك أن تسبح في هذا المستنقع في ذات الوقت الذي يقوم فريق من الجنود المدربين على الرماية بإطلاق النيران بكثافة على رؤوس السابحين بحيث لا تصيب هذه الرؤوس دون أن تبعد عنها سوى سنتيمترات ..والهدف هو وضع الجنود في أجواء المعارك الحية....وما كان يحدث أثناء السباحة أن تفاجأ بجثة من الجثث الكبيرة بين أحضانك..وهنا لا ينبغى أن تبدى انزعاجا،وأن تهب واقفا ،لأن الرصاص الكثيف المحيط بك لا يتيح لك الفرصة في مجرد رفع الرأس..
حضور هذا الطابور كان كافيا لعزوفنا عن الاستمرار في مدرسة الصاعقة، وهربنا إلى مدرسة المظلات، لكنه كان هروبا أشبه بمن يستجير من الرمضاء بالنار، وذلك لأن ما كنا نسمعه عن مخاطر مدرسة المظلات ، وأقلها هو السقوط المباشر من السماء للأرض إذا ما خانت المظلة صاحبها ولم تفتح بسبب خطأ في تطبيقها – لكن هذا الموت المفاجئ كان أهون على نفوسنا من هذه الجثث التي كان يطلب منا أن نحتضنها وأن نربت بحنان على ظهرها ،وقد يبالغ المدرب ويطلب من الجندى أن يطبع قبلة حميمة على فم جثة من الجثث التي صادفته لاسيما إذا أبدى نفورا منها أو انزعاجا من ملامستها.
مركز التدريب الأولى بمدرسة الصاعقة:
هذا هو المكان الذي يستقبل فيه الجندى القادم من الحياة المدنية إلى حياة أخرى جديدة عليه ...وأهم وظيفة يقوم بها هذا المركز هى أن يغسل كل آثار الحياة المدنية التي أتى بها الجندى،كل العادات والتقاليد التي اعتادها، وكل السلوكيات التي يمارسها، يعامل الجندى كما لو كان مادة خام علقت بها شوائب كثيرة ،وأنها لكى تصبح صالحة لتدويرها من جديد علينا أن ننقيها وننظفها ونصفيها مما علق بها من شوائب الحياة المدنية بكل ما فيها من بساطة وتلقائية ورخاوة لا تليق بمن سينتظم في سلك الجندية ، وكانت عملية الغسيل هذه قد استغرقت شهرا ونصف،أصبح الواحد منا خلقا آخر،الاستيقاظ المبكر، الانتظام في الطوابير الرياضية ،الاعتياد على آداء المجموعة التكوينية ، الجرى لمسافات طويلة وسط حدائق أنشاص الشاسعة نهز الكون ونوقظه على صيحاتنا : أسود، وحوش، بر ،بحر، جو، إدمان مجموعة التمارين رقم 6،9، والعقلة، وأدائها في الذهاب والإياب، في الصباح والمساء وعقد مباريات ودية فيما بيننا لمعرفة من سيصل إلى العدد الأكبر في هذه التمارين...الوقوف خدمة مساء، الجرى حتى الكنتور 50" وهو جبل في صحراء أنشاص صعوده يتطلب قدرا كبيرا من الجهد ويسبب مشقة ملحوظة للجنود .الاكتفاء بالطعام الميرى ويمنع منعا باتا الاعتماد على أية أغذية خارجية ... الاندماج في طابور الصاعقة الذي كان يتعرض فيه الجنود للكمات وركلات من معلمى الصاعقة. إذا أبدوا تكاسلا أثناء آداء الطابور...منع النزول إلى الحياة المدنية ومنع الزيارات ،الانقطاع التام لحياة عسكرية جديدة تؤهل الإنسان لما سوف ينتظره من سنوات يقضيها في فترة التجنيد . كان هذا هو الفرن الذي لابد أن يبدأ به الجندى حياته في القوات الخاصة ...هذا الفرن هو الذي ينقل الإنسان من مرحلة المدنية إلى مرحلة العسكرية ، بعد أن يتم صهره من إنسان مدنى يتسكع في الشوارع بالقميص والبنطلون ، يقزقز اللب، ويعاكس البنات ،إلى رجل عسكرى سلوكه وتصرفاته وأقواله كلها محكومة بما يسمى الضبط والربط ....ملتزم بتنفيذ الأوامر وإن كانت خطأ.
أصبحنا الآن مؤهلين للاختيار إذا ما خيرنا بين مدرسة الصاعقة أو مدرسة المظلات ، وكنت قد قررت من قبل أن ألتحق بالمدرسة الأخيرة.
في مدرسة المظلات:
ثمة اختبارات عديدة كان مطلوبا اجتيازها تؤهل للقبول بمدرسة المظلات ،أولها اجتياز اختراق ضاحية لمسافة ثمانى كيلو مترات في مدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة ،فضلا عن إجادة آداء التمارين رقم 6الضغط ورقم 9القرفصاء ،والعقلة وتحديد حد أدنى لكل منها ومن لا يصل إلى الحد الأدنى في هذه التمارين يعود إلى الوحدة التي أتى منها، لأنه لا يصبح مؤهلا للقبول في مدرسة المظلات التي تتطلب كفاءة بدنية عالية كنا قد تدربنا عليها في مركز التدريب الأولى بمدرسة الصاعقة.
في الهانجر:
والهانجر مكان بحجم ملعب كرة اليد محاط بأسوار عالية ومسقوف بسقف مرتفع يسمح بوجود برجين للتدريب على القفز الأرضى ..فضلا عن إحتوائه على كل أدوات التدريب الأرضى التي تؤهل الجنود للقفز من الطائرة....والتدريب في الهانجر ممتع في مجمله،وليس شاقا على جنود قضوا ما يقرب الشهر والنصف لاقوا فيها تدريبا شاقا للجرى لمسافات طويلة وعلى آداء دستة تمارين كانت تسمى بـ "المجموعة التكوينية" هذا فضلا عن تمارين خاصة كان يطلب منا آداؤها في أى وقت وهى التمرين رقم 6،9بالإضافة إلى تمرين العقلة....هذه التمارين صقلتنا ورفعت من مستوى كفاءتنا البدنية بحيث أصبح التدريب في هانجر مدرسة المظلات أشبه باللعب المسلى الممتع .
البرج:
أما البرج فهو برج يصل إرتفاعه إلى ما يقرب من خمسين مترا وهو موجود خارج الهانجر ، وهو يمثل آخر مرحلة من مراحل التدريب الأرضى ، وعلى القافز أن يصعد اليه ثم يتم ربطه بأحزمة جلدية تنساب فوق أسلاك تربط قمة البرج بالأرض ،وعلى القافز أن يقفز من قمة البرج حتى يصل إلى الأرض، ويكون بهذا جاهزا للصعود إلى الطائرة للقفز منها.
تطبيق المظلة:
هى مرحلة ما بعد الانتها ء من التدريب الأرضى ،إذ على كل جندى أن يتدرب على تطبيق المظلة التي سوف يقفز بها ،ويكون هو المسؤل عن سلامتها ،ولو أن خطأ حدث أثناء تطبيقها ، سيكون ثمنه حياة القافز ، لذلك فإن كل قافز سوف يوقع على استمارة توضع في جيب المظلة تثبت أنه هو الذي طبق المظلة ،وبذلك يصبح هو المسؤل عن حياته.
كتابة الوصية:
وعلى القافز أيضا أن يكتب وصيته مساء اليوم الذي سيكون فيه جاهزا للقفز قفزته الأولى صباحا ....وعلى الجندى آنئذ أن يتمثل نفسه وهو يخوض تجربة الموت ..ويفكر في الطريقة التي سيوزع بها ميراثه..وكانت الأمهات غالبا تحظى بالنصيب الأوفر من هذا الميراث..وذلك أن كلامنا كان يتصور ما تكابده الأمهات الثكالى بسبب فقد فلذات أكبادهن ..وكنا نتعذب أكثر بسبب تصورنا لما تعانيه الأمهات من عذاب،ربما أكثر من خوفنا من الموت المرتقب.
ولعل هذا الموقف يعيد إلى الذاكرة ما حدث في منطقة الدفرسوار بعد حرب أكتوبر عندما كنت وشقيقى الأصغر في لواء واحد في حرب واحدة، بينما شقيق ثالث لنا في سلاح الطيران،اذكر أن الحديث الذي كان يشغلنى مع شقيقى الثانى عندما يقوم بزيارتى يتلخص في إبداء لوعتى على أمى وهى تستقبل نبأ استشهادنا .
لهذا كنت أدعو الله ان يعود واحد منا لتكون عودته بردا وسلاما على قلب هذه الأم ...لأن عودتنا جميعا كان أمرا يصعب تصوره أو تصديقه في ظل الموت الجماعى الذي كان يفاجئنا في كل حين....
في الطائرة:
أصعب من تجربة القفز هو تلك الليلة التي ستصبح قافزا في صباحها، وما يمكن أن ينتاب الأنسان من أحلام وهواجس مرتبطة كلها بالطيران وبالمظلة وبعملية القفز من الطائرة وهل ستفتح المظلة أم أن طارئا سوف يحدث ليهبط الإنسان مثل جوال فيتحول إلى أشلاء في ثوان، لاسيما أننا شهدنا هذا المشهد عيانا ، وذلك حين خانت المظلة أحد زملائنا في هذا اليوم الذي سبقناه فيه إلى القفز ،وظلت أبصارنا معلقة بدورات القفز التالية ، نتابع دخول الطائرة منطقة الإسقاط ،ثم نتابع سقوط القافز ثم سلسلة فتح المظلة إلى أن تفتح المظلات كلها حتى تصل إلى الأرض بأمان....
وفى هذا اليوم ونحن نتابع عملية الإسقاط نلحظ هذا الجسم الساقط مباشرة من الطائرة إلى الأرض، جندى بمظلتيه ،مظلة ظهرية كان ينبغى أن تفتح تلقائيا بواسطة جهاز معين ، ومظلة صدرية كان ينبغى أن يبادر هو بفتحها ما دامت الأولى لم تطاوعه ،لكن من المؤكد أنه لم يكن واعيا بالقدر الذي يمكنه من نزع قبضة المظلة الاحتياطي ،فسقط ليصبح أشلاء.
لم تكن هذه الصورة تغادر خيالنا ، خاصة في تلك المساءات التي نستعد فيها للقفز صباحا وربما كنا نتعجل مرور الليل الذي كان يجثم على صدورنا بكوابيسه وأحلامه، لنلوذ بالنهار نذوًب تحت شمسه مخاوفنا بالحركة والانتقال من مكان إلى آخر ومن مرحلة إلى آخري حتى نجد أنفسنا في أرض الإسقاط يجمع كل منا مظلته ونحمد الله أن خضنا التجربة بسلام.
طائرات القفز:
عرفنا نوعين من طائرات القفز،الأولى تسمى "اليوشن" ويتم القفز منها من باب جانبى يحرص القافز على أن يسند بإحدى قدميه في زاويتى الباب ، على أن يقذف بعيدا بجسمه بالقدم الأخرى خارج الطائرة، في نفس اللحظة يضم القدمين إلى جوار بعضهما بحيث يصبحان مثل قدم واحد ، ثم عليه أن يكوًر جسمه كتلة واحدة ليصبح في شكل كرة ،وذلك ليسهل عملية فتح المظلة .إن وجود مسافة بين القدمين قد تكون سببا في وفاة الجندى ،وذلك لو التصق أي جزء من المظلة بين الساقين ،فإن ذلك يؤدى إلى إعاقة فتح المظلة ، لكن تكوير الجسم يؤدى إلى النزول السلس والفتح السلس أيضا للمظلة ، وفى خلال ثلاث ثواني،تكون المظلة قد مرت بمراحل الفتح،ويتم فتحها أخيرا ، وما إن يطمئن القافز على مظلته حتى ينبغى أن يتخد الاحتياطيات الواجب اتخاذها بعد فتح المظلة، وأهمها أن يحافظ على المسافة المعقولة بينه وبين زملائه، وذلك لأن اقتراب مظلتين قد يؤدى إلى اشتباك حبالهما ،وقد تكون المخاطر وخيمة بسبب هذا، لذلك يتدرب الجندى على الكيفية التي يقود بها المظلة ،كيف يحركها في الاتجاهات الأربعة ،من خلال التحكم في حبال المظلة.
أما النوع الثانى من طائرات القفز فيسمى " أنتينوف" وهو أضخم حجما ويتم القفز منها من الباب الخلفى ، وذلك بأن يتم فتح الباب مع ظهور الضوء الاحمر ، ويتم القفز مع ظهور النور الأخضر.
مرحلة الهبوط:
ولعل مرحلة استقبال الأرض أصعب من مرحلة القفز من الطائرة ...لأن الهبوط الخطأ يؤدى إلى كوارث ، وأذكر أنني في أول قفزة أهملت الانتباه إلى اتجاه الريح ،وشغلني فرحى بالمظلة المفتوحة عن مراقبة اتجاه الريح الذي كان المدربون ينبهون إلى أهميته...إذ ينبغي أن أتجه بوجهي مع الريح.. أما اتجاه الريح فتتعرف عليه من خلال دخان إذ تراه في منطقة الإسقاط ،أو من خلال أسهم مرسومة على هذه الأرض، الهبوط مع اتجاه الريح يجعله هبوطا آمنا، وقد يجد القافز نفسه يواجه الأرض في حالة وقوف، أما إذا كان الوجه عكس اتجاه الريح – كما حدث معي – في القفزة الأولى – فإن القافز سيجد نفسه ساقطا على ظهره .مرتطما بـ رأسه على الأرض ولولا الربر "Rubber" وهو غطاء إسفنجي يحيط بالرأس لكسرت رأسي نصفين ، لكن هذه التجربة علمتني بعد ذلك أن يكون الاتجاه مع الريح في أول اهتمام لى بعد فتح المظلة.
أثناء الهبوط قد تكون الريح قوية،فيعجز القافز عن النهوض السريع، بحيث تمتلئ المظلة بالهواء وتجرجر القافز وهو ملقى على الأرض،مما قد يعرضه للخطر،لذا فإنه من الضرورى أن يحرص القافز على أن يسقط واقفا وأن يبادر بالجرى نحو المظلة حتى تفقد المظلة الهواء المعبأ بها وتصبح مثل بالونة منطفئة .أما إذا لم يبادر القافز بالجرى نحو المظلة فور نزوله فإنها تمتلئ بالريح وتصبح قادرة على أن تجرجره لمسافات حتى يستطيع أن ينهض ،أو أن يرزق بزميل له يمسك المظلة ويغير اتجاهها عكس الريح.
ما بعدالهبوط:
يقوم الجندى بجمع مظلته ووضعها فى جرابها ،ويتنفس الجنود الصعداء ،فها هى القفزة قد تمت بنجاح ،شعور الذى يخاف الغرق، وساعتها يكثر الهرج والمرج بين الجنود يستعرض كل منهم تجربته فى القفز والمهارات التى أبداها ....سبحان الله ، هؤلاء الذين يبدون أسودا بعد انتهاء عملية القفز ، كانوا صفر الوجوه تسمع نبض قلوبهم ، وهم جالسون فى الطائرة يحدقون فى اللمبة الحمراء التى يشير ظهورها إلى اقتراب دخول الطائرة فى منطقة الإسقاط ، وبالتالى على الجنود أن ينهضوا من أماكنهم استعدادا للقفز ، ثم يرتفع النبض أكثر ، وتجحظ العيون ، وهى تنتظر إضاءة اللمبة الخضراء التى تشير إلى بدء عملية القفز ، تسمع هذه اللحظات التمتمات والدعوات ، أما الجنود الذين تعلم أن صلتهم بالله شبه منقطعة ، تراهم قد تحولوا إلى مبتهلين أشبه بمشايخ الفضائيات تجحظ منهم العيون دائرة في الأفق ، باحثة عن نافذة مفتوحة في السماء يمكن أن ينفذ منها الدعاء ، وكنا نتندر على هؤلاء بقولنا :" لا يعرفون الله إلا ساعة القفز" .
قائد القفز:
وهو أحد معلمى مدرسة المظلات ، يصحب الجنود القافزين فى رحلتهم ،ويكون مسئولا عن تنظيم الرحلة ، بدءا من جلوس الجنود فى أماكنهم ، والتأكد من شبك المظلة بالعمود العلوى الموازى للمقاعد التى يجلس عليها الجنود والتى تأخذ شكل صفين بطول الطائرة ،ثم إصدار الأوامر ببدء القفز وتنظيم القفز، بحيث لا يستغرق إفراغ الطائرة –الذى يتم على مرحلتين –أكثر من خمس ثوانى ، وهى المدة التى تكون فيها الطائرة أعلى منطقة الإسقاط .
وأثناء الإسقاط يحرص الجنود على أن يكون رأس كل منهم ملتصقا بظهر الذي يسبقه ، بحيث يقفز الأول ثم يأتى من يليه مباشرة دون تلكؤ، وتدور الطائرة دورة أخرى حتى تدخل منطقة الإسقاط التى تكون قد تجاوزتها بعد إفراغ لمرحلة الأولى ليتوالى النور الأحمر ثم الأخضر ، ويتم إسقاط الدورة الثانية ، ويتم هذا كله بإشراف قائد القفز الذى يكون واقفا بجوار الجندى الذى عليه الدور فى القفز بجانب باب الطائرة يعطى توجيهاته حتى تتم عملية القفز بنجاح ، وقد يرتدى مظلة إذا كان مرتبا له أن يقفز، ويكون هو آخر القافزين ،وقد يعود إلى المطار إذا لم يكن مرتبا له أن يقفز.
هذا من حيث الدور التنظيمى لقائد القفز ، أما الدور الأهم فهو الدور المعنوى، وعملية القفز قد تصبح عملية مسلية ولذيذة وتصبح الرحلة كلها ممتعة ، أو قد تتحول إلى كابوس مرعب ومخيف، يصاب فيه الجنود بالغثيان ، ومنهم من تنتابه نوبات قئ، ومنهم من تنتابه نوبات خوف هيستيرى، فيتخلص من المظلة ، خاصة فى تلك اللحظات التى يتم فيها فتح الباب الخلفى للطائرة الأنتينوف مصحوبا بصوت يوحى بأننا ذاهبون إلى المجهول ، وفى تلك اللحظة تتكشف لك السماء ، وتجد السحاب حولك وتحتك ، وتنظر فترى الأرض هوة سحيقة وتتخيل نفسك وأنت تسقط بإرادتك إلى هذه الهوة...كان طبيعيا أن يصاب بعض الجنود بهلع يقررون معه تكسير الأمر الصادر لهم بالقفز . رغم سابق علمهم بأن السجن فى انتظار من يتمرد على هذا الأمر ..لكنه الخوف الذى يجعل بعض الناس يفضلون السجن .
فى هذه اللحظة يضطر قائد القفز إلى نزع مشبك مظلة الجندى المتمرد لكى يخلى الطريق أمام زملائه ويعود صاحبنا إلى المطار بالطائرة ، وما إن يصل إلى وحدته حتى يكون السجن فى انتظاره.
تحدثت عن الدور المعنوى لقائد القفز ، فهو يستطيع بما يهيئه من أجواء المرح من أن يبدد المخاوف والوساوس التى قد تتكون فى مثل هذا الموقف ،وأعتقد أن جانبا كبيرا من السمعة الطيبة للمساعد حسين عبد القادر أنه كان قادرا على أن يشيع هذا الجو المشبع بالسعادة والأمل بما كان يثيره من نكات ومفارقات .وبما كان يعقد مع الجنود من صلات ومداعبات ،وبما كان يطلق من شعارات ، ويكفى أن يقول :السرية الثالثة " وحوش" حتى يردد الجنود بأعلى أصواتهم : " وحوش يافندم" فيرد ليقول : السرية الثالثة :" أسود " فيرددون "أسود يافندم" ، وإذا استشعر الخوف لدى جندى معين أمسك بكتفه زاعقا : الجندى كمال- الجندى كمال " أسد" ، فيرد بصوت مخلوع:" أسد يافندم". وإذا قدر لفنان أن يطالع وجه كمال فى هذه اللحظة لرسم له صورة بديعة لإنسان يقرر لسانه أنه أسد بينما تنطق ملامح وجهه أنه فأر مذعور ،لكن هذا الفأر كنا نراه بيننا بعد عملية القفز، وذلك بسبب هذه الروح التى جاهد قائد القفز فى زرعها فى نفسه، وكان من الصعب على كمال بعد أن نطق بلسانه أنه أسد أن يثبت غير ذلك فى موضع الجد . لكن " كمال" هذا كان يحجم تماما عن القفز إذا رزق بقائد آخر غير حسين عبد القادر ،وكانت تبوء كل محاولات القادة الآخرين بالفشل فى إقناع صاحبنا بأن يستجمع قواه ويقفز ..وكنا نتندر مع "كمال" بعد عودتنا للوحدة .فإذا سألناه عن سبب امتناعه عن القفز كان يمزح قائلا بلهجته الصعيدية : " من الحمارة للطيارة"!!
وهو بهذا يعبر عن النقلة الواسعة التى لا يستطيع أن يستوعبها عقله، ولا يتحملها جسمه الذى اعتاد أن يمتطى الحمارة فى قريته ، فكيف به يركب الطائرة ثم يطلب منه أن يقفز منها !!
لكننا فى الحقيقة عشنا أجمل أيامنا فى مدرسة المظلات ، وفيها عرفنا زبدة رجال مصر ،يقف على رأسهم كبير معلمى المدرسة العظيم : حسين عبد القادر الذى لا يمكن أن ينساه كل من تخرج فى مدرسة المظلات.
إن مدرسة "المظلات " و " مدرسة الصاعقة" هما المصنع الحقيقى لرجال مصر بعامة، ورجال القوات المسلحة بخاصة.
بقلم الدكتور / أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة دمياط – مصر
موبايل 01007701379