أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الكلمة بين الفعل واللافعل ، في شعر صلاح عبد الصبور

أضيفت فى السبت 28 سبتمبر 2013


تقديم:

 

            للكلمة أهميتها وخطورتها في حياة الأفراد والأمم على السواء ، ولئن صح أن الكلمة قد تكون سببا في رفع شأن الإنسان ونجاته ، فإنها بالطبع تكون سببا في خفضه وهلاكه . وقديما قيل : " مقتل الرجل بين فكيه " ، ولئن كانت عثرة الرًجل قابلة للبرء ، فإن عثرة اللسان قد تتسبب في هلاك صاحبها، وكما قال شاعر :

 

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه              وليس يموت من عثرة الرًجلِ

لعثرته من فيه ترمى برأسه               وعثرته بالرًجل تبرا على مهلِ

 

ولئن كان الشاعر في المثال السابق قد عقد مقارنة بين عثرة الرًجل وعثرة اللسان ، فإنه في المثال التالى يعقد مقارنة بين جرح اللسان وجرح السنان:

 

وقد يرجّى لجرح السيف برءٌ             ولا برءٌ لما جرح اللسان

 

ويلاحظ أن جرح السيف يتناظر مع عثرة الرًجل فلئن كانت الأخيرة لا تقتل صاحبها ، فإن جرح السيف قابل للبرء ، في حين عثرة اللسان تتناظر مع جرح اللسان وكلاهما يستعصى على البرء أو الشفاء ، مما يعنى خطورة الكلمة عندما تتحول إلى أداة قتل أو التحريض عليه ، أو حتى أداة جرح مشاعر الآخرين وإيذائهم :

 

وجرح اللسان أشد مضاضة              على النفس من وقع الحسام مهند

 

ولقد اختزل الوجدان الشعبى هذا المعنى بالقول : " لسانك حصانك ......."

وكما يمكن أن يكون الحصان مساعدا للإنسان في الوصول إلى غايته إذا سلك طريق السلامة ، فإنه يمكن أن يكون أداة إعاقة حين يودى به إلى طريق الندامة.

 

ولئن كان اللسان يحدد مسار الإنسان في الدنيا ، فإنه أيضا يحدد مصيره في الآخرة، وصدق رسول الله إذ يقول : " وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ؟"

 

ولما كانت للكلمة كل هذه الأهمية في تحديد مسار الإنسان ومصيره ؛ دنيا وآخرة ، فإن الحق سبحانه وتعالى قد صور ذلك في أبدع صورة من خلال المثل إذ يقول : " ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار"

 

***

ولئن كان الشعراء قديما قد أدركوا أهمية الكلمة ، وعالجوها من منظورهم ، ومن واقع حياتهم ، فإن الشعراء المحدثين ليسوا أقل إدراكا لخطورة الكلمة ، بل لعل إدراكهم لها قد ازداد ، وذلك بسبب الدور الجوهرى الذي تلعبه الكلمة في مجتمعاتنا الحديثة ، لاسيما في ظل الانفجار الإعلامى الذي نعيشه ، والذى تصبح فيه الكلمة أداة التواصل والوصل في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئى ، أو من خلال وسائل الاتصال الالكترونية .

 

شعر الشاعر الحديث بقدر بالغ من المرارة وهو يتابع مشاهد كثيرة تهان فيها الكلمة وتبتذل ، فبدلا من أن توظف الكلمة في نقل صورة أمينة للواقع ، وفى توعية العقول وإنارتها فإنها تنحرف عن مسارها لتنقل صورة مزورة للواقع وتعمد إلى تزييف الوعى لدى الناس.

 

وفى هذا الصدد يمكن أن نتذكر ما كان ينشغل به رؤساء الصحف القومية والقائمين على أمر الوسائل الإعلامية في عصرى السادات ومبارك ، وذلك حين كانوا يفتتحون كلامهم بتدبيج المقالات في مدح الحاكم المغوار صاحب الإنجازات ، ومحقق المعجزات ، الأمر الذي يجعل صوت الشعب يتراجع ويتقهقر بإزاء صياح جوقة النفاق وضجيجها .....وكما يذهب الزبد جفاء ذهبت هذه المقولات المنافقة إلى مزبلة التاريخ، سيما بعد أن انداح زبد النفاق هذا وانزاح إثر بزوغ شمس الخامس والعشرين من يناير ، حين انكشفت الحقائق ورفع الغطاء عن مستنقع الفساد الذي كانت تخوض فيه البلاد.

 

الشاعر الحقيقى هو الذي ينقل الواقع كما هو دون تهويل أو تهوين ، ودون تجميل أو تقبيح ، وهو الذي لا يتستر على الفساد أو يصمت على الزور والبهتان ، وهو الذي لا ينشغل بوضع مساحيق التجميل على الوجوه القبيحة للحكام العرب على وجه الخصوص ، بل يكون همه الأول هو كشف القبح المختبئ خلف مساحيق التجميل التي يجاهد الأوغاد من أصحاب الكلمة في وضعها على وجه الحاكم .

 

وصلاح عبد الصبور من الشعراء الذين عاصروا الحقبتين : الناصرية والساداتية ، حيث جذور الفساد كانت تتمدد في التربة المصرية ، وهى ذات الجذور التي نمت سيقانها وترعرعت أوراقها وثمارها في عصر مبارك ، مما أفضى إلى الثورة عليه وخلعه.

 

غير أن صلاح عبد الصبور لم يضبط مرة واحدة متلبسا باقتراف جريمة النفاق أو الكذب أو التضليل أو التمويه على الحقيقة ، أو تزييف الوعى ، بل كان نموذجا للصدق في أجلى معانيه. لنسمعه يقول :

 

إن أعظم الفضائل عندى هى الصدق ، والحريه ، والعدالة.

وأخبث الرذائل هى            الكذب ، والطغيان، والظلم

 

ذلك لأنى أعتقد أن هذه الفضائل هى التي تستطيع تشكيل العالم وتنقيته ، وأن غيابها  معناه ببساطة : انهيار العالم.....إن شعرى – بوجه عام – هو وثيقة تمجيد لهذه القيم ، وتنديد بأضدادها ، لأن هذه القيم هى قلبى وجرحى وسكينى معا. إنى لا أتألم من أجلها ، ولكنى أنزف".

 

***

وحياة صلاح عبد الصبور، ثم شعره ، هما خير شاهد على سيرته وصورته.

 

***

تعد "الكلمة" والدور الذي تنهض به من أهم القضايا التي ألحت على وجدان صلاح عبد الصبور ، والقارئ لشعره الغنائي أو لمسرحه الشعري أو لكتاباته النقدية يلحظ هذا الإلحاح المتكرر على دور الكلمة ، هذا الدور الذي يتضخم حتى لتتجاوز الكلمة كونها مقابلا للفعل ، بل تعظم لتصبح هى والفعل سواء بسواء.

 

ولقد لوحظ أن القضية التي شغلت الشاعر أكثر من غيرها فيما يتصل بدور الكلمة ، هى النظر إلى الكلمة في وضعيها :السامي والداني ، ثم استخراج المفارقة بين هذين الوضعين ، فالكلمة في الوضع الأول قنبلة قادرة على التغيير والتفجير ، لكنها في الوضع الثاني فقاعة براقة فارغة . أي أن الكلمة في الوضع الأول فاعلة ، بل ترتفع لتجسد الفعل نفسه ، لكنها في الوضع الثاني مجرد هواء فارغ عار من أية قدرة على الفعل . ولما كانت هذه – كما قلنا – هى القضية الأكثر إلحاحا على الشاعر فيما يتصل بقضية " الكلمة " ودورها فلقد اخترنا أن ندرس هذا الفصل تحت عنوان " الكلمة بين الفعل واللافعل " .

 

والحقيقة أن كتابات صلاح عبد الصبور نفسه – على كثرتها وتعدد اهتماماتها – لهى خير شاهد على أنه كان فارسا اتخذ من " الكلمة " سلاحا ، ولم يكن مهرجا أو مرتزقا يتخذ من الكلمة وسيلة لكسب رخيص ، أو وجاهة زائفة . يقول سلامة أحمد سلامة: " ولست أعرف صلاح عبد الصبور قد التزم في شعره بمذهب سياسي معين أو دافع عن نظرية سياسية معينة، أو وقف في ظل نظام سياسي أيا كان. ولست أعرف أنه استخدم الكلمة مدحا أو هجاء ، أو هجوما أو دفاعا عن زعامات سياسية معينة ، كما فعل غيرة من كبار الشعراء العرب المعاصرين وغير المعاصرين ، ولكن صلاح عبد الصبور حمل في شعره ، وبين ثنايا كلماته ، دفاعا حارا مستميتا عن كل ما تحلم به الأنظمة السياسية أو تدعيه ، من احترام لكرامة الإنسان وحريته ، ومن إيمان بقدرة الإنسان على أن يصنع عالما ينتفي فيه الظلم ، ويسود فيه معنى العدل والإخاء والمساواة".(1)

 

ولعل هذا الموضوع يتضح من خلال وضعه في إطار مجموعة من الثنائيات :

 

 

1-     ثنائية الهواء / الريح :

 

تتعدد مذاهب القول عند من يتخذون من " الكلمة " مادة يشكلون بها رؤيتهم أو آرائهم ، لكن يظل الشاعر بين هؤلاء ، ممثلا لأسمى درجات التعامل بالكلمة .

 

وتتجاوز الكلمة عند من يتخذ من الشعراء " الصدق " قيمة حياتية ، وقيمة فنية - تتجاوز كونها مجرد أداة  تعبير"  لتصبح أداة  " تفجير" ، والتفجير هنا يعنى الفعل على اختلاف مستوياته .

 

ويمكن أن نتخذ من درجة الصراع التي تحتدم في نفس الشاعر بين الكلمة مستقلة عن الفعل ومتعانقة معه مقياسا لمدى أهمية دور الكلمة وفعاليتها عنده . فإذا كانت الألفاظ – في رأى البعض – لا تعدو أن تكون " هواءا " مصاحبا للزفير المنبعث من الحلق ، فإنها عند صلاح عبد الصبور " ريح " تحرك وتنقل وتثير .

 

والمتتبع لدلالات كلمة "الريح " عند عبد الصبور يدرك أن هذه الكلمة أداة فاعلة، فهي باعثة الدفء، وباعثة البرودة، يبدو هذا من خلال خطاب الشاعر إلى واحدة من اللواتي اعتدن مضغ الألفاظ الجوفاء قائلا:

 

" فليعبثْ حلْقكِ بالألفاظ ، الألفاظ  ( هواء) .

من يمسكه أو يمسكها .. تلك الألفاظ الجوفاء .

لكن هذى الألفاظ تهب هبوب الريح على وجهي

آنا تدفينى الألفاظ الحرّى

وتقفقفنى الألفاظ الباردة الرعناء"(2)

 

فإذا كانت الألفاظ في منظور البعض "هواء " فإنها في منظور الشاعر " ريح" وهو يلوذ بهذه الريح /الفعل من مراوغة الألفاظ الجوفاء / الهواء. وهو أيضا يلوذ بالريح لتنطق عنه، حين يعجز عن النطق بكلمته، وذلك حين يقول على لسان " سعيد":

 

" لا أملك أن أتكلم

فلتتكلم عنى الريح

لا يمسكها إلا جدران الكون(3)

 

وإذا كان " سعيد " – أحد أقنعة الشاعر في مسرحيته " ليلى و المجنون " – يتوسل بالريح لتنطق عنه عندما يعجز عن الكلام ، فإن "الحلاج" – قناع الشاعر الأثير – لا يملك إلا أن يتحدث ، وستكون " الريح" هى الأداة التي ستنقل كلماته:

 

" لا أملك إلا أن أتحدث

ولتنقل كلماتي الريح السواحة

فلعل فؤادا ظمآنا من أفئدة وجوه الأمة

يستعذب هذى الكلمات

فيخوض بها في الطرقات

يرعاها إن ولى الأمر

ويوفق بين القدرة والفكرة

ويزاوج بين الحكمة والفعل"(4)

 

" الكلمة" في المثال الأول تموت جنينا في صدر الشاعر الذي لا يملك أن يتكلم ، فإذا كانت الكلمة هى علامة الحياة ، فإنها أيضا سبب الموت .لكن هذا التقرير من جانب الشاعر بالصمت، ليس نهائيا، إذ سرعان ما نكتشف أنه ليس إلا مرحلة من مراحل الصراع العنيف بين أن يقول كلمته مع تحمل التبعة، وبين أن يصمت فيسلم. لكن الشاعر يرى أن النجاة الحقيقية هى في أن يتكلم وإن أفضت به كلماته إلى الموت.

 

والشاعر في الحقيقة ليس مخيرا- كما قد يفهم من ظاهر لفظه- بين أن يتكلم وألا يتكلم ،لكنه مضطر إلى أن يتكلم لأنه في النهاية " لا يملك إلا أن يتكلم" فالكلمة قدره والكلمة حياته ، وليس من قبيل الصدفة أن يقسم الشاعر مسرحيته "مأساة الحلاج" إلى جزأين : الأول بعنوان " الكلمة" والثاني بعنوان " الموت" فالمعنى هنا هو الارتباط الوثيق بين الكلمة – كسبب- والموت – كنتيجة.

 

لكن الحلاج حين أعلن أنه لا يملك إلا أن يتكلم يلوذ بـ " الريح" هو الآخر لتنقل كلماته، فلعل هذه الكلمات تصادف أحدا ممن يملكون القدرة، فيعقد عليه الرجاء في المزاوجة بين الحكمة والفعل، والتوفيق بين القدرة والفكرة.

 

 

2-     ثنائية القلم / السيف:

 

إذا كان القلم هو أداة تسجيل الكلمة، فإن السيف هو أداة تنفيذ الفعل، وما دام الشاعر مشغولا بالكشف عن طبيعة العلاقة بين الكلمة والفعل، فمن الطبيعي أن يضع "القلم " في مواجهة "السيف" وهو بصدد تبين هذه العلاقة.

 

ومن أنضج الأشعار التي تعبر عن رؤية الشاعر لهذه العلاقة هى ما أورده على لسان " سعيد" وهو يلقى آخر أشعاره تحت عنوان " يوميات نبي مهزوم يحمل قلما ، ينتظر نبيا يحمل سيفا".(5)

 

ومنذ البداية تطالعنا ملامح الثنائية بين النبي المهزوم الذي يحمل قلما ، وبين النبي (المنتصر بالطبع) الذي يحمل سيفا ، فالحاضر الموجود هو القلم ، والغائب المنتظر هو السيف ، وهو يشي بالتفسخ البالغ بين الكلمة والفعل ، وأن المسافة بينهما بحجم المسافة بين الحاضر من ناحية والمستقبل الذي مازال يتخلق في بطن الغيب من ناحية ثانية.

 

يؤكد هذا ما أورده "سعيد" في يوميته الأولى معلنا شوقه إلى هذا القادم القادر على أن ينفخ من روحه في جثث الألفاظ الميتة فتحيا وتتوهج ، وتصبح ذات معنى ، يقول سعيد:

 

"يأتي من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها

يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال

إذ تتأبى أجنحة الأقوال

أن تسكن فى  تابوت الرمز الميت

يأتى من بعدى من يبرى فاصلة الجملة

يأتى من بعدى من يغمس مدات الأحرف فى النار

يأتى من بعدى من ينعى لى نفسى

يأتى من بعدى من يضع الفأس برأسى

يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة

ويغنى بالسيف.(6)

 

منذ البداية يلفت النظر وجود ظاهرة أسلوبية ذات شقين متصلين :الشق الأول هو تكرار التركيبة اللغوية" يأتى من بعدى من " سبع مرات تتصدر كل منها جملة شعرية. والشق الثانى هو أن هذه التركيبة يعقبها فى كل مرة صيغة مضارع تكون فى مجموعها حزمة من الأفعال المضارعة ذات دلالة ميكانيكية " يعطى- يبرى – يغمس – ينعى – يضع – يتمنطق- يغنى وحتى الفعل الوحيد المنفى ( لا يتحدث) فإنه ينفى السلب ليثبت الإيجاب، ينفى التحدث بالأمثال ليثبت التحدث المباشر المعانق لفعله.

 

تكشف هذه الظاهرة الأسلوبية بشقيها عن الخصائص الإيجابية لهذا الآتى ؛ النبى المنتظر الذى يحمل سيفا ، وهى تشكل مجموعة من الخصائص المناقضة للخصائص التى يتميز بها إنسان العصر ؛ النبى المهزوم الذى يحمل قلما.

 

وإذا وضعنا الجمل الفعلية التى تعقب التركيبة اللغوية المتكررة " يأتى من بعدى من " – إذا وضعنا هذه الجمل فى سياق واحد لتبينت ملامح النبى القادم المنتظر، ولتبينت بالتالى ملامح نقيضه ، نبى الحاضر المنكسر ، وهذه هى الجمل:

 

-          يعطى الألفاظ معانيها

-          لا يتحدث بالأمثال

-          يبرى فاصلة الجملة

-          يغمس مدات الأحرف فى النار

-          ينعى لى نفسى

-          يضع الفأس برأسى

-          يتمنطق بالكلمة ويغنى بالسيف

 

يلاحظ حرص الشاعر وهو يرسم صورة الآتى الذى يحلم به أن يكون هذا الآتى قادرا بالدرجة الأولى – على إنقاذ الكلمة التى أصبحت شكلا بلا مضمون حين أصبحت براقة كالفقاعات وبراقة كالفخار المدهون ، وحين اصبحت لامعة ومرواغة كالزيت ، ورخوة كالطحلب فوق شطوط البحر.(7)

 

وإذا كان صاحب الكلمة الحاضر يغمس قلمه فى الماء البارد ليكتب كلاما أشد برودة ، فمن المنتظر من " الآتى " أن ينحت الحروف ويدفع فى شرايينها دماء الحياة ، وأن يبرى فاصلة الجملة ، وأن يغمس مدات الأحرف فى النار ، لتتحول الحروف إلى جمر ، والكلمات إلى لهيب.

 

وفى النهاية يحلم الشاعر بأن يكون هذا الآتى قادرا على أن يزاوج بين الكلمة والفعل :

"يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة ويغنى بالسيف"

 

ويصل الشاعر بهذا إلى جوهر الأمنية التى يتمناها وهى المزاوجة بين الكلمة والسيف ، ولذا تطالعنا هذه الأمنية بوجوه متعددة فى شعر الشاعر ومسرحه على السواء ، ففى شعره يرى ضرورة الجمع بين القول والفعل :

 

"أقول لكم : بأن الفعل والقول جناحان عليان".(8)

 

وفى مسرحية " بعد أن يموت الملك " تظل الملكة عقيما مالم تصادف من يعرف كيف يقاتل بالمزمار ويغنى بالسيف، تقول الملكة :

" يعطينى طفلى من يعرف كيف يقاتل بالمزمار ويغنى بالسيف"(9)

 

وفى مسرحيته " مأساة الحلاج" يتمنى "الحلاج" أن تصادف كلماته القادر على أن .

" يوفق بين القدرة والفكرة

ويزاوج بين الحكمة والفعل"(10)

 

ويقع الحلاج فريسة الصراع بين اختيار الكلمة والسيف.

 

" هبنى اخترت لنفسى، ماذا أختار؟

هل أرفع صوتى

أم أرفع سيفى

ماذا أختار؟

ماذا أختار؟"(11)

 

كان يمكن أن يرد ببساطة أن الحلاج / الشاعر ليس أمامه إلا اختيار واحد وهو السيف ، مادامت الكلمة قد فقدت معناها ومغزاها ، لكن الأمر ليس بهذا التبسيط ، إن السيف فى حاجة إلى كف مبصرة تمسك به ، لذلك يجيب الحلاج حين يسأل : هل تخشى حمل السيف ؟" قائلا:

 

" لا أخشى حمل السيف لكنى أخشى

أن أمشى به

فالسيف إذا حملت مقبضه كف عمياء

أصبح موتا أعمى"(12)

 

ويصل الحلاج إلى حل لهذه المعادلة ، حين يرى أن الخلاص معلق على القوة العاقلة ، أو على السيف المبصر الذى يبدو شوقه إليه وتلهفه عليه من خلال قوله:

 

" من لى بالسيف المبصر !

من لى بالسيف المبصر!"(13)

 

إن تعاطف الشاعر مع شخصية "الحلاج" أوضح من اى بيان ، فمطلب الحلاج هو فى الحقيقة مطلب الشاعر ، ومن هنا يمكن القول بأن الشاعر لا يستطيع أن ينفصل عن شخصياته مهما حاول أن يكون موضوعيا، بل سيجد نفسه مدفوعا للتعاطف مع واحدة من هذه الشخصيات ليحملها ولو بعض همومه ورؤاه ، وتعد شخصية "الحلاج" من أقرب الشخصيات إلى وجدان صلاح عبد الصبور، والشاعر نفسه يسجل هذه الحقيقة حين يقول : " كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة ، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصى باطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم ، بعد أن يؤثروا أن يحملوا عبء الإنسانية على كواهلهم " (14)

 

إن الشاعر يبغى أن يتجاوز صاحب الكلمة تأمل الفعل وفلسفته إلى معايشة الفعل وتأمله وممارسته . والحق أن مجتمعنا العربى الذى يعانى من الاذدواجية بين القول والفعل لهو فى أمس الحاجة إلى فعالين أكثر من حاجته إلى قوالين ، ولعل هذه الظروف هى التى جعلت الشاعر يشك فى جدوى كلماته فى حين يوقن بجدوى السيف / الطلقة والطعنة والتفجير :

 

" ما تملكه يامولاى الشاعر "

لا يطعم طفلا كسرة خبز

لا يسقى عطشانا قطرة ماء

لا يكسو عرى عجوز تلتف على قامتها المكسورة

ريح الليل

لا بد من الطلقة والطعنة والتفجير "(15)

 

وهنا نذكر أن توفيق الحكيم – الأديب العربى – قد أعلن فى أكثر من مناسبة شكه فى قيمة ما كتبه ، وأنه قد أبدى رغبته – عقب حرب أكتوبر عام 1973– فى ان يشارك فى المعركة ولو بعمل يدوى بسيط يتجاوز به الكلام غير المجدى .(16)

 

ولا يمكن بالطبع أن يفهم هذا الكلام على أنه يحمل إطلاق تفضيل الفعل على الكلام ، ولكن معناه – كما يرى أدونيس – " أن الممارسة العملية تكون هنا بمثابة إنقاذ للكلمة من هاوية الهذر الذى سقطت فيه . فليست المسألة إذن أن نفاضل بين العمل والكلام ، وإنما هى أن نخلق التكامل الجدلى بينهما .(17)

 

كهان الكلمة :

 

            وإحساس الشاعر بالهوة العميقة بين الكلمة والفعل جعلته يشن حملة على من يشوهون الكلمة ويفرغونها من معناها ، ويتخذونها وسيلة للطنطنة وقرع الآذان لا غير . ويأتى بين هؤلاء فصيلة من الشعراء (الحمقى) والوعاظ ( الأوغاد) تفننوا فى إخفاء الحقيقة من خلال التلاعب بالكلمات . وهذا هو "السجين الثانى" فى مسرحية " ليلى والمجنون " يكشف ألاعيبهم وتلاعبهم من خلال عرضه للطريقة التى يبررون بها موت أمه ، يقول هذا السجين :

 

" مرضت أمى ، قعدت، عجزت ، ماتت

هل ماتت جوعا ، لا ، هذا تبسيط ساذج

يلتذ به الشعراء الحمقى والوعاظ والأوغاد

حتى يخفوا بمبالغة ممقوته

وجه الصدق القاسى

أمى ما ماتت جوعا ،أمى عاشت جوعانة"(18)

 

              يتحدث الشاعر هنا على لسان " السجين الثانى " بنبرة هادئة تختلف تماما عن النبرة الخطابية التى يتفاصح بها الشعراء المزورون . ويعبر الشاعر عن مهارة هؤلاء الشعراء فى التمويه على الحقيقة وإخفاء وجه الصدق بطريقته فى صياغة العبارة ، وذلك حين يكشف عن السبب الحقيقى لموت الأم ، فإذا كان يحلو للشعراء الحمقى والوعاظ الأوغاد أن يبسٍطوا الفجيعة بقولهم إنها ماتت جوعا ، فإن الإبن يرد عليهم بهذا الأسلوب:

 

" أمى ما ماتت جوعا ، أمى عاشت جوعانة"

 

وهكذا تتضح قدرة هؤلاء الشعراء والوعاظ على التلاعب بالألفاظ لإخفاء وجه الصدق وتزيين وجه الزور...

 

لكن حملة الشاعر على هؤلاء الشعراء والوعاظ أخذت شكلا حادا على لسان " سعيد " وهو يلقى آخر اشعاره ، فهو يرى أنهم :

 

" كهان الكلمات الكتبه

جهال الأروقة الكذبه

وفلاسفة الطلسمات

والبلداء الشعراء

وتماسيح الأموات

أقعوا – فى صحن المعبد – مثل الدببة

حكوا أقفيتهم ، وتلاغوا كذباب الحانات

لا يعرف أحدهم من أمر الكلمات

ألا غمغمة أو همهمة أو هسهسة أو تأتأة أو فأفأة

أو شقشقة أو سفسفة أو ما شابه ذلك من أصوات

وتسلوا بترامى تلك الفقاعات

لما سكروا سكر الضفدع بالطين

طربوا بنعيق الأصوات المجنون

حتى ثقلت أجفانهم واجتاحتهم شهوة عربدة فظة

فانطلقوا فى نبرات مكتظة

ينتزعون ثياب الأفكار المومس والأفكار الحرة

وتلوك الأشداق الفارغة القذرة

لحم الكلمات المطعون

حتى ألقوا ببقايا قيئهم العنين

فى رحم الحق

فى رحم الخير

فى رحم الحرية"(19)

 

 

وعلى هذا النحو ألقى الشاعر فى هذه "اليومية " بكل ما يشعر به من اشمئزاز إزاء هؤلاء الذين لاكت أشداقهم لحم الكلمات ، وهو يعبر عن اشمئزازه هذا بـ :

 

-          وصفهم بأنهم "كهان" و " جهال" و " بلداء".

-          تشبيههم بالكائنات الوضيعة الضارة المتبلدة ، فهم ذباب وضفادع ، وهم دببة وتماسيح.

-          السخرية من أصواتهم التى لا تنطق ولا تبين ، فهم لا يصدرون إلا غمغمة أو همهمة أو هسهسة أو تأتأة أو فأفأة أو شقشقة أو سفسفة.

-          تجسيدهم فى صورة حقيرة مثل " حكوا أقفيتهم " ومثل " أقعوا مثل الدببة "، وكذلك تجسيدهم فى صور قد تصدم الشعور لكنها تعبر عن حقيقة إحساس الشاعر نحوهم ، فهم "ينتزعون ثياب الأفكار المومس " ، وهم الذين يلوكون لحم الكلمات المطعون بأشداقهم القذرة  ، وهم الذين ألقوا ببقايا قيئهم العنين فى رحم الخير والحق والحرية.

 

 

3-     ثنائية الزيف / الحقيقة :

 

إذا كان الشاعر يدين – فى الصورة السابقة – المبالغات الممقوتة للمتاجرين بالكلمة ، فإنه يدين أيضا الظروف التى أنبتت هذا النمط الإنسانى الذى يتخذ من الكلمة " غاية" فتفقد معناها ، وتصبح الكلمة مجرد ألفاظ براقة كالفخار المدهون ، وها هو ذا " السجين الثانى " يفتح نافذة تذكاراته ليقص علينا جانبا من نشأته التى جعلته يتعلم هذا اللون من الكلمات التى كان يملأ بها أذنى أمه ليرضى فضولها ، وكانت هى بدورها تسعد بها. لأنها ترى أن مثل هذا السلوك هو الباب المضى إلى الوجاهة التى تتمناها لابنها، وتفقد الكلمة – من ثم – كيانها حين تصبح "غاية " تعجز عن أن تغير ، بل تتدنى لتصبح حرفة . يصور السجين الثاتى " عودته لأمه بعد أن قضى يومه فى دور العلم وبين دكاكين الوراقين على النحو التالى :

 

" وأعود لأفجأها بالألفاظ البراقة كالفخار المدهون

الجوهر والذات

الماهية والإسطقسات

والفاتيفوريات

" يونانى لا يفهم "

أمى كانت تلتذ بأقوالى تتجرعها أذناها شهدا

ويغرد فى شفتيها صوت لا أسمعه إلا فى ذاك الحين

" الله يصونك لى

ويمد حياتى حتى أتملاك

أستاذا فى بيت الحكمة

أو قاضى شرع

أو والى ربع

أو شيخا صاحب نعمة"(20)

 

 

لكن الموقف يتفجر بعد ذلك عن مفارقة موحية ، وذلك حين يكشف السجين عن حال أمه البائسة وواقعها المهين ، فى حين كان هو يلوك الألفاظ الفارغة وينشغل باللغو المأفون :

 

" كانت أمى خادمة تجمع كسرات الخبز وفضل الثوب

من بعض بيوت التجار

وأنا طفل لاهمة لى

إلا فى هذا اللغو المأفون"(21)

 

وهو موقف سلبى يسوقه الشاعر ليوحى بأهمية نقيضه، فلقد كان أولى بهذا السجين أن " يصنع " شيئا يخفف به من عذاب امه .

 

إن الشاعر لا يفتأ على طول تجربته الشعرية يسخر من كل من يتخذون من الكلمة " وظيفة " أو " صناعة " ثم ينحرفون بها إلى غير مرادها ، وكأنه يربأ بالكلمة أن تتدنى إلى مستوى الحرفة التى تتخذ مطية رزق . وفى مسرحية " مأساة الحلاج" نفسها يرسم الشاعر صورة مزرية للقاضى أبى عمر الحمادى ، ويجسد من خلال هذه الشخصية كيف تمتهن الكلمة ، وكيف أن هذا القاضى يلوك الكلمات التى تتصل بالقيم العليا مثل الحق والعدل والأمانة وذلك فى الظاهر فقط ، لكنه – فى الواقع – يتستر بهذه الكلمات ليذبح الحق والعدل ، وها هو يفتتح حديثه فى محاكمة الحلاج بديباجة محفوظة لا رصيد لها تسير على هذا النحو :

 

" بسم الله الهادى للحق

وعليه توكلنا

ندعوه أن يهدينا للعدل

ويوفقنا أن ننهض بأمانتنا"(22)

 

وبعد هذا "الأكليشية" المحفوظ يكشف هذا القاضى – دونما وعى – عن حقيقته وذلك حين ينادى :

 

" ياحاجب

لم لم يأتوا بالرجل المفسد حتى الآن"(23)

 

 

لقد حكم على الرجل قبل أن يراه ، وهو لم يزل مفتتحا الجلسة بـ :

 

" بسم الله الهادى للحق ..."

 

لذلك نجد القاضى العادل " ابن سريج" يبدى اعتراضه قائلا :

 

 

 

" أأبا عمر ، قل لى ، ناشدت ضميرك

أفلا يعنى وصفك للحلاج

بالمفسد ، وعدو الله

قبل النظر المتروى فى مسألته

أن قد صدر الحكم

ولا جدوى عندئذ أن يعقد مجلسنا ؟"(24)

 

غير أن هذا القاضى يكشف – دون خجل – عن دوره المزيف ، بل يعترف بأن ليس مطلوبا منه أن يحكم على "الحلاج " ، لأن السلطان كان قد حكم وانتهى الأمر ، أما دور هذا القاضى فيتلخص فى أن " يجدل مشنقة من أحكام الشرع " ولنتأمل صيغة " يجدل" هذه والتى توحى بالتلفيق، كما توحى بأن السلطة قد توسمت فى هذا القاضى البراعة فى تفصيل القوانين التى تساير هواها تحت ستار الشرع. وهكذا تتخذ " الكلمة" غطاء للتمويه على الصدق والعدل اللذين تشدق بهما " أبو عمر" فى بداية مجلس "العدل" إخفاء للجريمة.

 

وإذا كان القاضى قد تورط فى قتل قيمة " العدل" حين تلاعب بالكلمات ، فإن الشاعر قد قتل هو الآخر  قيمة "الصدق" حين تحول إلى بوق يزين وجه الزيف ، ويخلع على الأشرار ثوب الأطهار ، ووسط مظاهرة الصياح " تتدحرج " الأبيات ، وتداس – بالتالى – الكلمات :

 

" صاحت أبواق مدينتنا صيحا ملهوفا

وقف الشعراء أمام الباب صفوفا

وتدحرجت الأبيات ألوفا

تبكى الملك الطاهر حتى فى الموت"(25)

 

وحين يقف الشعراء "صفوفا " يعنى أنهم قد تحولوا إلى قطيع يقف فى انتظار إشارة من الراعى ، وعندئذ لا عجب أن "تتدحرج" الأبيات بالألاف تبكى الملك "الطاهر"رغم أنه مات عقب علاقة جنسية مع إحدى جواريه!(26)

 

4-     ثنائية المظهر / الجوهر:

 

لوحظ أن الشاعر – وهو بصدد التعبير عن إحساسه بالكلمة الجوفاء – يجسد هذا الإحساس فى مجموعة من الصور المتجانسة، فهذه الألفاظ براقة كالفخار المدهون(27)وهى فارغة براقة كالفقاعات(28)وهى تعوم لامعة ومرواغة كالزيت(29)وهى سطح من أفكار رخوة كالطحلب فوق شطوط البحر(30)وهى هواء .(31)

 

يجتمع هذا التجانس ليوحى بـ:

 

1-      هشاشة هذه الألفاظ ، إذ سرعان ما تنكسر كالفخار أو تذوب كالفقاعات .

 

2-      صعوبة القبض عليها فهى ( مرواغة كالزيت) و( رخوة كالطحلب) ثم هى ( هواء).

 

3-      توسل هذه الألفاظ بزينة خارجية لتكون بمثابة الطلاء الجميل الذى يستر الباطن المزيف، فهى " براقة كالفخار المدهون " وهى أيضا براقة كالفقاعات ، ثم هى "لامعة ومراوغة كالزيت".

 

وإذا كانت " الفقاعة" فارغة وبراقة ، فإنها أيضا سطحية ، إذ سرعان ما تنطفئ وينطفئ معها بريقها الخادع. ويجيد الشاعر استخدام الألفاظ التى تكشف سطحية هذا اللون من " الكلمات" حين يقول على لسان الأميرة وهى تصف السمندل :

 

" عامت فى شفتيه الألفاظ.

لامعة ومراوغة كالزيت".(32)

 

 

فالألفاظ هنا تتجه نحو السطح أيضا ، إذ "تعوم " لكنها تحرص على أن تظل لامعة لتخطف الأبصار والأسماع. تلتقى إذن هذه الصورة ( صورة الألفاظ اللامعة التى تعوم) مع الصورة السابقة ( صورة الكلمات الفارغة البراقة كالفقاعات) للإيحاء بتفاهة الكلمة الفارغة التى تجمل تفاهتها ببريق خاطف سرعان ما ينطفئ ، والحقيقة إن الصورتين تحيلان الذهن – ولو من بعيد – إلى الصورة القرآنية " فأما الزبد فيذهب جفاءا" فالزبد لامع وبراق ، والزبد أيضا فقاعة فارغة ، إذن فمصير هذه الألفاظ أن تذهب – كالزبد – جفاء.

 

لكن الشاعر يضيف – وهو يصف هذه الالفاظ - إلى صفة " اللمعان " صفة ثانية وهى "المراوغة" :

 

" عامت فى شفتيه الألفاظ

لامعة ومراوغة كالزيت"

 

 

والمراوغة صفة من صفات "الزبد" حيث يستحيل الإمساك به، لكن الشاعر لم يشأ ان يصور هذه الألفاظ بـ " الزبد" بعد أن أشارت كل الصفات السابقة إليه ( فارغة – براقة – لامعة ) لكنه استعاض عن هذه الصورة بصورة أخرى هى" الفقاعة " :

 

" تنفخ فى كلماتك كالفقاعات

حتى تصبح فارغة براقة"

 

 

ومن ثم يضيف الشاعر صورة جديدة تصور مراوغة هذه الألفاظ حين يشبهها بالزيت .." ومراوغة كالزيت" ، وهذه الصورة لها بعدان : الاول هو ان هذه الالفاظ " تعوم " فوق السطح ، والثانى أنها تستعصى على الإمساك .

 

ويؤكد الشاعر فراغ هذه الألفاظ واستعصاء القبض عليها ، أو الإمساك بها ( ترجمتها إلى فعل ) من خلال خطابه إلى هذه المرأة التى اعتادت أن تلوك الألفاظ:

 

" فليعبث حلقك بالألفاظ ، الألفاظ (هواء)

من يمسكه أو يمسكها .. تلك الألفاظ الجوفاء ؟"(33)

 

وكما يستعصى القبض على الهواء ، فكذلك الأمر مع الألفاظ الجوفاء ، إذ تسقط صريعة عاجزة عن الفعل.

 

 

5-     ثنائية الكلمة الميتة / الفعل الحى:

 

لكن ليست كل الكلمات معزولة تماما عن الفعل ،وليست كل الألفاظ "فقاعات براقة" أو " فخارا مدهونا" فمن الكلمات ما يمكن أن تطير على جناح الفعل . وسنرى الآن السياقات التي تقترن فيها الكلمات بالأفعال سواء في علاقة إيجابية أم في علاقة سلبية ، ثم نتبين الدلالات المنطوية فيها. تقول الملكة للشاعر عندما يهون من شأن كلماته:

 

" لا تبخس كلماتك ما تستأهله من قدر

فالكلمة قد تفعل"(34)

 

ولئن كان مسعى الحلاج قد خاب ، إلا أنه يتعزى عن ذلك بأن كلماته لم تدركها هذه الخيبة ، إذ ما دامت هذه الكلمات حية ، فقد تصادف آذانا واعية تحنو عليها وترعاها فتترجمها إلى أفعال. يقول الحلاج:

 

" قد خبت إذن، لكنكلماتى ما خابت

فستأتى آذان تتأمل إذ ما تسمع

تتحدر منهاكلماتى في القلب

وقلوب تصنع من ألفاظى قدره"(35)

 

ومن البديهى أن إيمان الحلاج بدور الكلمة هو جزء من إيمان الشاعر الذي أنطق الحلاج بهذه الكلمات ، والشاعر هنا يتخذ من الحلاج قناعا لينطقه بأفكاره .يؤكد هذا قول الشاعر نفسه : "كانت مسرحيتى " مأساة الحلاج" معبرة عن الإيمان الذي بقى لى نقيا لا تشوبه شائبة، وهو الإيمان بالكلمة.(36)

 

والإيمان بدور الكلمة في أن تفعل يقف وراء هذا الشعر الذي يتوجه به الشاعر إلى الإنسان، فقد يصنع هذا الشعر فرحا في قلب جريح، وقد يكون سهما في قلب جارح، يخاطب الشاعر الناس والأصحاب قائلا:

 

 

" وقفت أمامكم ورفعت كفى قائلا .. هيا

هنا إنسان

يريد يدير في فكيهألفاظا يدحرجها إلى الإنسان

لتصنعنقمة في القلب أو فرحا

تكون مجن من جرحا

وسهما في حشا القاسى الذي جرحا"(37)

 

 

وفى قصيدة " موت فلاح"(38)يعزف الشاعر على ثنائية القول الميت / الفعل الحى ، وذلك من خلال مرثية يقدمها لهذا الفلاح الذي مات وهو " يصنع الحياة في التراب" بينما الشاعر ورفاقه من المتفلسفين وهواة الكلام " يلغطون"  بالفلسفة الميتة  .

 

يمكن تقسيم القصيدة – طبقا للدلالة والأسلوب – إلى ثلاث وحدات هى :

 

أولا : الوحدة الأولى : وتتكون من ستة سطور(1: 6) وهى:

 

1-      لم يك يوما مثلنا يستعجل الموتا

2-      لأنه كل صباح ، كان يصنع الحياة في التراب

3-      ولم يكن كدأبنا يلغط بالفلسفة الميتة

4-      لأنه لا يجد الوقتا

5-      فلم يُمِلْ للشمس رأسه الثقيل بالعذاب

6-      والصخرة السمراء ظلت بين منكبيه ثابتة

 

تتمثل الدلالة التي تعكسها هذه الأبيات في المقارنة بين الفلاح الذي " يصنع" الحياة ، وبين محترفى الجدل والكلام الذين " يلغطون" بالفلسفة الميتة. ومن ثم يضعنا هذا المطلع في قلب ثنائية ضدية هى محور القصيدة ومفجر شرارتها . تتشكل هذه الثنائية في الأسلوب الذي تصاغ فيه. فالفلاح كان ( يصنع الحياة في التراب) ولم يكن – مثل الشاعر ورفاقه- ( يلغط بالفلسفة الميتة ) فالمقارنة بين العبارتين تفجر – منذ البادية – المفارقة بين فلاح " يصنع " ومتفلسف " يلغط" .

 

كان يمكن للشاعر أن يتحدث عن " موت الفلاح" كما شاء ، وأن يرثيه بما يستحقه" دون أن يضعه في مقارنة مع تلك الطائفة التي لا عمل لها سوى اللغط بالفلسفة الميتة ، ولكنه لو فعل ذلك لتحولت القصيدة إلى عمل عادى كأى عمل يتعاطف مع الإنسان.

 

ومن الملاحظ أن " لفظين" فقط وردا في القصيدة وبالتحديد في الوحدة الأولى هما المسئولان عن جعل الفلاح طرفا في الثنائية المشار إليها ولو حذف هذان اللفظان ، لتحولت القصيدة إلى خيط شعورى واحد يحمل فقط مشاعر الشاعر إزاء موت هذا الفلاح . أما هذان اللفظان فهما :" مثلنا" في السطر الأول و" كدأبنا " في السطر الثالث . ولكى نتبين هذا الأمر جيدا ، ينبغى الرجوع إلى الوحدة الأولى وقراءتها بعد إسقاط هذين اللفظين . عندئذ سيكون الحديث عن فلاح لم يكن يستعجل الموت ، ولم يكن يلغط بالفلسفة الميتة ، لكن عندما نرد هذين اللفظين إلى مكانهما ونقرأ السطرين:

 

لم يك يوما (مثلنا) يستعجل الموتا

ولم يك (كدأبنا) يلغط بالفلسفة الميتة

 

فإن الشاعر ينفى عن الفلاح ما يثبته لنفسه هو ورفاقه ، فلئن كانوا يستعجلون الموت ، فالفلاح ليس كذلك ، لأنه مشغول بصنع الحياة ، ولئن كان لديهم من الفراغ ما يجعلهم يلغطون بالفلسفة الميتة ، والفلاح أيضا ليس كذلك ، لأن وقته مشغول كله بصناعة الحياة.

 

وعلى المستوى الأسلوبى يلاحظ أن سطور هذه الوحدة تسيرعلى هذا النحو :

 

نفى في السطر الأول ، وتعليل لهذا النفى في السطر الثانى ، وكذلك نفى في السطر الثالث ،وتعليل له في السطر الرابع ، ثم نفى في السطر الخامس ليس متبوعا بتعليل كما هو الحال في المرتين السابقتين ، وأخيرا يأتى تقرير مثبت في السطر السادس.

 

            ويلفت النظر هنا التدرج من النفى إلى الإثبات ، وذلك حين تبدأ القصيدة بالتركيز على دلالة النفى من خلال تقديم تعليل لها ، كذلك يبدو هذا التركيز من خلال تكرار النفى المتبوع بتعليل في سياقين – لا سياق واحد – يشغل كل منهما سطرين متتاليين :

 

السياق الأول : ( السطران 1،2) : لم يك يوما مثلنا .... / لأنه ....

السياق الثانى : ( السطران 3، 4) ولم يك كدأبنا ..../ لأنه ....

 

بعد ذلك تخف حدة النفى درجة ، وذلك حين يرد النفى في السطر الخامس غير مشفوع بتعليل هكذا :

 

فلم يمل للشمس رأسه الثقيل بالعذاب

 

 

ويلاحظ أن غياب التعليل هنا يرتبط بغياب صيغة أخرى ، هى تلك الصيغة التي توازى صيغتى " مثلنا" و " كدأبنا" في السياقين السابقين .إن انفصال الصيغة التي كانت تمثل الطرف الثانى للثنائية ارتبط بغياب التبرير . وبدا السطر الخامس كما لو كان يتناول فقط الطرف الأول للثنائية ( ا

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code