أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الخطاب العربى بين الأمس واليوم

أضيفت فى السبت 31 أغسطس 2013


     والأمس الحاضر فى العنوان الفرعى ليس الأمس البعيد،لكنه الأمس القريب ،والذى يعود بالتحديد إلى يوم الثلاثاء 2مايو 2006،اليوم الذى عقد فيه قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطامؤتمر "الخطاب العربى"  وبحضور نخبة من أساتذة الجامعات فى الدول العربية كانت قد قدمت لهم الدعوة ،وقد تفضلوا بكتابة الأبحاث الخاصة بالموضوع وقد جمعت وتم طبعها من قبل الكلية فى كتاب يؤرخ لفعاليات  المؤتمر .

     وقد كان علىّ وقتئذ –بإعتبارى رئيسا للقسم –أن أعد كلمة للجلسة الافتتاحية ،وكما أنه أصعب من تأليف كتاب محاولة تلخيصه فى بضع صفحات ،كذا أصعب من تأليف عشرين كتابا فى فروع الخطاب العربى محاولة تلخيص سمات هذا الخطاب فى بضع كلمات تقال فى جلسة افتتاحية ..ولكن كان لابد أن أجتاز هذه الصعوبة وجاءت الكلمة –فى تقديرى – تعكس صورة الخطاب العربى بالأمس ؛ أى الربع الأخير من القرن العشرين وحتى زمن انعقاد المؤتمر ، أما كلمة (اليوم) فى العنوان الفرعى فتعنى حال هذا الخطاب بعد ثورات الربيع العربى ، وما نجم عنها من ظهور من ظهور جماعات الاسلام السياسى ، ولنبدأ بصورة الخطاب العربى بالأمس .

 

الخطاب العربى بالأمس:

 

     كان جدى فلاحا ذا روح سمحة ،يرتل القرآن فى الصباح ،ويستمتع بصوت أم كلثوم فى المساء ،أما فى الظهيرة فكان يتقاسم تحت شجرة الجميز الكبيرة مع الخواجة مينا طعام الغذاء ،وعندما أهديته فى ستينيات القرن المنصرم تمثالا صغيرا للملكة حتشبسوت كنت قد اشتريته أثناء رحلة مدرسية إإلى مدينة الأقصر ؛ احتفى به أيما احتفاء ، ومن خلاله كان يتحدث فخورا عن أجداده ،وعن المرأة التى تعدل ألف رجل .

 

     اليوم نرى الأحفاد يمسكون المصاحف فى أيديهم، لكنا لا نشعر بالسماحة فى قلوبهم ، ونرى فتيات تسدلن النقاب على وجوههن ،لكنا لا نطمئن إليهن..وكل شئ عندهم وعندهن حرام ،صوت أم كلثوم يلقى بسامعه فى النار ،الخواجة مينا نجس،المرأة رحم للإنجاب،وخادم للرجل،التمثال إله يعبد من دون الله ..وهلم جرا.

 

     لقد شب جذع جدى واستطال على شاطئ النيل أيام كان نقياوصافيا ، تحمل مياهه سر الخصب والنماء ، وتمتزج بغرين الحب والعطاء ، وتنعكس على صفحته الصافية زرقة السماء.

 

     أما الحفيد فقد نمت ساقه على شاطئ مجرى من مجارى الصرف غير الصحى المنتشرة كما الأوردة والشرايين فى داخل الجسد ،ومن هذا المجرى استمد الغذاء ، وامتلأت خياشيمه بالهواء.

     كلما تأملت حال الأحفاد ، يأتينى طيف جدى فأتحسر مع صلاح عبد الصبور وأقول:

 

عبثٌ.. والأيام تَجِدْ

لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب

هذا القدر من السفلة والأوغاد

 

     لكنى أعود فأقول :إنه الخطاب.. الخطاب القواد ..الذى يقود العقل من أنفه ليقع فريسة سهلة فى شباك الاغتصاب.

 

     إنه الخطاب الذى عجز عن مواجهة إشكاليات الحياة، ومواكبة مستجداتها ،فانسحب متقوقعا على نفسه ، ليعيد إنتاج الخطاب القديم ،مضحيا بنهر الحياة المتدفق،بالطازج والساخن والجديد،نهر الحياة التى تضطرم أحشاؤه بقضايا وأمور لم تكن حتى لتخطر على بال السابقين ولو من قبيل التخيل أو الخيال.

 

     والنتيجة هى اتساع الفجوة بين الخطاب والواقع ،وتظل أسئلتنا القديمة هى نفسها أسئلتنا الجديدة والمتجددة،تظل أسئلتنا معلقة لأن إجاباتنا معلبة ،ونظل ندور فى حلقة مفرغة،الرطان الدينى يمتد،والوعى الدينى يرتد ،ويصبح الشعار أهم من الشعيرة، تصبح المئذنة أهم من الصلاة،ويضيع الدين ويبقى التدين ،يضيع الدين الحق،ويبقى التدين المغشوش،يبدو كل منا أنه يخدم الله ،بل ينطق لسان حالنا :نحن وحدنا نمتلك الله!!

 

     خطاب يبثه ذئاب تتستر وراء الشفافية والمصلحة الوطنية حينا ،وخلف المسابح وآيات الكتاب حينا ،خطاب مشغول عن تفسير كوابيس النهار بتفسير أحلام الليل ،فأصبح مألوفا الآن أن تفتح العديد من الفضائيات العربية فتشاهد - مع مريد البرغوثى - هذه الصورة :

 

"صنم ومسبحة من اليسر المتوج بالذهب

متربع فى فرو خاروف

ويشرح ما يشاء من الكتاب

فى عينه ورع

ولكن عينه الأخرى

تؤهلنا ولائم للذئاب"

 

     وغالبا ما يتوسل هذا الخطاب ببعض التوابل، ليسهل عملية تمرير الطعام الفاسد ،وكما يقول مكسيم رودنسون:"ما أسوأ اللغة التى لا فعل لها سوى فعل التوابل ،حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فسادا".

 

      فى عالمنا العربى تجد ألف واحد يعلمونك كيف تموت،وقلما تجد واحدا يعلمك كيف تحيا.

 

     تجد ألف واحد يعلمونك النظر فى قفا الماضى .وقلما تجد واحدا يعلمك التطلع نحو المستقبل.

     تجد ألف واحد يعلمونك كيف تكون تابعا .وقلما تجد واحدا يعلمك كيف تكون مبدعا.

     تجد ألف واحد يعلمونك أن طوق النجاة هو فى الاكتفاء بالاسترخاء على شواطئ السعادة البليدة ،وقلما تجد واحدا ،يلقى بك عامدا،فى محيط الشك والسؤال،لتكتشف بنفسك،ولو شعاعا واحدا من شمس الحقيقة.

 

     تجد ألف واحد يقعون فى شباك وهم اليقين المطلق والحقيقة النهائية ،ولا تجد واحدا يحاول أن يزرع الشك فيما هو قائم رغم فظاعته وفظاظته ولا معقوليته.

 

     تجد ألف واحد يتتابعون عليك ،يعلمونك –كل بطريقته-كيفية غسل الميت،وقلما تجد واحدا يعلمنا كيف نغسل عقولنا من فيروسات الخطاب السياسى والاعلامى والثقافى،وكذا طفيليات الخطاب الدينى.

 

     تجد ألف واحد يجأرون:

"إن أرضنا هى مهد الحضارات ومهبط الديانات والنبوات ،وقلما تجد واحدا-مثل أدونيس- يسأل:وماذا صنعنا بهذه الأرض؟:

 

النبوات ثوب نسجته بأهدابها أرضنا

والسماء وأفلاكها تدور على أرضنا

فلماذا كل شئ عليها خواء؟

ولماذا كل شئ أصم وأعمى؟

 

     تجد ألف واحد رجعى ،يقفون بالمرصاد،وراء كل تقدمى،يهدمون ما قدم ،وينقضون ما أنجز.

     وأخيرا وليس آخرا،تجد فى عالمنا العربى ،عشرين واحدا، آلوا على أنفسهم أن يظلوا –وإلى الأبد-فى خدمة (رعاياهم)ولم يفكر مرة واحد منهم أن يؤثر نفسه،ولو بالسنة الأخيرة من عمره المديد ،يريح فيها دماغه من صداع الأتباع .بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فى تفانيهم ،وذلك حين أعدوا العدة ليحمل (الهم)بعدهم أبناؤهم.ياويحهم وويح أبناءهم.

 

      هل نحن بحاجة إلى أن نحرث الأرض،ونقلب بطنها على ظهرها نلقى فيها نطفا طاهرة تشب فتصبح أفئدة حية نهيئ لها خطابا بريئا من فيروسات الهرمنة والسرطنة؟

 

ولكن..أنى لنا ذلك؟إنها اليوتوبيا..

لنعد إذن إلى الواقع لنرى:

 

     نرى الخطاب التعليمي وقد اعتقل العقل حين اعتمد كلية على الرضاعة العلمية الصناعية متمثلة فى الدروس الخصوصية.

 

     لنرى الخطاب الإعلامي وقد نجح فى تغييب الناس حين أجلسهم يتثاءبون على شواطئ البرامج الهابطة والمسلسلات البليدة والأغاني الفجة.

لنرى الخطاب السياسي وقد احتكر الحقيقة واحتكر معها كل شئ.

لنرى الخطاب الدينى وقد عاد بنا إلى ما قبل العصر الجاهلي.

والمحصلة هى إنسان عربي معطل الحواس.

 

أستاذان كبيران:

 

     وقبل هذه الكلمة كان أ.د ابراهيم محمد منصور مقرر المؤتمر قد ألقى كلمته المسجلة فى صدر كتاب المؤتمر..وكنا قد قدمنا الدعوة لأستاذين كبيرين ؛أحدهما متخصص فى علم اللغة،والثانى فى الحضارة الإسلامية،وذلك ليبرز كل منهما ملامح الخطاب العربى من وجهة نظر تخصصه،وبذلك نلقى أضواء متعددة على الموضوع لعله يزداد وضوحا وجلاء غير أن الأول اكتفى بإلقاء كلمة مقتضبة فى حين انبرى الثانى يسفه الأفكار التى وردت بكلمتينا،وقد قيل فى هاتين الكلمتين ما يمكن أن يقوله مفكر تقليدى فى أستاذين حكم عليهما بأنهما علمانيين متأثرين بأفكار محمد أركون ومن لف لفة من المهووسين بالغرب،ولئن كنت قد حاولت فى كلمتى أن أشكك الطلبة فيما لديهم من خطابات ،إلا أن أستاذنا قد توجه إلى الطلبة الحضور فى نهاية كلمته قائلا:

 

     " ثقوا فيما عندكم" وكأن لسان حاله يقول : "ليس فى الامكان أبدع مما كان".

 

     وهكذا انقلب علينا من التمسنا لديهماالعون .... والحق أنه ليس أسوأ على نفس الإنسان من موقف المثقف -لاسيما إذا كان يعد نفسه أستاذا كبيرا وصاحب مدرسة – وهو يزيف الواقع ويعمى على الحقيقة ويضلل الطلاب ،بل يطلب منهم أن يثقوا فيما عندهم ،ولم يكن عندهم غير الفساد والاستبداد وكل ما اختمر فى الأرض من فيروسات انفجرت بعد بضع سنوات فيما أسميناه بـ " ثورات الربيع العربى" ولو أن عمر هذا الأستاذ امتد حتى يشهد هذه الثورات وما كشفته من فساد، لأدرك كم كان خائنا لأمانة الكلمة ، وعلى أية حال لم تنته كلمة الأستاذ على خير،بل خلفت غصة فى النفس ارتفع على إثرها ضغط دمى.

 

الخطاب العربى بين الأمس واليوم:

 

     ولئن كان خطاب الأمس قد أدان احتكار الدين "نحن وحدنا نمتلك الله"فإن الإخوان فى خطاب اليوم رأوا أنفسهم أصحاب الجدارة ،وأن الله قد خصهم –دون غيرهم-بالملك وأنهم أحق بالتمكين ،وما أعطاه الله لا ينبغي لأحد أن ينزعه.

     ونشاهد موقف عثمان بن عفان يتكرر مع الإخوان..وذلك حين ثار الناس عليه رغبة فى إزاحته،غير أنه بدلا من أن يستجيب للناس يزداد تشبثا بالسلطة لأنه يعتقد أنها منحة إلهية إذ قال:"ما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله".

 

      إن الخلط بين الدين والسياسة ثمنه فادح،وكما قتل عثمان فى الزمان الأول ،قبع مرسى وعشيرته فى زماننا – خلف القضبان. وعلينا أن نكف بعد اليوم عن القول بأن الإسلام دين ودولة ،بحسب الإسلام أن يكون دينا متفردا بسموه وقدسيته بريئا من تدنيس الدولة وتدليسها.

 

     ولئن كان خطاب الأمس قد أشار إلى موقف الجد من الآثار ،وحدبه عليها، واحتفائه بها، فإن أحفاد اليوم بدءوا يرتابون ويتشككون فى آثار الأجداد ،وظهرت فتاوى تقول بضرورة تحطيمها كما الأصنام..

 

     ولا أنسى هذه الساعة التى وقفت فيها لأول مرة محاضرا لطلبة قسم الآثار ، متحدثا عن اعتزازى بهذا القسم وحرصى على أن أصطحب طلابه فى رحلتهم السنوية إلى مدينتى الأقصر وأسوان للتعرف على عظمة الأجداد فإذا بطالبة تنهض قائلة : "إن زيارة الآثار مثل زيارة القبور حرام" ، فقلت : "زيارة القبور ليست حراما ، لكن الحرام حقا هو جلوسك فى هذا المكان ، المكان الذى يليق بك هو القبر ، وساعتها ستصبح زيارتك حراما" .

 

     لكنها ثقافة يتلقاها الطلاب عبر فضائيات كثيرة وعبر كل من هب ودب بينهم من مدعى العلم وهواة التدين.ووجدنا هذه الروح الشريرة نحو الآثار تنمو وتتسع لتظهر فى استهداف المتحف المصرى ومجموعة من الأماكن الأثرية عقب ثورة يناير ..ووجدنا أن ثمة اتجاها يتبلور فى الرغبة فى طمس الهوية المصرية لإلباسها هوية أخرى ،ولأنه- حسب صلاح عبد الصبور- "لا يقهر الموت إلا الحجر والكلمة " فقد اتجه الهدف نحو الحجر بتحطيمه ونحو الكلمة بإحراقها .. وما حرق المجمع العلمى ، ثم محاولة حرق مكتبة الاسكندرية ، ومن قبلها حرق مكتبة الأستاذ محمد حسنين هيكل إلا نماذج لرغبة شريرة فى حرقالكلمة فى أبهى صورة لها.

 

     وما نهب الآثار المصرية وتدمير المساجد والكنائس وسرقة المتاحف والاعتداء على المبانى الأثرية ومحاولة هدم قصور وفيلات مصنفة على أنها آثار ،وما الدعوة بتحطيم أبى الهول باعتباره صنما، ثم عدم التورع عن إصدار فتوى تدعو إلى هدم الأهرامات ،وما كسر رأس تمثال طه حسين فى المنيا، وما وضع نقاب على رأس تمثال أم كلثوم فى المنصورة ...ما هذا كله إلا رغبة فى القضاء على الحجر،وبذلك نفقد ملامح هويتنا وتاريخنا الذى تسجله الكلمة وينطق به الحجر ونقف –بعدئذ-فى العراء عرايا يكتب الاخوان تاريخنا ويحددون هويتنا على هواهم من جديد.

 

     ولئن كان جدى قد دأب عصر كل يوم ، إعداد الجلسة التى تليق بسماع أم كلثوم عبر الإذاعة المسماة باسمها،فإن الأحفاد طفقوا  يحرمون الفن والابداع ويحرمون الغناء والموسيقى،ولم يردع طالبة قسم الإعلام التى قالت بحرمة الموسيقى والغناء ردى عليها بقول الشيخ الغزإلى : "من لم يطرب لصوتالمزمار ، فهو جلف الطبع حمار" وأصرت على موقفها كما لو كانت تملك الحقيقة المطلقة.

 

     ولئن كان يسيرا فى خطاب الأمس أن تصادف العشرات ممن يقعون فى شباك وهم اليقين المطلق والحقيقة النهائية، فإن جماعات أو منظمات تجاوزت حدودها الإقليمية لتصبح ذات طابع دولى ينضوى تحت لوائها الملايين من البشر، لكنهم أشبه بنسخ مكررة مثل لعب الأطفال ،حيث تنمحى الملامح والصفات والسمات بفعل مبدأ السمع والطاعة وبفعل الشعارات البراقة التى يرفعونها وينضوون جميعا تحت لوائها.

     وتفسير العالم من خلال المطلق-لا النسبى-يجعلهم يتصورون أنهم قادرون على صنع المعجزات ،قادرون على إعادة الخلافة الإسلامية ،وإزاحة كل ما من شأنه أن يشكل عائقا دون تحقيق هذه الإرادة ،حتى لو كان الشعب المصرى متماهيا مع جيشه وشرطته.

 

     ولئن كان ثمة فجوة بين الخطاب والواقع فى خطاب الأمس ،فإن هذه الفجوة قد اتسعت فى خطاب اليوم ،وذلك بسبب العجز عن قراءة الواقع ، وإيثار إدمان الجلوس على شواطئ السعادة البليدة ،واستعذاب الهلاوس الفكرية ،وهى وثيقة الصلة بالأحلام والأوهام والتوقعات التى لا تتحقق والإدراك الذى يحلق بعيدا عن حدود الواقع... فى هذا الإطار يمكن أن نفسر الأحلام والأوهام التى كانت يملأ بها شيوخ منصتى رابعة والنهضة عقول السذج والبلهاء ممن كانوا يستقبلون هذا الخطاب بتصفيق حاد يكشف عن مساحة الغباء التى يرتعون فيها، كذا يمكن أن نفسر ما عثر عليه فى رابعة العدوية من شهادات تقدير تؤكد أن من قتل فى الاعتصام فهو شهيد ، وهو أمر يعيد إلى الأذهان ما كان يجرى فى العصور الوسطى بأوروبا من توزيع لصكوك الغفران ثمنا للجنة ، وهذا يؤكد أن الإخوان قد عادوا بنا القهقرى إلى عصور الظلام .

 

     ولئن كنا فى خطاب الأمس نعجز عن أن نجد واحدا يعلمنا كيف نحيا ، فى حين نجد ألف واحد جاهز بعدة الموت معه ، فإننا فى خطاب اليوم قد رأينا من يستدعى الأطفال من ملاجئ الأيتام ويوقفونهم فى صفوف يحمل الواحد منهم كفنه على يديه فى موقف استعراضى ،يتخذونهم والنساء دروعا بشرية.

 

     أطفال أيتام بحاجة إلى من يعلمهم كيف يحيون ،لكن هذا هو حق اليتيم فى شرع الإخوان "الله يمنحهم الحياة ،وهم يسلبونها منهم .

 

     ولئن كان خطاب الأمس قد شهد الرجعيين الذين يترصدون خطى التقدميين بهدمها ونقضها،فإن الويل والثبور وعظائم الأمور تنتظر التقدميين والتنويريين، والتثوريين والمتطلعين نحو المستقبل، ولئن كان طه حسين قد نال حظه وافرا من الرجعيين ،فإن حفيده أستاذنا الدكتور جابر عصفور قد نال من النقد والتهم والتجريح والكيد وإقامة الدعاوى والأكاذيب والتحرش العقلى ما يحنى هامة جبل ، ولكنه سيظل- بمشيئة الله- مرفوع الهامة،صلب القامة ، رافعا سراجه ، ينير الطريق حتى لهواة نشر الظلم والظلام.

 

     ولئن كان الجد فى خطاب الأمس قد تعايش مع الخواجه مينا وشاركه الطعام والشراب وبادله الزيارات والتهنئة فى المواسم والأعياد، فإن خطاب اليوم قد ضاق بالخواجه مينا ، ورآه غريبا ينبغي أن يرحل عن الديار التى لم تعد تتسع له ولنا ، وقبل ذلك ضاقت الصدور به فرأينا زيارته حراما ،وتهنئته جرما ،وإلقاء السلام عليه إثما، واعتدينا عليه وعلى داره ومحله وكنيسته ،ورغم هذا يطلع علينا البابا تواضروس بقوله:"فلتذهب الكنائس وتبقى مصر" ، ناهجا نهج  سلفه العظيم البابا شنودة حين قال: "مصر وطن يسكننا قبل أن تكون وطنا نسكنه".

 

لكن هذا يكشف لنا من يحب مصر ومن يسعى إلى حرقها ودمارها.

 

مؤتمر الخطاب العربى فى الأردن:

 

     شاركنا فى مؤتمر الخطاب العربى بطنطا أساتذة أجلاء من الجامعة الأردنية ،وقد كان لبعضهم بعض الملحوظات على مؤتمرنا ،ولأنهم كانوا يزمعون إقامة مؤتمر دولى عن الخطاب ، طلبنا منهم أن يستفيدوا من تجربتنا.

 

     وكان من الطبيعى أن نلبى الدعوة التى وجهت إلينا من الجامعة الأردنية للمشاركة  فى فعاليات "المؤتمر الدولى الأول للخطاب" فى 8/5/2007 .

     ذهبت إلى هناك محملا بتلك المشاعر السلبية التى أشاعها فى نفسى الأستاذان الكبيران ،- راجيا أن أتجنب شر الأساتذة الكبار ،وأقل هذا الشر هو رفع ضغط الدم.

 

وعلى المنصة جلس بجوارى أديبة تونسية وأكاديمى جزائرى و أدار الجلسة أستاذ أردنى.

     ولأن الموضوع كان مختمرا فى ذهنى ،فقد ارتجلت كلمة تضمنت نفس الأفكار التى قلتها فى مؤتمرنا فى طنطا وعندما فرغت أفكار الجالسين على المنصة ،جاء دور التعليق...وفيما يخصنى قالت الأديبة التونسية الجالسة بجوارى أن كلمتى نقلت إليها إحساسا سوداويا كما لو أن الظلام قد اكتنف عالمنا العربى ،ولم يبعد كثيرا عن هذا المعنى ما قالته أستاذة أردنية..الأمر الذى جعلنى أفاجئ الأخيرة بسؤال: هل بلغت سن الأربعين؟ قالت : لا، فقلت: هذا حسن لأن من بلغ سن الأربعين ولم يدرك المأساة القوية التى تحياها أمتنا العربية ، لم يعرفها بعد.

 

     واعتبرت صمت الزملاء الممثلين لجميع أقطار أمتنا العربية موافقة على هذه الآراء التى ترى أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.

 

     وانتهى المؤتمر، وظل السؤال الذى صحبنى من القاهرة نبتة صغيرة ينمو ويتضخم إلى أن أصبح دوحة ملتفة الأغصان متشابكة الفروع.. ألا وهو :

 

     ماذا عسى أن يكون قد أصاب المثقفون العرب بحيث يرون عالمهم طاهرا نقيا وصافيا فى وقت تحول فيه هذا العالم إلى مستنقع حافل بالعديد من الطفيليات والفيروسات مما أشرت إليه فى كلمتى.

 

     لكن كان هذا كافيا لأن تعاودنى نوبة ارتفاعضغط الدم التى اكتشفت أنها تطورت-عندما توجهت إلى مستشفى الجامعة الأردنية- إلى جلطة فى المخ ، بدأت رحلة العلاج فى الأردن ثم استكملت هذه الرحلة عقب عودتى إلى مصر فى مستشفى عين شمس التخصصى.

اللهم اكفنى شر المدلسين من مثقفى وطنى ،أما جهلاؤه من الأميين ،فأنا كفيل بهم.

 

الخطاب العربى .. إلى أين ؟

 

     والمقارنة بين أمس الخطاب العربى ويومه ،تؤكد لنا أن الخطاب العربى مثل الحياة العربية عموما ينزلق إلى أسفل ، ويتجه نحو الهاوية ،ولا يضيف إليه الزمن إلا المزيد من السفول والأفول،فما كان سيئا بالأمس يصبح أكثر سوءا اليوم ، مما ينذر بكارثة محققة سوف تنزل نزول الصاعقة على رأس الأمة العربية.

 

     لهذا وجب أن تستيقظ هذه الأمة من سباتها ،وأن تعيد النظر فى حياتها وقيمها ومعتقداتها ،وأن لا تتردد فى إجراء جراحات عاجلة لكل ما يمثل عوائق فى طريق تقدمها، أن تستأصل شأفة جماعات التطرف والتعصب والإرهاب ،ثم علينا أن نعيد بناء الإنسان العربى من جديد،هذا الإنسان الذى أضحى أطلالا مهدمة بفعل حفنة من الحكام الذين باعوا شعوبهم ،وهدموا أوطانهم لقاء الكرسى الذى لا ينبغي أن يجلس عليه أحد غير الحاكم الإله.

والمشروع العاجل فى إعادة البناء ، هو التعليم.

 

الخروج من المأزق:

 

     بعدما حدث ما حدث ، ينبغي تحرى الصدق مع النفس قبل تحريه مع الآخرين ، وأن نشير إلى مواطن الداء دون مواربة أو االتفاف ...الأمة العربية فى خطر ، وهذا الخطر يحدق بها من كل الجهات ، هى مهددة من الداخل كما هى مهددة من الخارج،فلنعلنها واضحة :

" نحن أمة فى خطر"

 

     وعلينا أن نواجه هذا الخطر بشجاعة ، فلم نعد نملك ترف المثقفين المتشرنقين حول ذواتهم الذين يتوهمون أن أمتهم بخير ما دامت ثمار هذه الأمة تهطل عليهم ،وليذهب الآخرون إلى الجحيم.

 

     علينا أن نسقط كل الشعارات المفخخة التى ظللنا نرددها سنوات طوالا متوهمين الشفاء فيها ، ولم نشف، بل تفاقم الداء ولن أخشى قول : إن أول هذه الشعارات التى ينبغي أن نسقطها شعار: " الإسلام هو الحل".

وبحسبنا السنوات الطوال التى مضت ونحن نلوك هذا الشعار مضغا وهضما دون جدوى ولم نصل لحل واحد لمشكلة واحدة.

 

فلنتخلص من آفة التعميم ولنحل مشاكلنا قطعة قطعة بالمنطق النبوى :"أنتم أعلم بشئون دنياكم".

 

     وإذا كان ثمة شعار بديل فليكن " التعليم هو الحل" وليس فى هذا الشعار افتئاتا على الإسلام ، بل هو الضمان لغسل وجهه من البثور التى لوثته على يد جماعات الإرهاب والتعصب والتنطع التى احترفت المتاجرة به، وأعتقد أن التعليم هو الوصفة السحرية الواقعية التى ستحل لغز التخلف الذى نعانيه فى شتى المجالات ،وهو القادر على نقلنا من منطقة الخطر إلى منطقة الأمان و"التعليم" فى هذا السياق ليس معادلا للإسلام فحسب ، بل يتسع ليشمل معنى الدين بكل ما يحمل من معانى النبل والمروءة والكرامة والتسامح ، وصدق رسول الله حين قال : "العلماء ورثة الأنبياء".

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code