سلطة الزميل (المسلم)
لى مع السلطة حكايات ، أهونها ما أتى من قبل السلطة الأمنية المخابراتية التى تستدعيك بأدب فج ، واحتشام ممجوج ، يسألونك عن صغائر ، لكنها تعظم فى عيونهم ، وأغلب هذه الحكايات أتى من قِبَل السلطة الاجتماعية ممثلة فى سلطة التقاليد تارة ، أو فى سلطة الرأى العام تارة اخرى ، أو من جهة السلطة الثقافية سواء تمثلت فى سلطة رسمية لها حساباتها ومصالحها ، أو فى تلك الشللية المحبوسة داخل قفص أيديولوجية ما ، وما تنفك تصادرك وتنفيك لأنك تغرد خارج السرب ، وتبدع على غير تصورها للإبداع .
أما السلطة الدينية ، فما أكثر المتحدثين باسمها من المتطوعين والرسميين ، إنها الجلباب الفضفاض الذى ما إن يرتديه أى مسكين أو عابر سبيل حتى يتصور نفسه حامى حمى الديار .
ولا حدود لأخطبوط السلطة ولأذرعتها التى تمتد إلى الأفواه لتكممها ، والأقلام لتقصفها ، والأفكار لتقهرها ، والمشاعر لتقمعها ، وحتى إلى الخواطر لتئدها وهى أجنة فى أرحام العقول .
السلطة فوقنا وتحتنا ، أمامنا ووراءنا ، عن أيماننا وشمائلنا ، كامنة فى الماء الذى نشربه ، ونائمة فى الهواء الذى نتنفسه ، ومعجونة بالخبز الذى نأكله .. لكن أبشع السلطات وأخطرها هى تلك التى تتسلل من خارجنا إلى داخلنا متمثلة فى هذا الرقيب الداخلى الذى لا تغفل عينه لحظة عن رصد لعناتنا التى نلقى بها ليلا – تنفيسا عن مكبوتاتنا – فى وجوه من نضطر إلى الابتسام لهم نهارا .
وفى عملك ، لا تسلم حتى من سلطة طلابك ، وذلك حين يشهرون فى وجهك سيف الجهل الذى زرعه فى عقولهم أمراء الدروس الخصوصية من شيوخ الجماعات السرطانية المنتشرة من النجوع والكفور ، حتى شبكة الإنترنت ، مرورا بفضائيات تنشر الشر والظلام تحت اسم الهدى والنور .
ولقد عشت زمنا جاء فيه الطلاب إلى الجامعة ، لا ليتعلموا من أساتذتهم ، ولكن ليعلموهم ، وليفرضوا عليهم ثقافة الشوارع والأرصفة التى صُوِّرت لهم على أنها صحيح الدين .
ورغم هذا لم يفقد الطلاب براءتهم بعد ؛ إذ يمكن أن تسدد خطاهم رغم المدخلات التى شوهتهم .لكن ما الحيلة فيمن يفترض أنهم شركاء ، وهم يصادرون عليك ، ويشون بك ، وتصبح مادة للمز ، وهدفا للنميمة ، ينطق لسان حالهم أن "اخرج منها" ليظفروا وحدهم بمفاتح الجنة ، أليسوا حزب الله ، أما أنت فمن أتباع حزب الشيطان ؟!.
***
هنا سأعرض نموذجا يعكس سلطة الزميل (المسلم) من خلال رد فعل الكلمة التى ألقيتها فى افتتاحية المؤتمر الذى أعد له قسم اللغة العربية بآداب طنطا (2-3 أبريل 2006) لمناقشة قضايا "الخطاب العربى فى مستهل القرن الحادى والعشرين" . وباستثناء من صادفت الكلمة هوى فى نفوسهم ، ووجدوا فيها تشخيصا لواقع الخطاب العربى ، فقد تعرضت الكلمة لغمز ولمز من جانب أساتذة كبار صادف هوى فى نفوس صغار ، لم يروا خلف كل كلمة إلا نوايا شريرة ، وأفكارا سوداء ، وعداء للعروبة والإسلام .. ولم يشأ هؤلاء أن يطلقوا تهمة الكفر صراحة ، وإن كانوا قد أومأوا بها مجازا ... بعد سبعة أشهر كنت قد أصبحت أستاذا متفرغا ، ومن ثم فقد أعفيت من رئاسة القسم ومن الإشراف على كلية الآداب بكفر الشيخ .. دار حوار مع أحد الزملاء ، ارتفعت حرارته بسرعة غير متوقعة متهما بأننى أسأت إليه بهذه الكلمة ، وأننى كنت أقصده بالذات ، وسرعان ما بلغ الحوار ذروته بقوله : "أنا اتجاه إسلامى .. وأنت اتجاه يسارى شيوعى .. أنا رجل مسلم ، وأنت شيوعى" . هكذا خبط لزق .. ولو أن الزميل (المسلم) اكتفى بقوله "أنت شيوعى" لأوَّلت هذا القول إلى المعنى الذى لا يخرجنى من دائرة الملة ، ولكن أن يقول ما قال بصيغة "أنا .. أما أنت" فالمعنى أن له دينه ، ولى دينى الذى يخالف دينه ، .. هكذا وبكل بساطة تلقى فى وجهك تهمة التكفير ، وليس من قِبَل عامة لهم ظروفهم ، أو من قبل طلاب يمكن تدارك حالهم ، وإنما من قبل أساتذة يفترض أنهم يشكلون وجدان جيل ، ويصوغون عقول من سيكونون قادة الفكر فى هذه الأمة ، وهذا هو ما يؤلم ويحزن . ألم نع الدرس بعد ؟ ، وإلى متى سنظل نبدأ من نقطة الصفر ؟ ، وهل سنظل ندور فى كل القضايا والأمور دورة جاليليو ولا نرجع إلى الصواب إلا بعد قرون يكون الزمن فيها قد تجاوزنا ؟ وماذا يفيد حينئذ أن نعيد الاعتبار للأفكار التى ظنناها تهدم ، ونكتشف بعد فوات الأوان أن شهوة البناء وإصلاح الحال كانت هاجسها ؟ .
***
تتضخم سلطة الزميل (المسلم) إلى الدرجة التى يستنكر فيها عليك نقد أفكار الآخرين . إن أول درس نعلمه طلابنا هو عدم الخضوع لأفكارنا ، نشجعهم على نقدها ، ونغريهم حتى بالتجرؤ عليها ، لا نكف عن التذكير الدائم بأن الطالب الجدير بتقدير "ممتاز" هو المبدع لا المتبع ، المجدد لا المقلد ، الحر لا العبد ، وكنت قد دربت عقلى مذ كنت مدرسا على أن أقهر الغرور الكاذب فى نفسى لتكون كتبى هى الأرانب التى يجرب فيها الطلاب مشارطهم النقدية ، وكنت سعيدا حتى حين تتجاوز هذه المشارط الحدود المسموح بها ، أقصد أن أقهر حاجز الخوف القائم فى عقول أبناء العالم الثالث ، وأقصد أيضا أن أزيل هيبة الأستاذ السلطوية تمهيدا لإزالة الهيبة تجاه أية سلطة ، وما زلت أحتفظ بدوسيهات ملأى بتعليقات عنيفة أعتبرها إضافة إلى رصيدى وليست خصما منه كما يظن آخرون يعتبرون أن مجرد الاقتراب ذواتهم المصونة يهدر كرامتهم !.
***
بعد عمر علمى طويل بلغت بعده شاطئ التفرغ ، أحسست أننى أجلس على قمة العالم مثل القديس أوغطينوس لأنى لا أشتهى شيئا ولا أخاف شيئا .. من هذا الموقع أقول كلمتى .. لكن ماذا تقول حين يخرج الزميل (المسلم) ليستنكر عليك نقد أفكار أساتذة بشر مثلنا من لحم ودم ، وهم بالطبع ليسوا من المعصومين ، وهو لا يدرى أنه بذلك لا يسئ إلى نفسه فقط ، بل إلى هؤلاء الأساتذة لأنه يفترض أنهم من الضعف بحيث تقلقهم وتقض مضاجعهم كلمة نقد . ثم ماذا نتوقع من أستاذ يستنكر على أستاذ أكبر منه نقد الأخرين ؟ هل نتوقع أن يسمح لطلابه بالتفكير الحر .. أن يكونوا مبدعين لا مقلدين .. هل نتوقع أن يسمح لهم بمخالفته الرأى إذا تطلب الأمر ذلك ؟ .. يا ويحنا .. وويح طلابنا .
أليس من حقنا - إذن – أن نعجب مع صلاح عبد الصبور من هذا العبث ، بينما الدنيا تشمر ساعد الجد ، ونعجب من هذه الأفكار والرؤى التى ترعرعت فى وادينا الطيب ، أو الذى كان طيبا .
ألم يكن من حقى أن أقول ما قلته منذ عشر سنين ، وأنا أصدِّر محور "سلطة الثقافة السائدة" فى كتاب "الشاعر والسطة" بهذه العبارة :
"تجهد بعض الشعوب نفسها فى تعلم ما يوقف نموها العقلى" !.
ومن واجبنا أن نتساءل : أين المياه التى ترفعها هذه الناعورة التى لا تكف عن الشخير والنعير ؟ . وإذا كان ثمة مياه ، فهل صلحت بها الحياة ؟ .
***
الزميل (المسلم) هو الوحيد من بين الزملاء الذى بارك اغتصاب اسم أستاذ ، واغتصاب مكانه ، ولم يدر أن اغتصاب المكان هو اغتصاب للمكانة ، أو ربما درى ، لكنه – على أية حال – سعيد ومغتبط ، كما هو سعيد ومغتبط بإسلامه ، ولا بد أنه قد عثر على الدليل الذى يؤكد سعادته واغتباطه من "القرآن" أو من "السنة" ، أو منهما معا ... ما رأى الزميل (المسلم) فيمن يخطفون السلاسل والموبايلات بالإكراه ؟!
***
يزداد ألمى حين أرقب سلوك بعض المسلمين ممن يُحسبون من الصفوة ، أشعر أنهم لا ينتمون إليَّ ، ولا أنتمى إليهم ، وكثيرا ما أردد فى نفسى "لكم دينكم ولى دين" . نادرا ما أعثر على المسلم الذى تطمئن إليه نفسى ، المسلم الذى يأتى حاله وفقا لمقاله ، علمتنى التجربة أن المظهر الدينى لا علاقة له بالدين ، بل ربما يكون نقيضا له .. وأنه ما أكثر التدين وما أقل الدين .. وأن الإفراط فى التشدق بالألفاظ الدينية يقابله إفلاس فى رصيد السلوك القويم .
المسلم الذى تطمئن إليه نفسى لا يشعر بأفضليته ، بل بأقليته ، وهو أبدا لا يصنف الناس إلى ملائكة وشياطين ، لأنه يدرك أن نفسه ساحة يتصارع فيها الملاك والشيطان ، وهو حين يتحسس ذاته لا يفرح بها ، وحين يختبر عبادته لا يرضى عنها ، وحين يتأمل صلاته لا يغض الطرف عن شوائب الشك والشرك التى اختلطت بها ، وهو يمضى فى حياته يحاول أن يخلى فؤاده مما يشوه عبادته .. وقد تنقضى الحياة ولا يدرك مبتغاه .
هذا هو المسلم الحي المتجدد الذى يغسل روحه بماء الصفاء كل صباح ، كما الشمس والقمر ، وكما أمواج البحر وأوراق الشجر .. أتوق دائما إلى مسلم جميل بعذابه ، لا فظ بأمانه البائس ، أو غليظ باطمئنانه المتثائب .. مسلم نقى يعترف بما يكدر ماء إيمانه .. مسلم قوى لا يستحى من ضعفه وهوانه .. مسلم صادق يدرك أن خطوه أقصر من مراده .. مسلم ذى روح لا تجامل فسقة العلم ونقلته ، ولا تتحامل على المبدعين ، وتتحرش بهم ، وتتعقبهم ، وتكيد لهم ، وتستعدى عليهم .. روح توافقك اليوم ، وتخالفك غدا ، لأنها لا تتمسك بك ، بل بالمبدأ .. روح لا تضحى بمستقبل فرد لقاء أموال الدنيا .. روح تقول الحق لأن الفطرة السوية تحب الحق ، وتعشق الحقيقة ، روح منزهة عن الصخب والضجيج والخداع .. روح سمحة صافية ودودة محبة للكون ومتعاطفة مع الكائنات .
***
يسعدنى أن أسمعكم أجمل صوت صادفته لمسلم ؛ صوت الحلاج ، الصوفى ، الصافى ، حين يقول على لسان صلاح عبد الصبور :
سألت الشيوخ ، فقيل
تقرَّب إلى الله ،صلِّ ليُرفع عنك الضلال .. صلِّ لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون ، ورب الحياة ، ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر فى أعظمى ويئز كريح الفلا ..
وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أنّى أعبد خوفى ، لا الله ..
كنت به مشركا لا موحِّد
وكان إلهى خوفى
وصليت أطمع فى جنته
ليختال فى مقلتى خيال القصور ذوات القباب
وأسمع وسوسة الحلى ، همس حرير الثياب
وأحسست أنى أبيع صلاتى إلى الله ..
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركا لا موحّد
وكان إلهى الطمع
وحيَّر قلبى سؤال :
تُرى قُدِّر الشرك للكائنات
وإلا ، فكيف أصلى له وحده
وأخلى فؤادى مما عداه
لكى أنزع الخوف عن خاطرى
لكى أطمئن ..
***
هذا نموذج لما يتعرض له الكاتب من قِبل شبكة من السلطات العنكبوتية العنقودية المتماسكة والمتساندة ، تتكرس لتحول بينه وبين تعرية الواقع ، والإشارة إلى موطن العطب ، والتنبيه إلى موضع الخلل ، يبدو الأمر كما لو أن عقدا موقعا بين هذه السلطات على أن يقف أفرادها صفا واحدا ضد من تسول له نفسه أن يدق الأجراس ليوقظ النيام ، ليس لأن فى النوم راحة فقط ، ولكن لأن ثمة مصلحة من بقاء النوام على حالهم . مصيبتنا فى عالمنا العربى ، أن ظروفا كثيرة ، قد نجحت فى تحويلنا إلى أسراب من الفئران التى لا يتجاوز حلمها أكثر من النجاة من مصيدة الصياد والتعايش فى أمان مع ما يصادفها من فتات .. لذا تجد من بيننا من لا يمانع فى التضحية بمستقبل جيل إذا ما ألقيت إليه لقمة من أصحاب الفضل ، ويجد ذلك عاديا ، بل ربما وجد له مسوغا شرعيا .. هكذا يحيا فى أمان واطمئنان تحت راية الإسلام ! . والحقيقة أننا فرائس فى قبضة "الوهم الثقافى" (1) ، ولكن إذا كانت الأغلبية تتعايش مع هذا الوهم ، فإن الأقلية الرائدة تقاومه وتكشفه وتعريه كى يعيش العربى على أرض فكرية صلبة ، وأن يتفهم دينه كما أنزله الله بريئا نقيا قبل أن تعبث به عقول العابثين من كهنة العلم الذين ما يزالون يوزعون صكوك الغفران والنكران ، ويشطرون العالم نصفين : مؤمن وكافر ، وما زالت صيغة الخطاب الأثيرة لديهم هى "أنا مسلم .. وأنت شيوعى" ! .
ألم أكن إذن على حق عندما قلت : "فى عالمنا العربى تجد ألف واحد رجعى يقفون بالمرصاد وراء كل تقدمى يهدمون ما قدم ، وينقضون ما أنجز" .
أن موقف الزميل (المسلم) يؤكد أهمية الكلمة موضع النقاش ومصداقيتها ، وأنها بالفعل قد وضعت يدها على الجراح ؛ جراح الخطاب العربى . فقط أطلب من القارئ أن يقرأ الكلمة لا بعين الرضا ، ولا بعين السخط ، فالأولى كليلة ، والأخرى عليلة ، أن يراها بعينه لا بعين غيره ، ان يدركها بعقله ، وألا يسمح بأن يبصق فى رأسه أحد ، وانظر ، ماذا ترى ؟ هل ترى خلف كل كلمة حقدا على الإسلام أم غيرة عليه . أنت قادر - إذا كنت تمتلك آليات تحليل الخطاب – ان تحلل كل كلمة لتكشف عما تخبئه وراءها .
وقبل أن أورد "الكلمة" أود أن أقدم جزيل شكرى وامتنانى لصديقى المسلم الذى منحنى الفرصة لأضيف هذه الصفحات إلى كتابى الأثير "الشاعر والسلطة" .
***
(1) لمن لديه الاستعداد لمعرفة الأوهام الثقافية التى تسربت إلى وعينا ولاوعينا وأثرت سلبا على رؤيتنا للحياة وللكون وللناس ، يمكن الرجوع إلى ما كتب فى هذا المجال ، وهو كثير ، ويمكن البدء بما كتبه عبدالله الغذامى عن "الوهم الثقافى" ، ويمكن الاستفادة بما ينشر على شبكة الإنترنت .. والمجال لا ينتهى .
الخطاب والاغتصاب
كان جدى فلاحا ذا روحا سمحة : يرتل القرآن فى الصباح ، ويستمتع بصوت أم كلثوم فى المساء ، أما فى الظهيرة فكان يتقاسم تحت شجرة الجميز الكبيرة مع الجواجة مينا طعام الغذاء ، وعندما أهديته فى ستينيات القرن المنصرم تمثالا صغيرا للملكة حتشبثوت ، كنت قد اشتريته أثناء رحلة مدرسية إلى مدينة الاقصر ، احتفى به أيما احتفاء ، ومن خلاله كان يتحدث فخورا عن أجداده ، وعن المرأة التى تعدل ألف رجل .
اليوم نرى الأحفاد يمسكون المصاحف فى أيديهم ، لكنا لا نشعر بالسماحة فى قلوبهم ، ونرى الفتيات يسدلن النقاب على وجوههن ، لكنا لا نطمئن إليهن .. وكل شئ عندهم وعندهن حرام ، صوت أم كلثوم يلقى بسامعه فى النار ، الخواجة مينا نجس ، المرأة رحم للإنجاب وخادم للرجل ، التمثال إله يعبد من دون الله ... وهلم جرا .
لقد شب جذع جدى واستطال على شاطئ النيل أيام كان نقيا وأنيقا ، تحمل مياهه طين الخصب والنماء ، وتمتزج بغرين الحب والعطاء ، وتنعكس على صفحته الصافية زرقة السماء .
أما الحفيد فقد نمت ساقه على شاطئ مجرى من مجارى الصرف غير الصحى المنتشرة كما الأوردة والشرايين فى داخل الجسد ، ومن هذا المجرى استمد الغذاء ، وامتلأت خياشيمه بالهواء.
كلما تأملت حال الأحفاد ، يأتينى طيف جدى فأتحسر مع صلاح عبد الصبور وأقول :
عبثٌ .. والأيامُ تَجِدْ
لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطَّيِّبْ
هذا القدرُ من السِّفْلةِ والأوغادْ
لكنى أعود فأقول : إنه الخطاب .. الخطاب القواد .. الذى يقود العقل من أنفه ليقع فريسة سهلة فى شبكة الاغتصاب .
إنه الخطاب الذى عجز عن مواجهة إشكاليات الحياة ، ومواكبة مستجداتها ، فانسحب متقوقعاً على نفسه ،ليعيد إنتاج الخطاب القديم ، مضحياً بنهر الحياة المتدفق ، بالطازج والساخن والجديد ، نهر الحياة الذى تضطرم أحشاؤه بقضايا وأمور لم تكن حتى لتخطر على بال السابقين ولو من قبيل التخيل أو الخيال .
والنتيجة هى اتساع الفجوة بين الخطاب والواقع ، وتظل اسئلتنا القديمة هى نفسها أسئلتنا الجديدة والمتجددة ، تظل أسئلتنا معلقة لأن إجاباتنا معلبة ، ونظل ندور فى حلقة مفرغة ، الرتان الدينى يمتد ، والوعى الدينى يرتد ، ويصبح الشعار أهم من الشعيرة ، وتصبح المئذنة أهم من الصلاة ، ويضيع الدين ويبقى التدين ، يضيع الدين الحق ، ويبقى التدين المغشوش ، يدعى كل منا أنه يخدم الله ، بل ينطق لسان حالنا : نحن وحدنا نمتلك الله!!
خطاب يبثه ذئاب تتستر وراء الشفافية والمصلحة الوطنية حينا ، وخلف المسابح وآيات الكتاب أحيانا ، خطاب مشغول عن تفسير كوابيس النهار بتفسير أحلام الليل :
صنمٌ ومسبحةٌ من اليُسْرِ المتَوَّهجِ بالذَّهَبْ
مُتربِّعٌ فى فَرْوِ خاروفْ
ويشرحُ ما يشاءُ من الكتابْ
فى عينه وَرَعٌ
ولكن عينُهُ الأخرى
تؤهِّلُنا ولائِمَ للِّذئابْ
وغالبا ما يتوسل هذا الخطاب ببعض التوابل ليسهل عملية تمرير الطعام الفاسد ، وكما يقول مكسيم رودنسون : "ما أسوأ اللغة التى لا فعل لها سوى فعل التوابل ، حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فسادا" .
***
فى خطابنا العربى تجد ألف واحد يعلمونك كيف تموت ، وقلما تجد واحداً يعلمك كيف تحيا .
تجد ألف واحد يعلمونك كيف تنظر فى قفا الماضى ، وقلما تجد واحدا يعلمك التطلع نحو المستقبل .
تجد ألف واحد يعلمونك كيف تكون تابعاً ، وقلما تجد واحدا يعلمك كيف تكون مبدعا .
تجد ألف واحد يعلمونك أن طوق النجاةهو فى الاكتفاء بالاسترخاء على شواطىء السعادة البليدة ، وقلما تجدا واحد يلقى بك عامدا فى محيط الشك والسؤال ، لتكتشف بنفسك ولو شعاعا واحدا من شمس الحقيقة .
تجد ألف واحد يعيدون إنتاج الماضى ، وقلما تجد واحدا يعيد اكتشاف هذا الماضى فى ضوء مقتضيات الحاضر ومتطلبات المستقبل .
تجد ألف واحد يقع فى شباك وهم اليقين المطلق والحقيقة النهائية ، وقلما تجد واحدا يحاول أن يزرع الشك فيما هو قائم رغم فظاعته وفظاظته ولامعقوليته .
تجد ألف واحد يتتابعون عليك يعلمونك - كلٌ بطريقته – كيفية غسل الميت ، وقلما تجد واحدا يعلمنا كيف نغسل عقولنا من فيروسات الخطاب السياسى والإعلامى والثقافى ، وكذا طفيليات الخطاب الدينى .
تجد ألف واحد رجعى يقفون بالمرصاد وراء كل تقدمى يهدمون ما قدم ؛ وينقضون ما أنجز.
تجد ألف واحد يصرخ :
"إن أرضنا هى مهد الحضارات ، ومهبط الديانات والنبوات" ، وقلما تجد واحدا يسأل : وماذا صنعنا بهذه الأرض ؟.
النُّبُوَّاتُ ثوبٌ نَسَجَتْهُ بأهدابها أرضُنا
والسَّماءُ وأفلاكُها تدورُ على أرضنا
فلماذا كُلُّ شيءٍ عليها خُواءْ ؟
ولماذا كل شيءٍ أصَمُّ وأعمى ؟
وأخيرا وليس آخرا تجد فى عالمنا العربى عشرين واحدا آلوا على أنفسهم أن يظلوا وإلى الأبد فى خدمة رعاياهم ، ولم يفكر مرةً واحدٌ منهم أن يؤثر نفسه ولو بالسنة الأخيرة من عمره المديد ، يريح فيها دماغه من صداع الأتباع ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فى تفانيهم ، وذلك حين أعدوا العدة ليحمل الهَمَّ بعدهم أبناؤُهم .. يا ويحهم وويح أبنائهم .
***
هل نحن بحاجة إلى أن نحرث الأرض ، نقلب بطنها على ظهرها ، نلقى فيها نطفا طاهرة تشب وتصبح أفئدة حية نهيئ لها خطابا بريئًا من فيروسات الهرمنة والسرطنة ؟
ولكن .. أنىَّ لنا ذلك ؟ إنها اليوتوبيا ..
لنعد إذن إلى الواقع لنرى :
نرى الخطاب التعليمى قد اعتقل العقل حين اعتمد كلية على الرضاعة العلمية الصناعية متمثلة فى الدروس الخصوصية .
لنرى الخطاب الإعلامى وقد نجح فى تغييب الناس حين أجلسهم يتثاءبون على شواطئ البرامج الهابطة والمسلسلات البليدة والأغانى الفجة .
لنرى الخطاب السياسى وقد احتكر الحقيقة واحتكر معها كل شىء .
لنرى الخطاب الدينى ، وقد عاد بنا إلى ما قبل العصر الجاهلى .
والنتيجة إنسان عربى معطل الحواس .
وتبدو المفارقة حارقة للكبد ، خارقة للقلب ، حين تتاح الفرصة لهذا الإنسان ، فيعبر إلى الشاطئ الآخر ليرى الإنسان هناك وحواسه تعمل بكل طاقتها : جسدا وقلبا ولسانا ، عقلا وروحا ووجدانا ، فيفزع على عمره الذى ضاع سدى ، ويجزع لأنه لم يدرك الدرس إلا بعد فوات الأوان :
فى أيامٍ .. فى أيامْ
سوف أعانقُ قاهرتى
يلتئمُ الشَّملُ مع النُّدْمانْ
قد يسألنى أحدٌ منهم أن أفتح قلبى ، أحكى لَهُمُو
تذكاراتى من مانيلا
سأقول لَهُمُ :
لا تذكاراتٍ معى .. لا .. بل أعطتنى مانيلا
شيئاً من حكمة مانيلا
أعطتنى أن الفمَ لم يُخْلق إلا الضحك الصافى الجذلانْ
أعطتنى أن العينين
مرآتانِ يرى فى عمقهما العشاقُ ملامحهمْ
حين يميلُ الوجهُ الهيمانْ على الوجه الهيمانْ
أعطتنى أن الجسمَ البشرىّْ
لم يُخْلَقْ إلا كى يعلن معجزته
فى إيقاع الرقصِ الفرحانْ
درسٌ عَرَفَتْهُ روحى بعد فواتِ الأزمانْ
بعد أن انعقد الفمُ بضلالاتِ الحكمة والحزن ..
وأُرخى سِتْرُ القلقِ الكَابى فى نافذة العينينْ
وتصلَّب جِسمى فى تابوتِ العادةِ والخوفْ
بعد أن احترقت أو كادت بهجة عمرى
إذ رَمَتِ الأيامُ رَمَادَ حياتى فى شعري
درسٌ عرفته روحى بعد فوات الأزمانْ