أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

إخواننا الراتعون فى رابعة و.....

أضيفت فى السبت 10 أغسطس 2013

      قد يدهش القارئ إذا قلت : هذه البقعة السوداء فى الثوب المصرى ، أو هذه البؤرة الجرباء فى الجسد المصرى هى نتيجة طبيعية للتعليم الفاسد الذى صدرته المؤسسات التعليمية فى الربع الاخير من القرن العشرين ، وذلك حين اصيبت هذه المؤسسات فى أضلاعها الثلاث : المنهج ،والمدرس والطالب.

     إن الشر الذى انطلق يعربد فى الطرقات الأن ، ويتكوم فى بؤر صديدية إرهابية هو نتيجة حتمية لهذا التعليم الفاسد ، والذى كان قد حذر منه طه حسين فى النصف الأول من القرن العشرين فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" إذ يقول على وجه التحديد :"وإذا كان هناك شر يجب أن تحمى منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب ، الذى يكتفى بظواهر الأشياء ، ولا يتعمق حقائقها . فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر .وليس إلى ذلك من سبيل .. إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين".

     ولو أننا توقفنا عند هذه العبارة من كتاب طه حسين وأمعنا النظر فيها لأيقنا أنه كان يستشرف ما سوف يحل بالبلاد من بلاء جراء هذا العلم الفاسد الذى سمحنا له بالولوج إلى مؤسساتنا التعليمية بدءا من التهاون فى إعداد المعلم الذى تخرج من كليات التربية وهى لم تكن كليات قدر ما كانت امتدادا مترهلا وفضفاضا للمرحلة الثانوية ، وأغلب أساتذتها هم من مؤلفى المذكرات التافهة والكتب الفارغة ... تحولت هذه الكليات إلى بوتيكات لتوزيع ما يسمى الكتاب الجامعى وما هو بكتاب، وما هو بجامعى .. ولو أتيحت لك فرصة الجلوس إلى الشباب من خريجى كليات التربية ممن أتيحت له فرصة التعيين فى الجامعة لاستمعت إلى قصص هى أقرب إلى العجائب والغرائب تشرح السبل التى يلجأ  إليها الأساتذة فى ترويج بضاعتهم المضروبة لدى زبائنهم من الطلاب .

     إن مهمة تشكيل وجدان جيل من الشباب ستئول إليه  مسؤلية تشكيل الجيل الذى يليه لم تكن فى حسبان أحد.

     هؤلاء الخريجون الفارغون هم الذين تصدروا المشهد التعليمى فى مؤسسات التعليم فى نهاية القرن الماضى .. ولم يتعلموا من مدارسهم إلا الدرس الأكبر والأعظم الذى تعلموه فى جامعاتهم ،وكما تحولت كليات التربية إلى بوتيكات لبيع الكتب تحولت بيوت المدرسين إلى بوتيكات للدروس الخصوصية .. وإذا لم يتسع بيت المدرس لذلك فلا مانع من أن يقضى المدرس عمره متسكعا ومتنقلا من بيت إلى آخر من بيوت تلاميذه... كان طبيعيا أن تهدر قيمة المعلم الذى أصبح مألوفا أن نراه وهو يمد يده إلى تلاميذه ... وأصبح طبيعيا أن تهدر قيمة هذا العلم الذى لم يعد يسعى لتشكيل عقل أو تكوين وجدان قدر ما يسعى إلى تعليم التلميذ كيف يصطاد الدرجات وذلك كما يتلهى طفل عابث باصطياد الحشرات، وكما لا يتمتع الاخير بإصطياد الحشرات مهما بلغ عددها ، كذلك لا يستفيد التلميذ بالحصول على كم كبير من الدرجات ، وليس غريبا أن تقابل طالبا حصل على 102% ويعجز عن إقامة جملة مفيدة ، ناهينا عن عجزه عن كتابة رسالة إلى والده المشغول فى دول الخليج بتمويل ابنه ليسد أجر الدروس الخصوصية التى أدمن تعاطيها فى كل المواد.

     هذا هو الشر الذى حذرنا منه طه حسين والذى أغرانا أن نبحث عن السبل التى تمكنا من أن نرده عن أجيال الشباب ،فلم نعر طه حسين انتباها.بل ولم نهتم بقراءته ، وانقلبنا عليه وكفرناه وانشغلنا بتدبيج الكتب التى تتغنى بمظاهر زندقته وكفره.. هذا العلم الكاذب الذى لا يهتم إلا بالقشور ، هو المهاد الذى تربى فيه هذا الجيل الراتع فى رابعة .. وهو نتيجة طبيعية - ليست غريبة ولا شيطانية – لهذا المهاد الذى تربى فيه هذا الجيل.

     من السهل ملاحظة أن من بين الراتعين فى رابعة من كانوا طلابا متفوقين بالقياس إلى ما حصلوا عليه من درجات فى الثانوية العامة مكنتهم من الدخول الى كليات القمة ، ولكنهم كانوا متخلفين بالقياس إلى ما تعمقوه من حقائق العلم ..

     خليط من المهندسين والأطباء وأساتذة الجامعة ، قد تخدعنا مهنهم عن حقيقة الخواء العقلى الذى يعيشونه بفعل العلم الكاذب الذى رضعوه عبر سنيى حياتهم . هذا الخواء هو الذى يجعلهم يساقون من أنوفهم إلى طرق مغلقة يرون فيها النجاة والخلاص،وتسقط كل محاولاتك فى إقناعهم. إنهم يسيرون فى الطريق الخطأ ، لم يتعلم أحدهم نعمة التفكر والتدبر، ولئن كان قد حصل أحدهم على بعض القشور المعلوماتية إلا أنه  أنه يفتقد الوعى الذى يجعله يقيس مالا يعلم على ما علم.

     وليس صعبا على أى أحد بدائى التفكير فهم أن ما يصنعه الراتعون فى رابعة إن هو إلا هبل وخبل، وكان يكفى أحدهم أن يذكر ما يتردد كثيرا على ألسنتنا من أقوال نبينا ومنه "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"- ليدرك أن ما يصنعه هؤلاء من أسوار وحواجز وقطع طرق وإحراق لإطارات السيارات ، ناهينا عن القتل والتعذيب وتحويل مكان إقامتهم إلى مذبلة كبرى وإزعاج للسكان – ليدرك حجم الجريمة التى يقترفونها ،لكن عقولهم أوهن من أن تربط بين الحديث وممارساتهم...

     إنه العلم الكاذب ... هذه هى محصلته فى  رابعة وغيرها من بؤر الشر والاجرام.

     إنه العلم الكاذب الذى خلف لنا هؤلاء العميان ، أو إن شئت قل هؤلاء الخرفان التى تسير خلف راع أرعن لا يتردد فى التضحية بها  - فرادى أو جماعات - حسب الطلب درءا للشر عن ذاته المدنسة.

     وأخيرا، وجب أن نعتذر لأستاذنا العميد لأننا لن نستفد بنصائحه ،بل كفرناه، وها نحن ندفع ثمن جحودنا.

 

بقلم أ.د أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة دمياط

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code