بين أيام طه حسين وأيام أبنائنا
قد يقول قائل : إن المقارنة بين أيام طه حسين التى عاشها منذ بداية القرن العشرين ، وبين أيام أبنائنا الذين يعيشون فى بداية القرن الحادى والعشرين ظالمة ، فإن قرنا من الزمان يكفى لتغيير نسق الحياة ؛ تاريخا وجغرافيا ، عادات وقيما وتقاليد ، سياسة واقتصادا واجتماعا ، فضلا عن الثورة التكنولوجية التى فجرت براكين فى دول وأوطان كثيرة . وقد يقول قائل : إن ابناءنا خلقوا لزمان غير زمان طه حسين ، وأنه ـ بسبب هذا ـ لا سبيل إلى المقارنة .
وأقول : إننا لا نقارن بين الأزمان والأماكن ، ولا أى من المفردات السابقة ، ولكن المقارنة هى فى كيف يواحه الإنسان ذاته ؟ وكيف يتعامل مع بيئته وأهله وأساتذته ؟ وكيف يبنى نفسه وعقله وروحه ؟ وكيف يتصرف فى شئونه ؟ وهى أسئلة مشروعة فى كل زمان ومكان لأنها تتصل بالكيفية الى يتم بها بناء الانسان لذاته .
ولنبدأ بالحديث عن أيام ابنائنا ، إذ يستيقظ الواحد منهم على مناغاة أمه أو مناجاة أبيه . . . وبعد محاولات قد يستيقظ ليجد فطوره المعد من أصناف من الطعام يعجز عن عدها ، لكنه يتأفف منها ويعرض عنها ولا تجدى محاولات الأبوين فى فتح شهيته . . . فإذا جاء دور الملبس يخير الجميل فيما يريد أن يلبسه اليوم لكنه يتناول أقربها إلى يده متثائبا ومتثاقلا ، فهى جميعا فى نظره سواء ، بل لعله يكرهها جميعا ، لأنها تذكره بهذا المكان الكريه الذى يضطره إلى أن يستيقظ من نومه اللذيذ لكى يذهب إليه كل صباح . . . وما إن يتهيأ الجميل حتى تكون الحقيبة جاهزة ، ليست حقيبة الكتب ، ولكن حقيبة الطعام المزودة بأنواع السندوتشات وأكياس كثيرة متنوعة ، وثمار فاكهة . . . وفى اللحظة ذاتها تكون السيارة التى ستقل الجميل جاهزة لتنقله من باب الشقة إلى باب الفصل الدراسى حتى لا تتلوث قدمه بالمشى فى الشوارع القذرة . . . وما إن يصل الجميل إلى الفصل حتى يكتشف أن المدرس غائب ، فيخبره المدير بأنه لم يكن ثمة داع لأن يتعب نفسه ، وأن يكلف خاطره بالاستيقاظ المبكر والذهاب إلى المدرسة ، وعليه أن يستريح فى بيته ، ولا بأس أن يظل قريبا من حضن أمه ، وأن المدرس سيصل إليه حتى غرفة نومه ، ويأتى المدرس الذى يحرص ـ أول ما يحرص ـ على مراعاه شعور الجميل والالتزام بعدم جرحها ، فيستأذنه فى أن يوافق على أن يدردش معه لمدة دقائق ، فإن وافق التلميذ شكر المدرس له وأخذ يداعبه ويلاعبه حتى يقبض ثمن هذه الدعابة وينصرف باحثا عن تلميذ آخر . . .
ليست هذه صورة كاريكاتورية لما يحدث فى مؤسساتنا التعليمية . . . فكلنا يعلم أن أبناءنا لا يذهبون إلى المدارس لأن المدرسة كانت مؤسسة انتهى زمانها والمدرسة الحقيقية الآن هى فى بيوت التلاميذ ، أو فى تلك البوتيكات التى فتحها المدرسون لاستقبال زبائنهم المحتاجين لبضاعتهم . . . كلنا يعرف هذا ؛ وزراء ووكلاء ومدراء وموجهون ومدرسون وأولياء أمور وتلاميذ ، وتعايشنا مع هذا الواقع الفانتازى ولم نعد نرى فيه غرابة أو شذوذا . ويمضى العام دون أن يتعلم الجميل شيئا أو يقرأ كتابا ، أو يفكر فى حل مسألة أو مشكلة ؛ لأن كل المسائل والمشاكل تأتى إليه جاهزة ومحلولة ، فلماذا يتعب نفسه فى التفكير والتدبير ، وقد كفاه المدرس مؤونة كل هذا ، وبحسبه أنه قد تعلم كيف يصطاد الدرجة ... وهو بالفعل قد حصل على درجات عالية آخر العام .
ويظل الجميل يتدحرج من سنة إلى سنة ومن مرحلة إلى أخرى حتى يجد نفسه وقد حصل على الليسانس أو البكالوريوس ... وساعتها يكتشف – فى أول لقاء له مع الحياة – أنه لم يتعلم شيئا ، لأن ما تعلمه هو – بتعبير طه حسين – العلم الكاذب ؛ أى التعليم الذى لم يمنح التلميذ إلا شهادة أو رخصة يعلقها على حائط غرفته ، لكن لا شئ قد علق بعقله أو بنفسه إلا ذكرياته مع أقرانه ، وسندوتشات أمه .
***
هذه باختصار قصة التعليم الكاذب التى عشناها لنصف قرن مضى ، والتى ترعرع أبناؤنا فى مناخاتها الفاسدة فتخرجوا من جامعاتهم مبتسرين علميا بعد أن قضوا سنى دراستهم سجناء حضانات يرضعون من الدروس الخصوصية.
***
لعل آباء وأمهات ومدرسى هذه الأيام يطالعون أيام طه حسين ليكتشفوا أنهم ساروا فى الطريق الخطأ فى تربية الأبناء . إن الأهوال التى صادفت طه حسين فى رحلته العلمية هى التى صنعت منه هذا العقل الجبار الذى قهر الظلام وأزاح الضباب الكثيف الذى كان يكتنف حياته وحياة مجتمعه . لقد أثبت طه حسين فى أيامه عقم جميع النظريات التربوية والنفسية ولو أننا طبقنا هذه النظريات على إنسان تعرض لما تعرض له طه حسين لكانت النتيجة هى إنسان فاشل معقد مكبوت ضعيف الإرادة ، تابع خاضع مذبذب مرتعش كاره للناس وحاقد على مجتمعه ، ولكن إرادة طه حسين أطاحت بجميع النظريات الآنفة ، وكانت أيامه هى النظرية الحية التى ينبغى أن تصحح هذه النظريات التربوية والنفسية نفسها طبقا لها ... إن العقل الكبير نتاج تجارب يومية متراكمة مشتبكة مع الشقاء ؛ مأكلا وملبسا ومسكنا ، حياة شقاؤها أكثر من نعيمها ، وهل هناك طفولة أشقى من طفولة طه حسين ؟
قضى حياته فى الأزهر لا يعرف من الطعام إلا طبق الفول والمخلل ، ولا من المشروب إلا كوب الشاى الذى كان يشتهيه فى كثير من الأحيان عندما لا يجده . أما غرفته فقد "كثرت فى جدرنها الشقوق ، وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان . وكانت هذه الحشرات وهذه الصغار من الحيوان كأنما وكلت بالصبى إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده فى ذلك الركن من أركان الغرفة ؛ فهى تبعث من الأصوات الضئيلة . وتأتى من الحركات الخفيفة السريعة حينا والبطيئة حينا آخر ما يملأ قلب الصبى هلعا ورعبا (120 – 121).
أما الغرفة المجاورة لغرفته كان يسكنها عشرون طالبا حتى يتسنى لكل منهم أن يدفع قرشا واحدا فى الشهر إيجار الشقة (143)ولعل أدق صورة لحياة طه حسين هى تلك التى رواها لابنته بعد أن انتصر على الصعوبات التى واجهته ، ولعله كان يرويها سعيدا بما أنجز وبما تجاوز ؛ يقول لابنته "عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا ، يأخذ منه حظه فى الصباح ، ويأخذ منه حظه فى المساء ، لا شاكيا ولا متبرما ولا متجلدا ، ولا مفكرا فى أن حاله خليقة بالشكوى " (89).
وهو يكشف عن هذه الحياة البائسة حين يسافر إلى فرنسا ويعيش حياة الرخاء فى مدينة "مونبلييه" ، وهناك "كان يكفيه أن يفكر فى صباه ذلك البائس الذى قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا ، تشقى نفسه فى الأزهر ويشفى نفسه وجسمه فى حوش عطا ، حياة مادية ضيقة عسيرة كأقصى ما يكون الضيق والعسر ، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر ، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية ، ثم يوازن بين حياته تلك وبين الحياة الجديدة التى أخذ يحياها فى هذه المدينة الفرنسية" (286). لكن ما كان يلوح له من فتات الأمل هو الذى كان يهون عليه أهوال ما يلقى ، ذاق الشقاء ، لكنه لم يحرم من السعادة ، وصحيح "كانت حياته المادية شاقة ، ولكنه احتمل مشقتها فى شجاعة ورضا وسماح" (308)، ورغم العناء إلا أنه لم يضق بحياته ولم يتبرم بها ، ولكنه مزج بين الجد الصارم والهزل الضاحك ليتعايش مع الحياة ، حلوها ومرها ، قسوتها ولينها ، وكثيرا ما كان يسعده لقاءه بالأصدقاء والاستماع إلى عبثهم وما يدور فى حواراتهم .. ولم ينزلق الفتى الى ما انزلق فيه استاذه أبو العلاء ليصبح مثله رهين المحبسين كارها للدنيا وللناس ، تفنى الأمانى فى نفسه وتظل أحداث الزمان متربصة به ، أو يتحول إلى زاهد كبير فى الناس عندما يعلم خفاياهم ، وأنهم هباء ، ويئس من وفاء النجل ما دام الغدر شيمة الأب ، وأيقن أن الحياة كلها تعب ، وأن الراغب فى المزيد منها ليدعو إلى العجب ، بل هو يستنجد بالموت لينقذه من الحياة : "فيا موت زُر إن الحياة ذميمة .." .
كان يمكن أن يتحول طه حسين إلى نسخة جديدة من أبى العلاء ، لاسيما وقد وجد فى صحبته غناء واكتفاء ، غير أنه وإن كان قد تأثر بجسارته العقلية ، إلا أنه لم يسايره فى جسارته النفسية المرتبطة بالاستغناء وإلزام النفس بما لا يلزم . لم يدر الرجل ظهره للحياة ، بل أصاب القدر المتاح من طيباتها ، ولئن كان قد استمتع بصحبته فى الأزهر ، فإن فرصة الاستمتاع فى باريس كانت أكبر ، سواء تلك المتع العقلية أم المتع المتصلة بما أتيح له من طعام طيب وشراب رائق ، أم المتع العاطفية ، وكما انفتح قلبه فى مصر متأثرا بصوت "مى" فى صالونها ، فإنه انفتح فى باريس أمام صوت آخر يصفه بقوله : "كأنه تلك الشمش التى أقبلت فى ذلك اليوم من أيام الربيع ، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذى كان بعضه يركب بعضا ، والذى كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقا وروعا. وإذا المدينة تصبح كلها إشراقا ونورا" ... فقد كان الصوت يصحبه دائما لا يكاد يخلو الى نفسه فى ليل أو نهار إلا سمعه يقرا عليه هذا الكتاب أو ذاك ، فى تلك النبرات التى كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة وسرورا. (ص 291 - 292).
ثم هو يقترن بصاحبة هذا الصوت ويجد فى حضنها الأمن والملاذ والدفء والسعادة وتكون هي "المرأة التى أبصر بعينيها" (ص 317).
وفى أثناء ذلك لم يكن يحرم نفسه من المتع الصغيرة ، لكنها كانت تعطى للحياة مذاقها ، وبحسبه كوب شاى لكى ينعشه ويفرفشه ، وحسبنا هنا أن نتوقف عند وصفه هذا المجلس الذى كان يجمعه بشباب الأزهر ليأكلوا حتى تمتلئ بطونهم ، ثم يتهيأون لصنع الشاى ، وليس أبدع من أبى نواس وهو يصف المجلس الخمرى بكل ما يدور فيه من طقوس إلا طه حسين وهو يصف جلسة مجلس الشاى ، ولن تغنينا تلك العبارات المجتزأة من سياقها المسهب للدلالة على ذلك : "وإذا هؤلاء الشباب قد تحركوا حركة الطرب ، ثم انفتحت أفواههم فى وقت واحد عن كلمة يقولونها فى صوت هادئ متصل مستقر وهى "الله" يمدون بها أصواتهم مدا كأنما أشاعت الطرب فى نفوسهم موسيقى حلوة تأتيهم من بعيد . ولا غرابة فى ذلك ؛ فقد سمعوا أزيز الماء وهو يدور من حول هذا الموقد الذى تضطرم فيه تلك الجذوة الهادئة الصافية . وقد فرغ لأداة الشاى صاحب الشاى ، فجعل يتبعها بقلبه وعينه وأذنه ، حتى اذا استحال أزيز الماء غليانا ... فإذا ملئت الأكواب وأديرت فيها الملاعق الصغار ، فسمع لها صوت منسجم لا يخلوا من جمال وحسن الموقع فى الأذن يأتى من هذه المداعبة الخفيفة الهادئة بين المعدن والزجاج ، رفع القوم أكوابهم إلى أفواههم ، فجروا الشاى منها بشفاههم جرا طويلا يسمع له صوت منكر يناقض صوت الملاعق حين كانت تداعب الأكواب . ومضوا فى شربهم لا يكادون ينطقون إلا بهذه الجملة التى لم تكن تتغير ، ولم يكن بد من أن ينطق أحدهم بها ويقره عليها الآخرون : "هذا هو الذى سيطفىء نار الفول" . فإذا فرغوا من هذه الدورة ملئت لهم الأكواب مرة أخرى وقد أعيد إلى أداة الشاى ما فقدت من ماء ، ولكن القوم ينصرفون الآن إلى شايهم عن هذا الماء المسكين الذى ترسل النار عليه حرارتها فيئن ثم يتغنى شاكيا ، ثم يجهش بالغليان باكيا ولكن القوم لا يحفلون به ولا يطربون لغنائه ولا لبكائه ، فقد شغلوا عنه بالشاى وبدورته الثانية خاصة ؛ فقد كانت الدورة الأولى مطفئة لنار الفول ، فأما الدورة الثانية فقد جعلت تخلص لهم ولأعصابهم وجعلوا يجدون لها بعض اللذة فى أفواههم وحلوقهم ورؤوسهم أيضا . حتى إذا فرغوا من هذه الدورة ثابوا إلى عقولهم أو ثابت عقولهم إليهم ، فهذه ألسنتهم تتحرك ، وهذه شفاههم تبتسم ، وهذه أصواتهم ترتفع (113).
ولئن كان الفتى قد ضاق بجمود بعض أساتذة الأزهر، فتحول عن المعممين منهم إلى المطربشين ، إلا أن عقله قد انفتح مع قلبه ليتلقى بحب وحدب كتب قاسم أمين وأثار الأستاذ الإمام محمد عبده ، ولطفى السيد ، وعبد العزيز جاويش ، ولعل ضيقه بالأزهر هو الذى أغراه بالتقدم للانتساب إلى الجامعة المصرية لينتظم فى دروس الأزهر صباحا وفى دروس الجامعة مساءا .
وفى حين بدأت الخيوط التى تربطه بالأزهر تضعف وتهن ، فإذا بها مع الجامعة تقوى وتشتد ؛ إذ رأى فى أساتذتها ما يختلج فى نفسه من ميل إلى التجديد ونفور من التقليد ، لكنه استفاد على أية حال من تلك الفترة التى عاش فيها موزعا بين كرسيين : كرسى الأزهر بأصالته ، وكرسى الجامعة بنضارته . غير أن جاذبية الكرسى الأخير تملك على الفتى قلبه وعقله ، فيحسم هذا الصراع القائم فى نفسه بين الجامع والجامعة فينحاز للجامعة بعد أن استقر فى نفسه أن للمجد مكانا آخر غير الأزهر .
كان الفتى يرى حياته فى الجامعة عيدا متصلا ؛ عيدا تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل ؛ إذا كان يملأ رئتيه بالهواء الطلق وعقله من العلم الطلق بما يمكنه من أن يخلق نفسه خلقا جديدا يساعده فى هذا احتكاكه بالأساتذة مصريين وأجانب ، وهم جميعا نفخوا فى روحه مجددا علمه بالحياة وشعوره بها وفهمه لقديمها وجديدها .
فيزمع السفر إلى باريس ليتعلم مع الفرنسيه اللاتينية واليونانية ، وهو فى هذا كله لم يكن يضيق صدره لفقره ، بل ربما أيقن أن الثراء والسعة تعوق عن طلب العلم ، وأن الفقر شرط للكد والإجتهاد ، كما أيقن "أن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدى بالمال" (ص 219).
وكان على الفتى أن يتعلم اللغة الفرنسية تنفيذا لما كانت تفرضه الجامعة على طلابها من ضرورة إتقان لغة أجنبية ، وكان دائما جاهزا لتحدى العقبات ، سواء فيما يتصل بتعلم اللغات الأجنبية ، أو ما يتصل بما اشترطته عليه الجامعة من ظفره بشهادة العالمية "الدكتوراة" ليوفد إلى أوروبا وقدم رسالته فى تاريخ أبى العلاء ، ثم فى علمين إضافيين هما الجغرافيا عند العرب والروح الدينية للخوارج وتفوق فيها جميعا ، فدعته الجامعة للمثول بين يدى الحضرة الخديوية فى الإسكندرية ، وكان عليه أن يبحث عن ثياب تناسب المقام ، وكان عليه أيضا أن يتعلم ماذا يفعل على مائدة الأمير التى دعى إليها ليتسلم جائزة تفوقه ؛ وهو الذى لم ينس ما قاله أبو العلاء من أن العمى عورة . ولم يضيع الفتى وقته فى باريس وكانت خطبته لفتاته معينة له على درسه "وانظر إلى فتاة وفتى فى أول عهدهما بالخطبة ينفقان أكثر النهار فى درس اللاتينية حين يصبحان ، وفى قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى . فإذا جاء وقت الغذاء ألما بالمائدة فأصابا شيئا من طعام ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرءا منه ما شاء الله أن يقرءا ، فإذا كانت الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسى فقرءا منه ماشاء الله أن يقرءا ، كذلك لا ينصرفان عن القراءة إلا ريثما يخرجان للتروض خارج القرية التى يعيشان فيها ينفقان فى تروضهما ذاك ساعة أو أقل من ساعة ، ثم يعودان إلى المائدة فيصيبان شيئا من طعام ، ثم تجتمع الأسرة كلها إلى كتاب يقرؤه عليها ذلك الصوت العذب (319 - 320).
ويتزوج الفتى وها هو فى شهر العسل يعد نفسه ليكون جاهزا لامتحان تحريرى سوف يسأل فيه عن التاريخ القديم والوسيط والحديث والجغرافيا والفلسفة ولغة أوربية غير اللغة الفرنسية . وعكف مع هذا كله على إعداد رسالته "وما أكثر ما كان يملى فصول هذه الرسالة وصبيته بين ذراعية يمشى بها فى غرفته الضيقة ممليا وقارئته تسمع منه وتكتب عنه !! وربما طلبت إليه أن يريح نفسه من الإملاء ويريحها من الكتابة دقائق ، وأخذت منه الصبية فحملتها ومشت بها فى الغرفة وغنت لها بعض ما يغنى للأطفال ، وأتاحت له بذلك أن يجلس ويستريح ، وزوجه فى أثناء هذا كله فى مطبخها مقبلة على تهيئة الغذاء أو العشاء (ص 339).
وهو فى هذا كان دائم التنصت على ما يحدث فى مصر ، ويسعد بأى أخبار تصله بأن مصر تغضب لأبناءها إذا ما تعرضوا لأذى ، وهو فى هذا يتمنى أن تكون بلده مثل البلاد التى رآها تقدس الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ، وحين تصله أخبار وصول سعد زغلول إلى باريس يحرص على لقائه و لقاء أستاذه أحمد لطفى السيد وصديقه عبد العزيز فهمى ، ويذكِّره لقاء سعد بدين قديم عليه له "يرجع تاريخه إلى العام الذى قدم فيه رسالته عن أبى العلاء إلى الجامعة .. وكثر حديث الصحف والناس عن هذه الرسالة وصاحبها . وفى تلك الأيام قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحا يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة "ذكرى أبى العلاء". وكان سعد – رحمه الله – رئيس لجنة الاقتراحات فيما يظهر فلما عرض عليه هذا الإقتراح دعا المقترح للقائه ، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه ، فلما أبى قال له سعد : إن أصررت على موقفك فإن اقتراحا آخر سيقدم ، وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر ، لأن صاحب هذه الرسالة عن أبى العلاء تعلم فى الأزهر قبل أن يتعلم فى الجامعة ، واضطر الرجل إلى أن يسترد اقتراحه ، وسلمت للجامعة معونتها ، ولم يتعرض الفتى لشر ، وكان الأستاذ أحمد لطفى السيد هو الذى أنبأ صاحبنا بهذه القصة ، وطلب أن يسعى إلى سعد بشكر هذا الجميل ، ولكن الفتى استحيا إذا ذاك فلم يسع إلى سعد ، وأين هو من سعد ؟ (ص 341) . وهنا وجد الفرصة لشكر سعد على جهده فى خدمه مصر (346). وأتيح للفتى أن يلقى سعدا فى مناسبة أخرى . ولكنه رفض لقاءه ، وذلك حين أراد بعض النواب الوفديين أن يثيروا قصة الشعر الجاهلى مرة أخرى فى المجلس فرده سعد عن ذلك قائلا : لقد انتهى هذا الموضوع ، فلا معنى للعودة إليه ، وأوصى الأستاذ أحمد لطفى السيد الفتى أن يمر بدار سعد ليشكره على موقفه ، لكنه أبى وقال "إن سعدا لم يزد على أن أدى واجبه ، وكف سفيها أحمق من نوابه عن سفهه وحمقه" (ص 344).
وسعد زغلول بموقفه هذا يعيد إلى الأذهان موقف القاضى المستنير محمد نور من كتاب طه حسين عندما عرضت عليه قضيته لأول مرة أمام مجلس النواب ، وانتصر لحرية التفكير.
أجرى طه حسين الدم فى عروق الحياة الفكرية المصرية والعربية منذ كتابة الأول ، وظل يثير المعارك ، معركة تلو معركة ، لا يبغى من ورائها إلا المساهمة فى بناء وطن حر ذى ثقافة حرة وفكر مبدع خلاق يخرج عن إطار التقليد العتيق الذى ضاق به فى مستقبل حياته بالأزهر.
بعد عودة طه حسين من بعثته كان عليه أن يتهيأ لإلقاء درسه الأول فى حفل أُعد له ، وكان تاريخ اليونان هو الموضوع المقترح ، غير أنه رأى أن تقديم هذا الموضوع بحاجة إلى وصف جغرافي للبلاد التى سيتحدث عن تاريخها ، فقدم هذا الوصف بأفضل مما يقدمه المبصرون ، ونال إعجاب الحضور وتشجيعهم ، وكان ذلك بفضل زوجه التى هيأت له قطعة من الورق صاغتها على نحو ما صاغت الطبيعة هذه البلاد بما فيها من سهول وجبال وضيق واتساع وانخفاض وارتفاع(ص 351).
إنه بالفعل قاهر الظلام ، وهو الأعمى الذى حول العمى من نقمة إلى نعمة ، كما يتحول البصر من نعمة إلى نقمة على يد نفر من أبناء هذا الوطن تآمروا عليه بالحرق والدماء .. ولعل هؤلاء من أبنائنا الذين تلقوا هذا التعليم الفاسد الذى حذر طه حسين منه فى كتابه الفذ "مستقبل الثقافة فى مصر" .. هذا الأعمى الذى قاد خطى المبصرين وتجاوز فلسفة أستاذه أبى العلاء الذى ظل اليأس غالبا على نبرته :
أنا أعمى فكيف أهدى إلى المنـــ ـهج والناس كلهم عميان
غير أن حال طه حسين كان يقول لنا شيئا آخر ، كان يقول :
أنا أعمى ، ولكنى أرى أوسع مما ترون ، وأسمع أعمق مما تسمعون ، بل سأعلمكم كيف ترون وكيف تسمعون ..
ولكن هل استفدنا مما علمنا إياه طه حسين ؟! .
لا أعتقد بدليل واحد ، هو أننا نعلم أبناءنا بطريقة معاكسة تماما للطريقة التى تعلم بها طه حسين ، فأنتجت لنا هذا المبدع الخلاق الذى نفخ فى روح الأمة كلها ، فى حين يساهم أبناؤنا الآن فى خراب هذه الأمة وتدميرها .
أ.د / أحمد عبدالحى
الأستاذ المتفرغ بآداب دمياط