مصر تنتحب
أضيفت فى الاثنين 06 فبراير 2012
بمناسبة موسم الانتخابات شاعت عبارة "مصر تنتخب" على شاشات الفضائيات مشاركة فى تغطية حدث الساعة . لكنى كنت أقرؤها "مصر تنتحب" ، إحساسا منى أن حالة من البكاء والنحيب قد عمت أرجاء الكرة المصرية ، ومن ثم يكون الكلام موافقا لمقتضى الحال . وأسباب النحيب عديدة :
"مصر تنتحب" لأننا اضطررنا ـ لظروف أمنية ـ أن نقيم جدارا عازلا بين الجيش والشرطة من ناحية ، والشعب من الناحية الأخرى ، وهو أمر يخيل إلى المتأمل أن العلاقة بين الجيش والشعب أشبه بالعلاقة بين فلسطين و إسرائيل ، وهو أمر محزن سيما حين نتذكر أياما كان هتافنا الأثير هو : " الجيش والشعب ايد واحدة " ملعون فى السماء وفى الأرض من كان سببا فى هذا الشقاق ونحن أحوج ما نكون فيه إلى الاتفاق الذى رأيناه فى الأيام الأولى للثورة التى بهرت الكرة الأرضية .
"مصر تنتحب" لأن كنائسها التى عاشت أكثر من ألف عام فى سلام وأمان ، أصبحت الآن فى حاجة إلى من يحميها ، وقد كنا جميعا ـ مسلمين ومسيحين ـ نتكاتف لنحمى مصر من أعدائها ... كيف أصبح أشقاء الأمس أعداء اليوم ؟ . فى حرب أكتوبر 73 ، وفى معركة الدفرسوار كان عن يمينى الرقيب رزق عطا الله ، وكان عن يسارى العريف صبحى فهمى غبريال ، وبعد استشهاد الاثنين دفنا مع شهداء المسلمين فى مقبرة جماعية امتزجت فيها الدماء والأشلاء .
"مصر تنتحب" حين ترى المصريين منقسمين إلى معسكرين : التحرير والعباسية ، وكان المتوقع أن يقفوا جميعا فى خندق واحد ضد عدوهم المشترك .
ومن حق مصر أن تنتحب طويلا بعد أن انكشف الغطاء عن عصابة اللصوص والفاسدين الذين اغتصبوا وطنا بكامله بعد أن أفسدوه ، ومع هذا نرى العدالة تتلكأ وهى تتعامل معهم ، وأخشى ما يخشاه المصريون أن تتمخض هذه المسرحية عن براءة أفراد هذه العصابة ، فيرفعون ضدنا قضايا رد شرف ، ونصبح نحن المغتصبين لشرفهم ، وعلينا بعد ذلك أن نبحث عن حيثيات براءتنا . يتعامل القوم مع اغتصاب الوطن على أنه أمر فيه نظر ، بينما يعتبرون كلمة شاردة أو واردة فى ثنايا مقال أو برنامج جريمة لا تغتفر، تنصب لها المحاكم وتصدر الأحكام فى ساعات ، وعلى أكثر تقدير فى بضعة أيام ، بعد أن يتم التهاون مع من اغتصبوا الوطن على نحو ما نرى ، يصبح سهلا أن يتم التحرش بفتيات شريفات ثائرات لكرامة الوطن باسم الكشف عن العذرية وكان الأحرى أن تبحثوا عن عذرية هذا الوطن ، من اغتصبها وخان الوطن ومرغ كرامته فى التراب ؟ كيف فاتنا أن ننصب لهم المشانق التى تليق بهم ؟. لكن غالبا ما يقع الاختيار على الطريق الخطأ وعلى القرار الخطأ وعلى الشخص الخطأ ، ورغم التيقن من أنه خطأ صريح واضح لا لبس فيه ، بحكم التداعيات المرعبة الناتجة منه ، لا يتم التراجع عنه . . لأن الاعتراف بالحق ـ أصبح فى زماننا ـ رذيلة . .
"مصر تنتحب" ويعلو نحيبها حين يتهور بعض الغوغاء والأوغاء من أبنائها بحرق تراثها متمثلا هذه المرة فى مجمعها العلمى ، وهو الأمرالذى يشوه صورة الثورة والثوار ، بل صورة مصر كلها ، وكم من الوقت والجهد سنحتاج لنغسل عار مثل هذه الفعلة الشنعاء ؟
فى أيام الثورة كنا نبرر حرق مقرات الحزب الوطنى وأقسام الشرطة بأنها كانت بؤر فساد ارتبطت فى الأذهان بالتزوير والتدليس والاغتصاب واهدار قيم الحق والخير والجمال . لكن بماذا نبرر اليوم حرق المجمع العلمى ؟
"مصر تنتحب" ويعلو نشيجها حين ترى الآمال الكبيرة التى اجتاحت كيان المصريين عقب ثورة يناير بدأت تنحسر وتتقلص مع تتابع الأحداث ، بل بدأ شبح الخوف يعلو الوجوه ، وسرعان ما يتحول الخوف إلى جزع ففزع على ما يحدث ، وهو ما جعل البعض يترحم على أيام المخلوع بعد أن سبكت مؤامرة شيطنة الثورة ، وتحميلها مسئولية الموبقات الطارئة .
"مصر تنتحب" ويعلو صراخها وصياحها لأن لونا من التدين المدسوس يتسلل إلى تدينها السمح الجميل المتحضر فيفسده ويلقى عليه ظلالا سوداء قاتمة . . ولأن لونا من التدين المغشوش يعبر البحر الأحمر إلى واديها الطيب فيلوث ماءه الطاهر ، ويحول عذوبته إلى ملوحة ، ونرى من ينقلون نسخا من تدين البوادى متمثلا فى تلك الجماعة التى اطلقت على نفسها اسم " جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ألهذا يئول مآل الايمان فيك يا مصر ؟ رحم الله زمانا كنا نرى فيه أجدادنا يتوضأون من مياة قنوات الرى ، ثم يصلون على جسور أراضيهم ، وكنا نتطلع فى وجوههم فنقرأ آيات الخشوع والرضا والسماحة ، كانت وجوههم خصبة وقلوبهم عذبة ، وهو ما نعجز عن قراءته فيمن اختزلوا الدين فى لحية طويلة ، وجلباب قصير ووجه متجهم .
مصر بعبقريتها تمصر إسلامها ، اى تطبعه بطابعها وتضفى عليه من روحها وتصبغه بماء نيلها وطيبة أهلها . . لكأنى بمصر تكاد تنطق فى وجوه هؤلاء " لكم إسلامكم ولى إسلامى " فإسلام مصر لا يشبه إسلام البوادى والصحارى ، وكان الأولى أن تنتشر عدوى هذا الاسلام السمح إلى الشرق والغرب ، لا أن نستورد نحن بضاعتهم ، رحم الله زمانا كان بعض المعارين من زملائنا يتماهون فى شكليات التدين المنتشرة فى البلد المعارين إليه ، وكان أول ما يصنعون هو أن يطلقوا لحاهم . . لكننا نفاجأ فى المطار أثناء العودة فى إجازة ـ نفاجأ بهم وقد خرجوا من دورات المياة وقد حلقوا ذقونهم ، وكان بعضنا يتندر عليهم بقوله : إن الواحد منهم يضع لحيته فى خطاب موجه إلى مقر عمله مكتوبا فيه : "هذه بضاعتكم ردت إليكم" لكن بعضا من هؤلاء كانت تستهويهم اللعبة ، فينقلون هذا التدين حرفيا . . وهو ما ترعرع الآن فى التربة المصرية بشكل يجعلنا نردد ما قاله صلاح عبد الصبور :
عبثٌ والأيام تَجِدْ
كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السِّفلة والأوغاد ؟ !
لكن الذى حدث أنهم ترعرعوا ، ولكنه ترعرع الحشائش الضارة التى تخنق المزروعات الأصيلة فتحجب عنها الشمس والهواء ، وقد تسبب لها الضمور بعد أن يوقف نموها .
هؤلاء موجودون الآن فى محافظات مصر يسألون الرجل لماذا لم يطلق لحيته ؟ ويسألون المرأة : لماذا أطلقت شعرها . . واختزل الدين كما قلت فى مقال سابق فى الشعرات الثلاث : شعرة اللحية ، وشعرة الشارب ، وشعرة الرأس . . .هذه هى قضيتنا الكبرى ، وهذا هو مشروعنا القومى الذى ننتوى أن نتفرغ له فى خطتنا الخمسية القادمة ! ! !
يستولى الخوف على كثير من المسلمين من صعود بعض التيارات الدينية ، وهى مفارقة بحاجة إلى تأمل ، كيف يرتاب المسلم فى المسلم ويكون مصدر قلق له ، لابد أن خطأ ما كامن فى بنية العقل ، سواء فى فهم التدين ، أم فى تفسير النصوص وتأويلها ، أم فى هذا الغلو الذى يحمل النصوص مالا تحتمل . . . ويبقى أن تراجع هذه التيارات نفسها ، وفخرها أن تكون مصدر راحة واطمئنان ، ورجسها أن تكون سبب قلق وتوجس ، ثمة فرق كبير بين الدين المنزل من السماء صافيا نقيا طاهرا ، وبين ذات الدين بعد أن يختلط ببعض العقول الخامدة التى لا تحسن الفهم أو التأويل ، إنه الفرق بين حال المطر هاطلا من السماء صافيا ، وبين ذات المطر مختلطا بماء المستنقعات .
"مصر تنتحب" حين يطلع علينا صوت نشاز ليشعل النيران فى قضايا قطعت فيها جهيزة قول كل خطيب ، وذلك حين يُستغل الاحتفال بمئوية نجيب محفوظ لتُلاك نفس التهم التى وجهت إليه منذ عقود ، وذلك حين يوصف أدبه بأنه أدب "الإباحية والحشيش" ، واجزم أن هؤلاء لا يفهمون معنى كلمة أدب : وقديما حين اتهم نجيب محفوظ فى دينه بسبب روايته "اولاد حارتنا" حتى إن وغدا من هؤلاء طعن بسكين رقبة نجيب محفوظ رغم أنه لم يقرأ له حرفا واحدا ولكنه فعل فعلته بتأثير مما يصل إليه عبر اذنيه .
وكان علينا أن ننتظر عشرين عاما حتى يخرج علينا الدكتور احمد كمال أبو المجد بمقدمته للرواية المذكورة ، مبرئا فيها ساحة نجيب محفوظ من التهم الموجهة إليه ، وكنا نعتقد أن المحضر قد أغلق بهذا . . . لكن بنية التفكير ظلت على حالها من الجمود ، وظلت تعيد إنتاج نفس الخطاب القديم . فى مقدمة كمال أبو المجد أوضح الفرق بين الكتاب والرواية ، وبين أن الخلط الحادث بسبب عدم التفريق بين الكتاب والرواية ، وإصرار البعض على قراءة الروايه على أنها كتاب ، مطلوب منا إذن أن نعرف الفرق بين الرواية والكتاب قبل أن نحكم على الرجل . يعلن الدكتور أحمد كمال أبو المجد فى تقديمه للروايه أنه يبغى بشهادته "أن يدرأ عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ، ويتسرعون فى الاتهام ، كما أدرأ عن تلك الكتابات الصنيع القبيح الذى يصر به بعض الكتاب على أن يقرأوا فى أدب نجيب محفوظ ما يدور فى رءوسهم هم من أفكار ، وما يتمنون أن يجدوه فى تلك الكتابات . . . "
أما نحن ـ نقاد الأدب ـ فقد رأينا فى كتابات نجيب محفوظ معنى الحرية والعدالة والمساواة ، ومعنى الجمال ، وهى القيم الرفيعة التى أفنى الرجل حياته كلها فى الترويج لها . . . وهى ذات القيم التى ملأنا بها رءوس طلابنا ونحن نحلل لهم إبداع نجيب محفوظ ، وكانت النتيجة أن هؤلاء الطلاب أنفسهم هم الذين أشعلوا ثورة 25 يناير ، وهاتفونا من ميدان التحرير أن الأفكار والقيم التى سربناها إلى أذهانهم من خلال نقد الأعمال الإبداعية وفى مقدمتها أعمال نجيب محفوظ كانت حافزا لهم للقيام بثورتهم . . . هل يعلم هؤلاء أن نجيب محفوظ كان حاضرا فى قلب ميدان التحريربما رسخه إبداعه فى عقول شباب مصر من ضرورة تحدى الاستبداد ومحاربة الفساد .
هذا رجل لا يتكرر مرتين كما لا تتكرر الشمس وكما لا يتكرر القمر ، حسبه أن يشرق مرة واحدة ، ثم يظل إبداعه يضئ طريق الحرية إلى الأبد . ولهذا فقد وضعه العالم فى المكان الذى يستحقه حين رآه جديرا بجائزة نوبل ، أما نحن معشر المساكين وابناء سبيل الفكر لم نر فى ابداع الرجل إلا الاباحية والحشيش . والمفارقة أن ما فعله هؤلاء بنجيب محفوظ ، هو نفس ما يفعله المندسون والبلطجية بالثورة المصرية ولا عجب فنجيب محفوظ والثورة وجهان لعملة واحدة .
"مصر تنتحب" بسبب ماحدث مؤخرا من إهدار دم المجتمع المدنى لاسيما الطريقه التى تم مداهمتهم بها حين استعين بجنود الصاعقة ! ! وجنود الصاعقة مع جنود المظلات يسمون بالقوات الخاصة ، ولأنى شخصيا تخرجت فى مدرسة القوات الخاصة حين كان قائدها المرحوم اللواء سعد الدين الشاذلى أعرف أن هذه القوات لا تتم الاستعانة بها إلا خلف خطوط العدو للقيام بأعمال خاصة مثل نسف موقع أو سلاح متميز أو وحدة تمثل خطورة ، والسؤال هو هل أصبحت جمعيات المجتمع المدنى المعنية بالدفاع عن حقوق الانسان هى الهدف الذى يستوجب استنفار قوات خاصة لنسفها وتجريدها من معداتها ، ولو أن اللواء سعد الدين الشاذلى كان قائد القوات الخاصة الآن ، هل كان سيسمح بمثل هذا العبث .
"مصر تنتحب" ، وتبكى وتولول وتصرخ ، حتى بلغ صراخها السماء السابعة وجميع الأراضين ، فهل بلغ سمع مجالسنا الموقرة . ولئن كان المجلس الكبير قد ارتضى ذلك ، فهل وافقه المجلس الاستشارى ، أم أن الأخير لا يستشار ؟ !