زملائى الأعزاء ... شكرا
ببلوغه الستين ، أصبح أستاذ متفرغا ، وأحس بأنه يولد من جديد حين انزاح عن كاهله عبء الأعمال الإداريه .. وحسبه أن يلقى محاضرة لطلاب المستوى الجامعى الأول ، وأخرى لطلاب الدراسات العليا ، فضلا عن إشرافه على الرسائل العلمية .
فى أحد الصباحات الجميلة ، ذهب ليأتى برسالة الماجستير التى أشرف عليها من الدولاب الكائن بغرفة مكتبه استعدادا للمناقشة المنتظرة بعد دقائق . ومع اقترابه من باب الغرفة لاحظ أن اللوحة المعدنية المعدة من قبل إدارة الكلية والتى تحمل اسمه قد نزعت .. وعند دخوله الغرفة لاحظ أن مكتبه قد نُزع هو الأخر وحل محله مكتب آخر عليه لوحة خشبية عريضة مكونة من طابقين تحمل اسم أحد الزملاء ...
وعندما هم بفتح الدولاب لم يطعه المفتاح .. حاول أن يفهم .. أخبره بعض الزملاء - بعد تلكؤ واستحياء - أن كل ما يخصه من أشياء قد نقل إلى غرفة المعيدين .. وهناك لم يجد معيدين .. وجد طلابه .. طلاب السنة التمهيدية للماجستير متحلقين حول منضدة فى انتظار محاضرة . وقع نظره – وهم يردون عليه السلام – على قطعة معدنية ملقاه تحت الأقدام. التقطها بخفة وهو يتظاهر بإصلاح حذائه ومداعبة طلابه .
***
كان صاحبنا مغرما بـ "شعرية الأشياء" ، فكتب عنها ، ولعله أول من كتب ، معبرا بذلك عن اهتمامه بالأشياء الصغيرة ، أو بتلك التى تبدو كذلك ، لكنها فى الجوهر تحتل مساحات كبيرة فى وجدان أصحابها ، ورغم أن هذه الأشياء هى فى حقيقتها كائنات جامدة أو صماء ، إلا أنها تنبض بالحياة حين تدخل فى علاقات وجدانية مع المبدع الذى يحسها ويتفاعل معها ، ويسقط عليها ومن خلالها مشاعره . فلا تصبح الصورة المعلقة على الجدار مجرد صورة ولا الاسم المكتوب فى الدفتر أو المعلق على باب غرفة مجرد إسم ، لا الحزام ولا الحذاء ، لا موس الحلاقة ولا المرآة ، لا فنجان القهوة ولا براد الشاى ، لا المخدة ولا ملاءة السرير ، لا المفتاح ولا قفل الباب ، لا المكتب ولا الدولاب ... كل هذه الأشياء تتحول الى كائنات تضج بالحياة ، وبحسبنا أن نذكر شيئا من تلك التى دخلت فى علاقة عاطفية معنا حتى ينفتح أمامنا ينبوع لا ينضب من المشاعر التى يثيرها هذا الشىء . وكل منا يحتفظ بأشياء لا قيمة مادية لها ، ولكنا لانفرط فيها ، لأنها جزء من تاريخنا النفسى والروحى والوجدانى ، والحقيقة أن مساحة إنسانية الإنسان يمكن أن تقاس بمدى احتفائه بهذه الأشياء أو إهماله لها . مازلت أحتفظ بأشياء كثيرة تثير لدىَّ مشاعر متباينة ، وما زلت أبكى أمام "قايش" سعد بهلول ، زميلى الذى استشهد بجوارى فى معركة الدفرسوار ، لم أكن أستطيع أن أحتفظ بجثمانه ، غير أن هذا القايش الذى أعلقه على مسمار فى جدار غرفتى يستعيد إلىَّ وجه صاحبه ، ووجوه كل الزملاء الذين غابوا ، وأقرأ بين ثنايا خيوطه كلما تأملته أعمق وأصدق معلقة فى شعرنا المعاصر .
حين تقرأ شاعرا فلسطينيا مثل مُريد البرغوثى تدرك أنه استطاع أن يصور عمق المأساه الفلسطينية ليس بالصراخ أو العويل أو التهويل ، ولكن من خلال تصويب الكاميرا الشعرية بخفاء وسرية إلى تلك الأشياء الصغيرة التى تتحول بالعملية الفنية إلى شأن جوهرى ..
حين يتأمل مريد دفتر الهاتف يفطن إلى أن كثيرا من الأصدقاء قد رحلوا ،لكنه لا يسقطهم من الدفتر ويصر على أن يبقيهم تماما حيث كانوا مثلما كانوا ، وكلما جدَّد الدفتر جدَّدهم فيه كما لو لم يموتوا من سنين ، إن احتفاظه بأسماء الأصدقاء يعنى أنهم حاضرون ، وفى الوجدان يعيشون .
والأدباء يوظفون هذه الأشياء فى إبراز ملامح الشخصية ، حين يريد الأديب أن يبرز أصالة البنت ووفاءها يجعلها تسعى إلى صورة أبيها حين يسافر أو يغيب لتعلقها على صدر جدار بعد تنظيفها مما علق بها من غبار ، ففى حضور الصورة بعض عزاء عن غياب صاحبها ، وحين يريد الأديب أن يبرز خسة الولد ونذالته يجعله يُسقط صورة الأب ، أو أن يجعله يضحى بأشيائه ليضع مكانها أشياءه . إن هذا السلوك الظاهر هو تعبير عن الباطن ، واعتزاز البنت بصورة أبيها هو اعتزاز بالأب ذاته ، وإسقاط الولد لاسم أبيه أو التضحية بأشيائه هو تعبير دفين عن رغبته فى التخلص منه، وعن أنه فى سبيل تأمين مجاله الحيوى على استعداد لأن يضحى بأى شىء وبأى أحد مثل أى ذئب أو أى ضبع .
***
"شوقى ضيف ، عبد الحميد يونس ، عبد العزيز الأهوانى ، محمود على مكى ، حسين نصار ، سهير القلماوى ، يوسف خليف ، النعمان القاضى ، عبد المنعم تليمة ، محمود فهمى حجازى ، أحمد مرسى ، طه وادى ، جابر عصفور ، نصر حامد أبو زيد"
هذه ليست مجرد أسماء لأساتذه عظماء ، إنها أشجار طيبة ، أصولها ثابته، وفروعها فى السماء . أما أنا فمجرد طالب من هؤلاء الذين أسعدهم الحظ بأن يتذوقوا ثمار هذه الأشجار بعد أن استظلوا بظلها ونهلوا من ينابيعها ، هم أساتذه من الوزن الثقيل ، ورغم أن كلا منهم كان مدرسة قائمة بذاتها ، إلا أن الشعور الذى كان يسيطر علينا فى سبعينيات القرن الماضى عندما كنا طلابا ، أنهم فريق متكامل .
كنا نتصور أنهم قد اتفقوا فيما بينهم على برنامج علمى عندما كنا نلحظ هذا التناغم الذى جعلنا نشعر أن المحاضرات إن هى إلا سلسلة متصلة الحلقات ، كأن كل محاضرة هى تكملة لما قبلها وتمهيد لما بعدها ، لا يؤثر فى ذلك تبدل الأساتذة أو اختلاف المقررات أو تباين العصور .. ثمة روح علمية رفيعة تجعلنا نشعر أننا نستمد غذاءنا من شجرة واحدة متعددة الفروع .. أنقذنا هذا التناغم من التخبط ؛ إذ استطعنا أن نراجع أنفسنا وأن نعيد ترتيب عقولنا ، نسقط أفكارا ، ونحتفى بأخرى ، ثمة رؤية بالية تنزاح لتفسح الطريق لرؤية مغايرة كنا نشعر معها أننا نولد من جديد.
إنهم حقا أساتذه من الوزن الثقيل .. وكلما تأملت أحوالهم وأحوالنا ، لا أستطيع أن أفلت من المقارنة .. وأعرف نتيجة ما إن لو أن أستاذا من هؤلاء وُضع فى كفه ، وفى الأخرى وضع ألف من الذين تدكتروا فى الزمن الردىء فى ظروف غامضة أو معروفة .
كل هؤلاء .. كل هذه الأسماء ، وقبلها أسماء أخرى كثيرة لم أشرف بالتلمذة المباشرة عليها منها طه حسين .. كل هؤلاء جمعتهم غرفة متوسطة الحجم (هى غرفة أساتذة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة حتى الآن ) . بها مجموعة من المكاتب المتواضعة والمتقاربة إلى درجة التلاصق ، ربما بسبب هذا الاقتراب الفكرى والتلاصق الوجدانى لهذا الرعيل العظيم . لا أذكر أن أيا منهم كان له مكتب معين ، الأستاذ يجلس حيث انتهى به المجلس ، أما رئيس مجلس القسم فيمارس عمله من المكان نفسه دون أن يستقل بغرفة أو مكتب محلى باسمه .
وأضحك حين تتماهى صورهم بصورنا فأتخيلهم مثلنا وقد جلسوا على كراسٍ متحركة وراء مكاتب شبه دائرية تتصدرها لوحات خشبية تحمل أسماءهم ، بعد أن انفرد كل منهم بغرفة خاصة – حين أتخيلهم بهذه الصورة فإنهم يسقطون على الفور من فوق عروشهم ليصبحوا مجرد موظفين فى أرشيف وزارة المالية أو الداخلية ... لكنى سرعان ما أزيح هذا الخيال الردىء لأراهم مثلما كانوا مجموعة كواكب .. بلا مكاتب ، لذا أضاءوا مصر وجوانب أخرى كثيرة من العالم .
فى هذه الأيام كثيرا ما أضبط نفسى متلبسا وأنا أهذى :
هناك ... وجدت أساتذة بلا مكاتب ... هنا ... وجدت مكاتب بلا أساتذة ....
فمتى أكف عن هذا الهذيان ؟
***
اعتدت أن أخصص بضع دقائق من كل محاضرة للطلاب المبدعين والموهوبين . وما إن بدأ مبدع ذلك اليوم يلقى قصيدته حتى أدركت أنها قصيدة هجاء ، وكثيرا ما كنت أكرر على مسامع الطلاب أن أروع الشعر وأعظمه هو ما نأى عن ساحة المدح والهجاء ليأتى مزيجا من أمور الذات وقضايا المجتمع وشئون الحياة .. وقبل أن تنتهى القصيدة أدركت أن الطالب قصد بها أحد أساتذته .. راسما إياه فى صور سلوكية ونفسية مزرية ، وما إن انتهت حتى قابلها الطلاب بعاصفة من التصفيق .
عندما انفردت بالطالب أخبرته أننى كنت أتوقع منه قصيدة ثناء على أستاذه لا هجاء ، غير أن رده لم يكن بحاجة إلى تعليق وذلك حين قال : لقد علمتنا أستاذنا أن نعبر بصدق عن مشاعرنا .. وهذا ما فعلته .
قلت : إن حظ القصيدة من تصفيق الطلاب وتجاوبهم كان كبيرا ، الأمر الذى يعنى أن الطالب عبر عن مشاعر زملائه وهو يعبر عن مشاعره . وهنا يفرض السؤال نفسه ، ما الذى يجعل مشاعر الطالب نحو أستاذه تتحول مما ينبغى إلى ما لا ينبغى ، من الإيجاب إلى السلب ، من الحب إلى الكراهية ، من الاحترام والتوقير إلى الازدراء والتحقير ؟.
وما كان المشهد يستحق التأمل لو اقتصر الأمر على كون طالب بعينه يعبر عن مشاعره أيا كانت نحو أستاذ معين ، ولكن حين يتحول المشهد إلى مظاهرة كراهية وازدراء تعلن عن نفسها من خلال عاصفة التصفيق الجماعى ، فإن المشهد يستحق أن يوضع فى الاعتبار ليُدرس ويُحلل لنعرف الأسباب والبواعث . ومن ثم الوصول إلى حلول .
لقد أتيحت لى الفرصه من خلال كونى أستاذا ثم من خلال كونى مشرفا على إحدى كليات الآداب أن أتحسس نبض الطلاب نحو أساتذتهم ، وكم هى القصص والحكايات التى استمعت إليها والتى تحدد طبيعة عاطفة الطالب نحو أستاذه وتظهر التقدير الذى يعطيه له ، وتجعلنى أقول بثقة إن هذه العلاقة قد اهتزت كثيرا ، وأصبحت تميل فى المجمل نحو القطب السالب أكثر مما تتجه نحو القطب الموجب .
ومكمن الخطر فى هذا المشهد أنه لا جدوى من كتب أو مذكرات أو محاضرات ما دامت الثقة قد اهتزت ، والتقدير قد انحط . أوْلى الناس بتحليل هذا المشهد هم الأساتذه أنفسهم ، إذ الخسارة ترتد إلى صدورهم ..
فقط لحظات يصدق فيها الأستاذ مع نفسه ، يطرح عليها السؤال : لماذا لا أحظى بحب طلابى واحترامهم ؟ ، أعرف أنها ستكون لحظات صعبة ، وفى بعض الأحيان قد تكون مستعصية . فمن هو هذا الأستاذ الجسور الذى يمكن أن يتحسس مشاعر طلابه منه ، ناهيك عن وضع هذه المشاعر فى الحساب والحسبان ؟ ، ولن توضع مشاعر الطالب فى الحساب والحسبان إلا اذا قرر الاستاذ أن يتخلى عن (حساباته) ... فهل يستطيع الأستاذ ؟ ...
ليس أمام الأستاذ إذن سوى خيارين : إما أن يتخلى عن حساباته ليستعيد - مع مجده وزهوه - ثقة الطالب مشفوعة بقصائد المدح والثناء ، وإما أن يظل ضعيفا أمام هذه الحسابات ليصبح جديرا بالرثاء وبكل قصائد الهجاء . ويالخيبة الأمل فى جامعة يهجو طلابُها أساتذتهم !!