أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الأصداء السياسية فى أصداء السيرة الذاتية لـنجيب محفوظ - الجزء الثانى

أضيفت فى الخميس 06 يناير 2011

ما بين الأصداء . . والسيرة : 

لم يشأ نجيب محفوظ أن يكتب سيرته الذاتية ، وليس نجيب محفوظ هو الذى يكتب سيرته الذاتية بالمعنى المعروف ، وهو تتبع مسيرة سلسله حياته حلقة حلقة مستعرضا ظروف النشأة والتكوين ، ثم كيف تكون ثقافيا وسياسيا من خلال إستعراض مسيرته العلمية ، مع التركيز على المنحنيات الشخصية الفاعلة فى تكوين ثقافته ثم انعكاسها على إبداعه وصولا إلى الحكمة أو خلاصة الخبرة التى اكتسبها خلال هذه الرحلة . 
 
أقول – ليس نجيب محفوظ هو الذى يعكف على كتابة السيرة الذاتية بهذا المعنى المتاح لأى مثقف . . لكن بحسب المبدع الكبير ان يحلق عاليا بجناحى صقر ، يلقى بنظرة شاملة بعينى صقر أيضا على مجمل حياته ، ليلتقط منها جزئيات ، فتافيت ، ليست بالضرورة أن تكون مرتبة ترتيبا تاريخيا ، ولكن حسب ما تسعف الذاكرة ، أو حسب ما يقع البصر . . ثم يتعامل التعامل الفنى مع هذه الجزئيات ، يضفى عليها من ذات نفسه نافخا فيها روح الحياة ، ويتخذ منها أدوات يتكئ عليها يلقى من خلالها فلسفته وحكمته ،ويشخص حاله وحال أمته  . 
 
حياة الإنسان غابة كثيفة متعددة الأشجار متشابكة الأغصان ، وهو لن يتوقف فى الغابة إلا عند المختار من الأشجار والأغصان وفى النهاية سيكون ما يتوقف عنده تمثيلا لمحتويات الغابة كلها . هنا لن يتحدث نجيب محفوظ عن أيامه كما تحدث طه حسين ، ولا عن يومياته مثل توفيق الحكبم ، ولكنه سيتحدث عن بعض الآثار أو البصمات التى طبعتها رحلة الحياة فى وجدانه ، وأصبحت جزءا من شريط الذكريات ، من هذا الشريط يختار بعض الصور التى تثير كوامن نفسه ، والتى يرى أنها يمكن أن تتحول بالعملية الفنية إلى مشهد إبداعى يشعر القارئ بالمتعة بعد أن يجنى منه الفائدة . وهذه المشاهد فى مجموعها صدى لما اختزله نجيب محفوظ من ذكريات ومواقف وأحداث . . ومن هنا جاءت التسمية " أصداء السيرة الذاتية " 
 
كثر هم الذين يكتبون سيرهم الذاتية ، لكن القليلين منهم هم الذين يتوفقون عند ما يطفو من ذكريات هذه السيرة يتسمعون إلى ما يتردد صداه منها فى عقولهم وفى قلوبهم ، ثم يحولونها إلى مشاهد فنية متأثرين فى ذلك بما يعيشونه من أحداث ذاتية وما يمر بهم من وقائع اجتماعية . والذى يدرب نفسه على التصنت إلى الصدى لا بد أن يكون قد أوتى قدرا كبيرا من دقة الحس ورهافة الشعور ، لذا يأتى تشكيله الفنى لهذا الصدى بعيدا عن المباشرة ، متكئا على الإشارة والإيماء والمجاز مصوغا فى لغة مكثفة مكتنزة ، . . . وكأننا بإزاء قصيدة شعرية كل كلمة لها إيماءاتها وإشاراتها ، بحيث يغدو المشهد النثرى أشبه بقصيد شعرى فى تكوينه وتشكيله من حيث المبنى والمعنى . التركيز والتكثيف هما السمة السائدة فى كل . 
 
ومن سمات الشعرية فى هذه المشاهد أنه ليس من اليسير أن يتفق قارئان على تفسير رمز من رموزها ويمكن مقارنة تفسيرى يحيى الرخاوى و عبد السميع نور الدين ، ولئن كانا قد اتفقا على عنوانى كتابيهما " أصداء الأصداء " إلا أنهما قد اختلفا قليلا أو كثيرا وهما يتتبعان مشاهد الأصداء بالتحليل . . . ولا أذكر أنهما قد اتفقا على تفسير رمز من الرموز التى تحتشد بها الأصداء ، وهما يتتبعان تحليل هذه المشاهد واحدا واحدا وحين يتفق نجيب محفوظ نفسه مع ما ذهب إليه الإثنان رغم اختلافهما ، فإن هذا يؤكد أن الرمز يتحمل التفسير والتاويل وتعدد المعنى . . وهذا شأن الفن فى كل زمان و مكان .
لكن هل صحيح أن نجيب محفوظ لم يكتب سيرته الذاتية ؟ . . 
 
لندع يحيى الرخاوى - أحد أصدقائه المقربين – يجيب على هذا السؤال ، فيقول : " هذا الرجل الذى رفض أن يكتب سيرته الذاتية ، هو هو الذى لم يكتب – كما استقبلته طوال رحلته – إلا سيرته الذاتية " . (20)
 
إن الذين قرأوا نجيب محفوظ فى إبداعه الروائى عرفوه جيدا واستطاعوا أن يحددوا بصمته وهويته وفلسفته ، فضلا عن رؤيته للواقع السياسى والثقافى والاجتماعى . . إن نجيبا كامن فى كل رواية كتبها ، ونستطيع نحن قراءه أن نشكل من خلال هذا المعمار الروائى معمار نجيب محفوظ نفسه ، ونستطيع أن نشكل تمثالا لنجيب يحمل ملامحه النفسية والعقلية والوجدانية بعد قراءتنا لأعماله . . . وماذا نبتغى من وراء السيرة الذاتية سوى أن تنقل لنا ملامح صاحبها . . ويفصل يحيى الرخاوى قوله السابق قائلا : " لكننى عدت أسترجع علاقتى بكل أعماله التى لم أر فيها إلا نجيب محفوظ شخصيا ، ليس فقط كمال عبد الجواد (الثلاثية) كما يزعم البعض ، وليس ما أشار إليه إحسان عبد القدوس حتى كادت تحدث القطيعة بينهما ، وليس ما استشهد به جمال الغيطانى فى "نجيب محفوظ يتذكر" ، وإنما انا أراه فى كل أعماله بلا استثناء ( بلا استثناء : حتى ليالى ألف ليلة ، ورأيت فيما يرى النائم ) وحين كتبت عن الشحاذ تلك الكتابة الباكرة التى نسختها بعد ذلك ، قلت إنه وصف ما هو اكتئاب وصفا يستحيل أن يعرفه إلا من كابده ، وإلى درجة أقل : قد يعرفه طبيب نفسى قديم حاذق . (21)
 
ولئن كان ابداع نجيب محفوظ يعد أفضل وثيقة تعكس سيرته الذاتية ، فإنه ( هذا الإبداع ) يعكس أيضا تاريخ مصر فى القرن العشرين ، وأعتقد أن قارئ نجيب محفوظ يستطيع أن يتعرف على التاريخ الحقيقى الحى النابض بالمشاعر والانفعالات لمصر أكثر مما يتعرف عليه فى كتب التاريخ . . وذلك أنه لا يكتفى بنقل الأحداث ، ولكنه ينقل روح الأحداث عبر شخصياته التى يخلقها ويجرى فى عروقها الدماء . أليست رواياته تعكس التحولات الإجتماعية للمجتمع المصري ، وتبرز وجهة نظر صاحبها فى التاريخ السياسي والاجتماعى لمصر فى القرن العشرين ؟ . . 
ولئن عد الشعر ديوان العرب فى الماضى ، فإن الرواية بمحفوظ وبعده أصبحت ديوان الحياة المصرية المعاصرة . 
 
إذن حسنا فعل نجيب محفوظ حين رفض أن يكتب سيرته الذاتية ، سيما أن آخرين أغنوه مئونة هذا الكتاب ، وذلك حين كتب جمال الغيطانى : " نجيب محفوظ يتذكر " وحين كتب غالى شكرى " نجيب محفوظ من الجمالبة إلى نوبل " وحين كتب رجاء النقاش " نجيب محفوظ " صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته ".  وذلك بالإضافة إلى  ما كتبه آخرون كثيون سواء عن نحيب محفوظ أو عن أعماله . 
 
وما كان نجيب بقادر على أن يكتب سيرته الذاتية بعد أن تجاوز الثمانين من عمره وضعف سمعه ، وكلبصره ، وذلك أن الفنان بعامة - والروائى بخاصة – من أكثر الناس إحساسا بالزمن وتأثرا بالشيخوخة ؛ إن طبيعة العمل الروائى – والسيرة الذاتية لا تختلف كثيرا عن الرواية – تتطلب حواسا يقظة ، وطاقة جسدية ، وأخرى فكرية ، وصبرا على السرد والتحليل والتعليل والتفصيل مما يصعب توفره لمن جاوز سن الستين .  
 
وكما أن شيوخ الشعراء يتحولون من نظم القصائد الطوال إلى التعبير بما يسمى بـ"الومضة الشعرية" كذا شيوخ الروائيين ، يتحولون من كتابة الرواية إلى كتابة ما يمكن أن يسمى مجازا بـ "الومضة القصصية" 
 
والأصداء هى مجموعة ومضات متتالية تعالج كل منها موقفا أو موضوعا أو ذكرى أو فكرة ، ومساحتها تسمح للشيخ الروائى أن يكتبها وهو يحتسى فنحان قهوته ، أو حين يخلو بذاته يفتح صندوق تذكاراته ليستخرج منه ما يتوافق مع حالته الشعورية والنفسية وما يتجاوب مع رؤاه الفكرية . . 
 
نجيب أشبه ما يكون بالبستانى الذى كان يروى حديقته بالغمر حين كان الماء يعلو ويفيض ، لكنه تحول إلى ريها بالتنقيط ، إذ ينحسر الماء ويغيض . 
فى فترة الغمر كان قادرا على أن يكتب لا رواية واحدة ، ولكن ثلاثية تستوعب عدة أجيال ، وحسبه حين يتقدم العمر أن يستدعى مواقف الطفولة ، ورؤى الصبا ، وأحلام الشباب ليعيد تشكيلها بعين الشيخ المجرب الخبير ، القادر على استقطار الحكمة ، وحسبه أن يدفع بها إلى قرائه قطرة قطرة يروى ظمأهم ويشبع نهمهم إلى إبداعه بعد أن أدمنوه ، والذى أدمن قراءة نجيب محفوظ يسهل عليه أن يرد بعض مشاهد الأصداء إلى قصص وروايات وحكايات له . . فكأن نجيب الشيخ يتناص مع نجيب الشاب . . . وهذا أمر طبيعى ، وذلك أن تراث نجيب الذى أنتجه قبل الستين أو حتى قبل الخمسين من الغزارة والكثافة بحيث لا يستطيع نجيب التسعينى أن يفلت منه ، أو أن يتحرر من أسره وسطوته . فلئن كانت الأصداء ترديدا لرؤى محفوظ وذكرياته ، فإنها أيضا ترجيع للجوهرى من قصصه وحكاياته . ولعل هذا هو ما جعل باحثين يذهبون إلى أن مشاهد الأصداء ليست جديدة كل الجدة ، ولكنها تطوير فنى لعمل سابق هو "حكايات حارتنا" . 
 
كانت الحكايات فى بعض عناصرها مقدمة لأصداء السيرة وموحية بها (22) . ويمكن القول بأن تراث نجيب محفوظ كله قصصا وحكايات وروايات يبعث من جديد ، ويتشكل صورا ورؤى وأحلاما فى مشاهد الأصداء وهذا ما يمكن ان يضطلع به بحث مستقل نبحث فيه عن نجيب محفوظ فى نجيب محفوظ . 
 
ولا بد من الإشارة إلى أن كاتب الأصداء ما كان يمكن أن يصل إلى هذا المستوى المرموق سواء فى تعبيره أم فى تصويره مالم ينطلق من وجهة نظر واضحة ومحددة ، ذلك أن وجهة النظر هذه هى البؤرة التى يغمس فيها المبدع قلمه فيخط أجمل الفكر وأوضح الرؤى . إن النقطة التى ينطلق منها الفن عموما هى وجهة نظر صاحبه (23) ونجيب محفوظ كان ذا وجهة نظر واضحة كالشمس ، وهذا الوضوح كان نتيجة طبيعية لتبلور وجهة النظر هذه عبر رحلة إبداعه الطويلة منذ " همس الجنون "إلى "أصداء السيرة الذاتية" ، حيث بلغ الخط البيانى لتبلور الرؤية واكتمالها وتمام نضجها درجة الذروة . 
 
 
 
بين قصص نجيب المبكرة والأصداء :-
 
ولئن كان يعيب قصص وروايات نجيب المبكرة الحضور المكثف للمؤلف من حيث إحكام قبضته القوية على بناء هذه القصص ، وتحكمه القاسى فى الحدث الشخصى ، وحضوره الطاغى الذى كان يجعله يوقف الأحداث ليتدخل معلقا عليها ،وكان يطلق على الشخصيات أحكاما قاسية (24) . 
 
غير أن هذه المآخذ قد تلاشت تماما فى الأصداء ، وكأن هذه الأحداث والشخصيات كانت قد ذابت واختمرت بفعل الزمن ، وتخلصت من شوائبها فأضحت مثل خمر أبى نواس المعتقة  . . هنا تطل علينا روح الشيخ بكل صفائها ونقائها وروحها السمحة ، لا ليصدر أحكام الإدانة ، ولا ليتدخل فى حياة الشخصيات أو فى سرد الأحداث ، ولكن ليتعاطف حتى مع الجناة والعصاة والمذنبين ، ويرى أنهم أولى بتعاطفه منهم بإدانته . . لقد اتسع قلب الرجل للأخيار والأشرار جميعا حتى ليذكرنا بصوفية ابن عربى حين يقول : 
 
لقد أصبح قلبى قابلا كل صورة        فدير لرهبان ، ومرعـــــى لغزلان 
وبيت لأوثـان ، وكعـبة طائــــــف        وألــــواح توراة ، ومصحف قـرآن 
أدين بديـن الحب أنـى توجـــهت        ركائبــه ، فـالحب دينى وإيمانى 
 
 
اللغة فى الأصداء :-
 
وما قيل عن الفرق بين قصص نجيب المبكرة والأصداء فيما يتصل بالتعامل مع الاحداث والشخصيات ينعكس بالضرورة على اللغة ، فبينما وجدناه هناك " يوظف اللغة بصورة قد لا تتفق مع اللغة الأدبية المثالية ؛ إذ لا يعرض علينا الصورة مجسدة ، وفى لحظة حضور ، ولا يتركنا فى مواجهة الشخصيات وحوارها ، ولكنه يصف الفعل بنفسه ويلخصه منطلقا من الزمن الماضى . . وهو يقرر أفعال الشخصيات وأقوالها ولكنه لا يصورها ، ويجكم على الفعل والشخصيات ويحاكمها أخلاقيا وبصورة مباشرة ، يعمم صفاتها ويخصصها ، لا يصور الشخصية فى موقف خاص ولحظة زمنبة خاصة ، ولكنه يعمم صفاتها ويصنف طبيعتها فى نموذج لا يضمها وحدها فى لحظة زمنية وشعورية خاصة ، ولكنه يضمها ويضم غيرها بصورة مطلقة ، ويتوجه بخطابه مباشرة إلى القارئ محاورا له ، ناصحا وواعظا ، داعيا له إلى التأثر والتماس العبرة بالحوار المباشر وصيغ التعجب . . وغيرها من الأساليب الخطابية ، مستشهدا له بأقوال الفلاسفة لكى يقنعه بصواب رأيه ، أو عمق حكمته . . . إلخ " (25)
 
وحين أقارن بين لغة محفوظ فى قصصه المبكر خاصة مجموعة "همس الجنون"ومشاهد الأصداء ، يلح على بيت أبى نواس وهو يصف خمره التى طال عليها الأمد فصفت وشفت وتخلصت مما كان يشوبها من شوائب أو اجسام دقيقة ولم يتبق منها إلا اللباب . يقول النواسى : 
أكل الدهر ما تجسم منها  وتبقى لبابها المكنونا (26)
 
وهذا التحول الحثيث الذى يصنعه الزمن ، إذ تذوب العيوب ، وتتلاشى الشوائب أو هذا النضج الذى يتم على نار الزمن الهادئة الحثيثة ، حيث تتحول الخمر الخام إلى لباب صاف مقطر فى الأصداء ؛ ذلك أن لغة الأصداء يمكن أن تتخذ مثالا للغة الأدبية المثالية ولنتأمل هذا النموذج :  
 
الاختيار 
 
قال الشيخ عبد ربه التائه :جاءتنى امرأة جميلة تسألنى الرأى فى مسألة تعنيها . ولما وافيتها بالجواب قرأت طالعها فى جبينها الوضاء . وقلت لها :" أمامك طريقان ، طريق العفة والسماء ، وطريق الحب والإنجاب .. ؟"
فقالت بابتسام واحتشام : " لقد أعدنى ذو الجلال للحب والإنجاب ، ولن أخالف له مشيئة .. "(27) 
 
من خلال هذا الحوار تتجسد الصورة ، حتى إن القارئ ليكاد يرى هذه المرأة وهى تقف أمام باب الشيخ عبد ربه تسأله ونكاد نراه وهو يتأملها مليا ، يقرأ طالعها مسطورا على صفحة الجبين وحين يقرأ عليها طالعها لتختار . . يخيب توقعنا ، فلو وجه هذا السؤال لأى امرأة نشأت فى حضن الثقافة السائدة ، فإنها حتما ستختار طريق العفة والسماء لا عن اقتناع ولكن لأنها لا تستطيع إلا أن تختار هذا الطريق ، فهى تدرك أن السياق الثقافى لن يغفر لها أن تختار طريق الحب والإنجاب ، لأنها ستتهم – حينئذ – فى عفتها وشرفها وربما اتهمت بأنها امرأة عاهرة أو فاجرة . غير أن محفوظا العظيم يخيب توقعاتنا حين يجعها تختار طريق الحب والإنجاب ، وذلك رغم ما يحيط بهذا الطريق من محاذير ، فالحب فى شرقنا كلمة متهمة ، وهى فى كثير من الأحيان ، مرادف للجنس ، ونادرا ما تجد امرأة عربية تفصح عن اختيارها لطريق الحب ، لأنها تدرك العواقب الوخيمة التى ستلحق بها .. ولعل هذا السبب ، هو ما جعل المرأة فى مشهدنا تقدم لاختيارها بأنه اختيار الله ، وذلك حين أعدها لأداء هذا الدور ، وهى حين تختار هذا الدور تحرص على تصوير أنه لا يعبر عن رغبة كامنة فيها ، أو انبثاقه داخلية منها قدر ما تحرص على إظهار أنه مشيئة الله . وبالطبع هى لا تستطيع أن تخالف هذه المشيئة .
 
          وهكذا يصور نجيب محفوظ الفعل أمامنا دون أن يقرره ، وهو لا يحكم على الشخصية ولا على فعلها ، وهو لا يشرع سيفه الأخلاقى على رقبة الشخصية ، وهو لا يقدم لنا المرأة من خلال صفات عامة ، و إنما يخصصها ، فهى جميلة ، صاحبة جبين وضاء ، صادقة مع نفسها ، وقورة و محتشمة .. وهو أيضا لايقدم لنا شخصية عامة ولكنه يقدمها حين يصورها فى موقف خاص .. موقف المرأة التى تسأل فى مسألة تعنيها ، و كما يقدمها فى موقف خاص ، فإنه يقدمها أيضا فى لحظة زمنية معينة ؛ هى تلك اللحظة التى يكتمل فيها نضج المرأة ، لتصبح جاهزة للزواج ، هى إذن امرأة متفردة فى موقفها وفى إحساسها ، فى جرأتها وفى احتشامها بحيث تستعصى على الذوبان فى محيط النساء اللائى يحطن بها . نلحظ أيضا ان محفوظا لا يقف منا ولا من المرأة موقف الواعظ أو الناصح أو المعلم ، ولكنه يسوق ما أراد أن يقوله على لسان المرأة ، فنأى بنفسه عن الخطابية الممقوتة فى مجال الفن .
      
        يلاحظ أيضا أن اللغة قد تخففت كثيرا من أعباء القيم البلاغية فى البلاغة القديمة ، فليس ثمة اهتمام بالجمال السطحى للغة ، وليس ثمة اهتمام بالصنعة ولا بزخرفة الألفاظ وتزويقها بالمحسنات البديعية ، وليس ثمة صيغ جاهزة تجعل الأسلوب يترهل ، والمعنى يتسطح. جمال اللغة هنا ينبع من كونها أداة توصيل ، وليس أداة تجميل ، وجمال اللغة هو فى تخلصها من الجمال الشكلى ؛ من الأصباغ والزخارف و الكلف . وعندما نتأمل المشهد السابق لا نعثر على أى من المظاهر البلاغة التقليدية ، اللغة هنا ليست غاية ، ولكنها وسيلة توصيل للمعانى و الأفكار ... اللغة ثرية ومكثفة و مكتنزة ، حتى ليصعب الاستغناء عن لفظ من هذا المشهد ، فليس ثمة مترادفات ، أما الأسماء المعطوفة فى قوله :" طريق العفة و السماء ، وطريق الحب و الإنجاب "
فإنها تضيف جديدا إلى أسماء العطف ، ذلك أن لفظ "السماء" حين يعطف على "العفة" فإنه يضفى عليه البعد الدينى الذى يباركه الإله ، وكذلك لفظة "الإنجاب" حين تعطف على كلمة "الحب" فلأن "الإنجاب" هو ثمرة "الحب" . ولم يشأ نجيب محفوظ ان يقول : "الزواج و الإنجاب" ولعله تعمد أن يذكر كلمة "الحب" لكى يزيل عنها ما تراكم عليها من أفكار خاطئة ، و ما تشع به من مشاعر سلبية . 
ولعل القارئ يمكنه أن يطالع نماذج اللغة الأدبية المثالية فى هذا النموذج :
 
واجب العزاء 
 
"قال الشيخ عبد ربه التائه : 
جاءنى رجل شاكيا ، فسألته عما به فقال : 
إنى غريق فى بحر المتع ولا أشبع !
فقلت له : 
سأزورك يوم تشبع ، لأقدم لك واجب العزاء" . (28)
 
 
الأصداء وروح التسامح : 
 
غير أن الفكرة المحورية يتردد صداها فى مشاهد كثيرة من الأصداء ،وهى هذه الروح السمحة التى يتمتع بها نجيب محفوظ فى اخريات حياته ، إنها الروح التى تجعله لا ينبذ الخطاة ، ولا يتعالى عليهم ، إنه يؤمن أنه واحد منهم ، وهو ليس أفضل من أحد لأنهم بشر يخوضون تجارب إنسانية . ولنتأمل مشهد هذه المرأة اللامبالية :
 
الطامة 
 
لم ترفض فى حياتها طلبا أو تتجاهل إشارة ، 
وكانت تلبى نداء الشوق دون مبالاة بالثمن . 
وأنذرها منذر بسوء العاقبة
ولكنها كانت شديدة الإيمان بالغفور الرحيم .(29)
 
يشى العنوان بأن المرأة قد تورطت فى خطأ لا يغتفر ، لكنها رغم ذلك كانت شديدة الإيمان بمغفرة الله ورحمته ، وينتصر إيمانها على وجهة نظر المجتمع الذى يميل إلى عدم الغفران . . وهكذا يفتح نجيب محفوظ منافذ عقله ونفسه لهذه الفتاة ، ولم تسيطر عليه فكرة مثالية معينة ، وإلا لحكم عليها حكما أخلاقيا يلقى بها أسفل سافلين . يقول الدكتور عبد المحسن بدر : ( فالمرأة التى تعرض جسدها للراغبين من وجهة نظر الدين ونتيجة لقيمه امرأة زانية من حقها أن ترجم ، وينظر إليها رجل الاقتصاد باعتبارها نتيجة للأزمة الاقتصادية الآخذة بخناق المجتمع . أما نظرة الأديب فيجب أن تكون أوسع وأعمق ، فهو إلى جانب وعيه للحقائق السابقة ، يرى هذه الفتاة كإنسانة من حقها أن تعيش ، وينظر إلى جهدها المضاع وزيف حياتها ، ويعيش مشكلتها قبل أن يصدر حكمه عليها وهذه النظرة تحتاج إلى أن تكون كل أبواب نفسه مفتوحة ، ولو أن فكرة معينة مثالية سيطرت عليه ، لخفيت عليه من الظاهرة جوانب عديدة لابد من خنقها حتى تسلم له قيمه الخاصة) (30) .
 
لو أن نجيب محفوظ نظر إلى هذه المرأة نظرة دينية فقط لاعتبرها زانية تستحق الرجم ، ولو نظر إليها كرجل اقتصاد لاعتبرها ضحية لازمة اقتصادية الجأتها لهذا الوضع ، ولو نظر إليها نظرة عالم اجتماع لاعتبرها ضحية قسوة الظروف الاجتماعية ، لكنه الأديب الذى يضع كل هذه الخلفيات فى حسبانه ، لكنه يضيف إليها نظرته الأوسع والأعمق والأشمل ، فيجد نفسه يميل إلى التعاطف معها بدلا من إدانتها والحكم  عليها . إن أسهل شئ الحكم على الآخرين بالإدانة ، وقد نزج بهم فى جهنم ، ونريح ضمائرنا . لكن الأصعب هو أن نفهم الحالة الإنسانية الماثلة أمامنا ، وما يحيط بها من ظروف وملابسات قد نعجز عن الاحاطة بها . ولئن عجز الأديب عن التسامح معها ، فإنه سيحجم عن إدانتها ، وسيوكل أمرها إلى الله ؛ الغفور الرحيم .
ولعل الثقة فى مغفرة الله تخفف وطأة الشعور بالذنب ، وتجعل ألم الاحساس به ممزوجا بالحنين ؛ الحنين للذنب . 
 
الندم
 
حملت إلى أمواج الحياة المتضاربة امرأة ما أن رأيتها حتى جاش الصدر بذكريات الصبا . ولما ذابت حيرة اللقاء فى حرارة الذكريات سألتها : 
- هل تتذكرين ؟ 
فابتسمت ابتسامة خفيفة تغنى عن الجواب .
فقلت متهورا :
- التذكر يجب أن يسبق الندم !
فسألتنى :
- كيف تجده ؟ 
فقلت بحرارة : 
- ذا ألم كالحنين . . 
فضحكت ضحكة خافتة ثم همست : 
- هو كذلك ، والله غفور رحيم !(31)
 
وكما يلفت نجيب محفوظ نظرنا إلى سمو نفوس القادرين على الغفران ، يلفت نظرنا كذلك إلى العبادة الحقة : 
 
 
هدية
 
"فى عزلة الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور. وقال لصاحبه العاكف على العبادة وكأنه يعتذر :
- فى زحمة هموم أسرتى ومطالب الشئون العامة ضاع عمرى ، فلم أجد وقتا للعبادة . 
فى تلك الليلة زاره فى المنام من أهدى إليه وردة بيضاء وهمس فى أذنه :
- هدية لا يستحقها إلا العابدون الصادقون" !(32)
 
      كأن نجيب محفوظ قد ضاق بصور التدين الشكلى التى أغرقت المجتمع ، حين تم اختزال التدين فى شكل خارجى ؛ حجاب ونقاب ، ثوب قصير ، لحية طويلة . . وأراد أن ينبهنا إلى أن العبد الصادق هو من يعمل ويستغرقه العمل . فالعمل والعبادة التى تدخل صاحبها الجنة ، ولعل هذا المشهد يعد رد فعل لما رآه نجيب محفوظ يسود المجتمع المصرى من قيم دخيلة عليه منها تعطيل العمل بحجة آداء الطقوس ، وكثيرون يذهبون لقضاء مصالحهم فى هيئات حكومية فيكتشفون ان الموظف يصلى الظهر أو العصر ويكتشفون بعد ذلك أنه استرخى ونام ، ويكرر نجيب محفوظ هذا المعنى فى أكثر من مشهد وهو فى المشهد التالى يحكى عن رجل مر بطورين متناقضين فى حياته الطويلة . 
 
المشي فى الظلام 
 
"قال الشيخ عبد ربه التائه :عرفت الرجل فى طورين فى حياته الطويلة . عرفته فى شبابه محبا للعبادة ، ملازما للمسجد ، مأخوذا بسماع القرآن الكريم . 
وفى شيخوخته ساقه قدره إلى الخمارة ، فأدمن الخمر متناسيا ما لايهمه .
وكان يرجع إلى بيته فى الهزيع الأخير من الليل ، ثملا يترنح ، ويغنى أغانى الشباب ، خائضا الظلمة الحالكة . وحذره محبوه من المشى فى الظلام ، فقال 
- حراس من الملائكة يحيطون بى ، ويشع من رأسى نور يضئ المكان . . "(33)
 
يلتقى نجيب محفوظ مع رموز الاستنارة من أبناء جيله ، وما أقرب روحه الإبداعية  من روح زكى نجيب محمود النقدية ، لقد استقبلا الحياة فى بداية القرن العشرين ودعها الثانى فى نهاية القرن ، وودعها الأول فى مطلع القرن الجديد بفاصل زمنى قصير . لكن ما أعظم الفرق بين ما كانت تعد به مصر من استنارة فى بداية القرن على يد قاسم أمين  و محمد عبده ، وما اّلت إليه فى نهاية القرن من تعصب وتزمت وتنطع و ظلام .. ومن المفارقة أن الاثنين قد بكيا ساعة موتهما ، ولعلهما بكيا حصاد السنين حين ذرته رياح الخماسين العقلية التى هبت علينا من الصحراء الشرقية فأكلت الأخضر واليابس وأعادتنا القهقرى قرونا من الزمان . لقد ودعا القرن وخلفاه بائسا و أسوأ حالا من الحال الذى استقبلاه عليه ! 
 
 
 
 
الهوامش
 
(1) جابر عصفور : نجيب محفوظ ، الرمز والقيمة ، منشورات جائزة القذافى العالمية ، 2009، صـ 7
(2) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ، دار مصر للطباعة ، القاهرة 1995، ص، 66 :67 .
(3) يحيى الرخاوى : أصداء الأصداء " تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية ( نجيب محفوظ ) " ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2006  ، ص109 ، 110 .
(4) عبد السميع عمر زين الدين  : أصداء الأصداء " الأفاق الفكرية فى أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ " ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2006 . ص 167 ،168 .
(5) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ، ص62 .
(6) يحيى الرخاوى : أصداء الأصداء ص 55 .
(7) عبد السميع عمر زين الدين : أصداء الأصداء ، ص 165 .
(8) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ، ص 21 .
(9) أدونيس : الكتاب ، أمس المكان الأن ، دار الساقى ، لندن ، بيروت ، 1995 ، جــــــ 1 صـ 19 .
(10) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص40.
(11) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 125 .
(12) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص  31 .
(13) نجيب محفوظ :الجريمة ،دار مصر للطباعة ص 131 :142  
(14) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 109 .
(15) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 57 .
(16) يحيى الرخاوى : أصداء الأصداء ص 98 .
(17) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 139 .
(18) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 118 .
(19) صلاح عبد الصبور : ليلى والمجنون ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة ، 1970 ،ص 102 : 104.
(20) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ًص6، 7 .
(21) يحيى الرخاوى : أصداء الأصداء ص 6 .
(22) عبد السميع عمر زين الدين : أصداء الأصداء ص 20 .
(23) للتعرف على جذور الرؤيا والبدايات الفنية راجع عبد المحسن بدر ، " نجيب محفوظ  ، الرؤية والآداه" دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1978 ، ص33 :88 . 
(24) المرجع نفسه ص 114، 115. 
(25) المرجع نفسه ص 116 .
(26) ديوان أبى نواس :ت أحمد عبد المجيد الغزالى ، مطبعة مصر ، القاهرة ، 1953 ، ص 31 . 
(27) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ، ص 142 . 
(28) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 146 .
(29) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 60 .
(30) د عبد المحسن بدر : حول الأديب والواقع ، دار المعارف ، القاهرة ، ط2 ، 1981، ص 43،44.
(31) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 67 . 
(32) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 40 . 
(33) نجيب محفوظ : أصداء السيرة الذاتية ص 115. 
 

تعليقات القرآء

كتب شحاتة الحو فى الثلاثاء 15 فبراير 2011

أظن أن الأصداء المحفوظية جسدت _ بتكثيف بالغ _ الواقع السياسي المصري منذ عام 1952م وقبلة حتى 25 يناير 2011م .. هذا الواقع الذي شهد تغييبا للمصريين ، وغيابا لفاعلية الأحزاب ،وإخمادا للأصوات الرافضة ،وفي المقابل ارتفعت أصوات النفعيين المبررين لمواقف وأقوال القائد الملهم الحاكم بأمره .
وفي هذا الجو الأسن انفرد الحاكم الأوحد والوحيد بمقاليد الأمور يمنح ويمنع ، يعطي ويأخذ ، ينفي ويثبت ، يرحم ويعذب ، إنه لاعب البلياردو الوحيد على مائدة لايلاعبه عليها إلا نفسه .يقول محفوظ في الأصداء:
"جلست في ركن المقهى الذي تقوم فيه مائدة البلياردو ، وجاء رجل نشط وراح يلاعب نفسه فيرمي الكرة مرة ويرد في الأخرى.
قلت له بأدب :
_ هل تسمح لي أن ألاعبك فهو أجلب للمتعة.
فقال دون أن ينظر إلي :
_بل المتعة أن ألعب وحدي وأن يتفرج الآخرون.
ونظرت حولي فرأيت جميع الزبائن يغطون في النوم. "
ولقد دعا كثير من أدبائنا هؤلاء الزبائن / المصريين إلى اليقظة لمشاركة هذا اللاعب في رسم مصائرهم ، أو حتى الانتباه إلى رميه الكرة ،ولكن بلا جدوي ، ولهذا نرى إيهاب البشبيشي يعتب على صديقه الشاعر شوقي أبي ناجي في ندائه لشعب لايسمع :
أذن كما شئت .. صرح .. واستعر .. وأجز
وحج ماشئت بالأشعار أو حاج
فلا الفضاء الذي تبلو بذي حرم
ولا الذين تناديهم بحجاج
في أذن من؟ أذن أصنام مرصعة
بالزيف كالدر أو بالخوف كالعاج
أم عابديها مكاءات وتصدية
ليحفظوا طيلسان المال والتاج
نعود لا شيء غير الريح قبضتنا
وغير أحلام إيهاج وإبهاج .
لكن هؤلاء النائمين رأوا طريق خلاصهم أخيرا ، عندما أفاقوا علي إيمان جديد ، إيمان بالدم بالحدبد وباللظى دفعهم للتمرد على رقادهم الأبدي إلى إبعاد اللاعب الملهم عن مائدة البلياردو واشتراكهم في ممارسة اللعية .
تحية للدكتور أحمد عبد الحي لأنه أحد صناع هذا الإيمان الجديد من خلال مشروعه العلمي الذي سخره لنقد وكشف فيروسات الخوف الجهل القهر التبرير والاستبداد والوصولية التي يعاني منها الواقع الاجنماعي والسياسي والثقافي المصري .
شحاتة الحو

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code