الأصداء السياسية فى أصداء السيرة الذاتية لـنجيب محفوظ - الجزء الأول
أضيفت فى الجمعة 03 ديسمبر 2010
كان إنجلز يرجع إلى روايات بلزاك حين يريد أن يتعرف على فرنسا ، ومن يريد أن يتعرف على مصر فى القرن العشرين ، فليرجع إلى روايات نجيب محفوظ ، فهناك تجد التاريخ السياسى والاجتماعى ؛ وذلك أنه اتخذ من رواياته وسيلة لطرح آرائه ورؤاه السياسية ، فإذا عرف أن نجيب محفوظ كان قد مزج الفلسفة التى تخصص فيها بسائر العلوم الإنسانية من علم نفس واجتماع وتاريخ – إذا عرف ذلك أمكن أن تتخيل كيف ستصير هذه التوليفة إذا ما أودعت عقل مبدع كبير ملتصق بالواقع يتشرب قيمه وعاداته ، ويتأمل سلوك أهله وناسه ، يجلس على القهاوى ويتجول فى الحارات فاتحا جميع حواسه على ما يدور حوله حتى لكأنه كان يعد نفسه لمعركة الإبداع ؛ تلك المعركة التى نذر حياته من أجلها .
جاء أدبه – بعد ذلك – قويا وثريا وممتدا بحيث نستطيع أن نتعرف من خلاله على التاريخ السياسي والاجتماعى وأسرار الحياه المصرية ، بل امتداد الحياة الإنسانية على امتداد الوجود مكثفة فى "الحارة" المصرية التى تحولت من مجرد فضاء صغير ضيق إلى كون متسع رحيب لا نهاية له . تتكثف فيها وتتجسد بها قضايا الوجود وما بعد الوجود "ولا يكف صانع هذا الكون عن النقد الاجتماعى والسياسى الجسور الذى يضع كل شئ موضع المساءلة " (1)
ولئن عرف عن نجيب محفوظ أنه كان يتردد فى إعلان آرائه السياسية بوضوح ، إلا أنه لم يتردد فى أن يبث هذه الآراء فى أعماله الإبداعية بشجاعة حتى وصفه رجاء النقاش بقوله : "كان أشجع فنان وأجبن إنسان " . . لكنه على أى حال كان معجونا بالسياسة ، وظلت أعماله تنضح وترشح بها ، وأصداء السيرة الذاتية لا تخلو من ومضات خافتة ، بالمعنى الذى يجعلها تنأى عن الصراخ والمباشرة ، وهما أمران لم يتورط أدب نجيب محفوظ فى الوقوع فى شباكهما ، غير أن هذا الخفوت – وإن كان يناسب طبيعة الأصداء ، قضاياها ولغتها ورؤيتها – إلا أنه من الوضوح بحيث لا يضل طريقه إلى عقل القارئ ووجدانه . . لنتتبع كيف تشع مشاهد الأصداء بأضواء السياسة لتكشف الفساد والرجعية وقوى الظلام .
الذكرى
"فى يوم السوق بحارتنا اخترقت الجموع امرأة عارية تتهادى . تسير فى ترفع وتذيب مفاتنها الصخور . كف الناس عن البيع والشراء ووقفوا ينظرون بأعين ذاهلة ، كذلك مضت حتى غيبها المنعطف الأخير ، وأفاق الناس من ذهولهم فركبتهم حال جنون ، واندفعوا نحو المنعطف . فتشوا فى كل مكان ولكنهم لم يعثروا لهاعلى أثر . كلما خطرت ذكراها على القلوب أكلتها الحسرة" .. (2)
الرمز فى هذا المشهد يتجسد فى امرأة عارية تتهادى ، تسير فى ترفع وتذيب مفاتنها الصخور ، ويفسر يحيى الرخاوى هذا الرمز فى تساؤل مؤداه : " هل هى الحقيقة البسيطة المجردة المليئة بالوعد والتكامل ؟ " (3) . أما عبد السميع عمر زين الدين فيفسر هذا الرمز فى شكل تقريرى بقوله : " أما الفاتنة التى غيبها المنعطف فهى الديموقراطية" (4) .
ورغم اقتراب التفسيرين ، تظل مساحة من الخلاف تعطى لكل قارىء الحق فى أن يفسر الرمز وفقا لقراءته ورؤيته ، ونتوقع أن تتعدد القراءات بتعدد القراء .
ونستطيع أن نتوسع فى تفسير الرمز هنا ونقول : انه لا يقتصر على الحقيقة ، ولا على الديموقراطية ولكنه يمكن أن يكون كل القيم النبيلة التى اختفت من حياتنا وأصبحت مجرد " ذكرى " وبلغة المشهد هى :القيم النبيلة التى غابت من حياتنا فى المنعطفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى مررنا بها ؛ قد تكون هى قيمة العدالة ، أو قيمة الصدق ، أو قيمة الحرية ... وغياب هذه القيم هو الذى أصاب الناس بالذهول ؛ الذهول عن أعمالهم ؛ بيعهم وشرائهم ، وركبتهم حال جنون اندفعوا بعدها يفتشون عنها ولكنهم لم يعثروا لها على أثر، لكنها خلفت حسرة كانت تأكل قلوبهم كلما خطرت بها .
وكانت المرأم هى الرمز الأثير الذى يتكئ عليه نجيب محفوظ فى بث أفكاره ورؤاه ، وها هى "ليلى" تذكرنا بمصر الستينيات ؛ مصر النضال والأفكار والمشروعات القوية :
ليلى
فى أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة تألقت ليلى فى هالة من الجمال والإغراء .
قال اناس : إنها رائدة متحررة .
وقال أناس : ماهى إلا داعرة .
ولما غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار فى الظل هاجر من هاجر إلى دنيا الله الواسعة .
وبعد سنين رجعوا ، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة .
وضحكت ليلى طويلا وتساءلت ساخرة : ترى ما قولكم اليوم عن الدعارة ؟(5)
يكتفى يحيى الرخاوى – وهو يعلق على هذا المشهد – أنه يذكره بـ " الماسة " فى طقوس الاشارات والتحولات لسعد الله ونوس (6) . أما عبد السميع عمر زين الدين فيرى أن " ليلى " هى الحرية ؛ حرية الرأى والفكر والكلمة .(7) وأجدنى ثانية مضطرا إلى توسيع مساحة هذا الرمز ، فأرى أن " ليلى " إن هى إلا رمز لمصر ؛ تلك التى تألقت فى هالة من الجمال والإغراء ، وذلك فى ايام النضال والأفكار والشمس المشرقة ، والإشارة هنا إلى الفترة الناصرية التى احتلت فيها مصر مكانة مرموقة بين الدول ، وكانت حقا قلب العروبة النابض تصدر الأفكار والثورات ، وتتخذ من المواقف ما رفع مكانتها وسما بهامتها بين دول العالم ، ولعل هذه المكانة هى التى جعلت الآراء تختلف حولها ؛ فمن الناس من رآها رائدة متحررة ، ومنهم من قال : إنها داعرة ، ربما بدافع الحسد والحقد ، وربما بسبب الجهل بحقيقة الدور الذى مارسته .
غير أن الزمن قد دار دورته ، وأفلت الشمس وانحسر دور الريادة ، وتوارى النضال ، وانحسرت الأفكار ، وأصبح الجو مسموما طاردا للقلوب المناضلة والعقول المفكرة وتحولوا جميعا إلى طيور مهاجرة ؛ هجرت الوطن إلى دنيا الله الواسعة شرقا وغربا . ومن هؤلاء المهاجرين فريق ظل ينفث حقده على مصر من الخارج من خلال ما كُتب وقيل فى وسائل الإعلام شاهرين أسلحتهم فى وجه مصر مشككين فى عروبتها ، وقد قبض هؤلاء الثمن ، لكنهم عادوا بعد حين إلى مصر يحملون معهم ذهبهم الذى قبضوه ثمنا للدعارة الفكرية . وهنا أطلت ليلى التى كانوا قد اتهموها بالدعارة تسألهم .. " ما قولكم اليوم عن الدعارة ؟ " .
ولئن كانت سهام الغدر قد وجهت إلى صدر " ليلى " من الخارج فإن الإرهاب كان قد توغل واستفحل داخل البلاد ، يعيث فيها فسادا ، وهذا هو ما يجسده مشهد " الأشباح ".
الأشباح
“ عقب الفراغ من صلاة الفجر ، رحت أتجول فى الشوارع الخالية ، جميل المشى فى الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف . ولما بلغت مشارف الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة . وسرعان ما خيل ألى أن أشباحا تتحرك نحو المدينة . قلت : لعلهم من رجال الأمن . ولكن مر أمامى أولهم فتبيتن فيه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه .
واجتاحنى الرعب فوق الصخرة . وتسللت الأشباح واحدا فى إثر اّخر .
تساءلت وأناارتجف عما يخبئه النهار لمدينتى النائمة. (8)
وهذه الأشباح التى تسللت إلى المدينة ، ربما عبر الصحراء الشرقية ،وفدت من جزيرة العرب مع العائدين من بلاد النفط محملين هم أيضا بالأموال والأفكار ؛ الأموال التى بنوا بها عمارات حولوا بدروماتها إلى مساجد ، اتخذت مراكز لنشر أفكار التطرف والتعصب والتدين الشكلى ، والتدين المغشوش ، وكذا الإلحاح على نشر ثقافة الحجاب والنقاب ؛ نقاب العقل ونقاب الجسد ، وهكذا تحولت مدينة النور والحضارة إلى مدينة أخرى يجتاحها الظلام ، وينتشر فى ربوعها الأشباح .
وتسلسل الهياكل العظمية الخارجة من كهوفها أو من جحورها أو من قبورها إن هى إلا رمز لانتشار ثقافة ماضوية ، هى الوجه الآخر لانحسار ثقافة الحاضر ، فأصبح حاضرنا بله مستقبلنا وراءنا ، وليس أمامنا سوى الفراغ والسراب ، وأصبح الأمر والنهى بيد الجماجم والهياكل العظمية تحركنا وتتحكم فى مصائرنا . إنه حين يجثم الماضى بكلكله على الحاضر فإنه يغيب هذا الحاضر ويصبح الحضور المطلق للماضى ، وكما يقول أدونيس :
" إن هذا الحضور الذى يتغطى بأسلافنا
ليس إلا غياباً " . (9)
وحضورنا الآن قد تغطى بالهياكل العظمية التى يتطاير من عيونها الشرر ، فتثير الرعب فى المدينة النائمة . ولئن كان هذا هو حال المدينة فى وقت السحر ، وعقب صلاة الفجر ، فكيف سيكون حالها حين يطلع عليها النهار ؟ .
ومع النهار ، سيستيقظ ضمير هذه الأمة ، متمثلا فى أحد أبنائها المخلصين لها ، الذى يرى ببصيرته الخطر المحدق بها ، وهو لا يفتأ يحذر قومه من الخطر القادم ، نرى هذا فى المشهد التالى :
سر الرجل
كان يمر بمجالسنا وهو يصيح :
- إنها أتية لا ريب فيها .
ثم يمضى مهرولا فلا يبقى منه إلا منظر ثيابه المهلهلة ونظرته الشاردة .
ووقعت الكارثة ..
قوم قالوا : إنه ولى من الأولياء .
وقوم قالوا : ما هوا إلا عميل من العملاء .(10)
والسر يعرفه هذا الرجل دون سواه ؛إذ يخترق حجب الغيب ويرى مالا يُرى ؛ يرى الخطر قبل ء وقوعه ، ويحذر قومه ، إنه باختصار زرقاء اليمامة التى حذرت قومها من الأعداء القادمين غير أن جزاءها كان فقء عينيها ، جاءت نبوءة الرجل بالكارثة قبل وقوعها على هذا النحو :
" إنها أتية لا ريب فيها " .
وبدلا من أن ينشغل القوم بكيفية تفادى الكارثة ، فإنهم ينشغلون بأمر هذا الرجل وينقسمون إلى فريقين متناقضين : فريق يذهب إلى أنه ولى من الأولياء ، والآخر يراه عميلا من العملاء ، وهو افتراق يذكرنا بالقوم فى مقطوعة " ليلى " حين يصفها بعضهم بأنها مناضلة ، ويصفها آخرون بأنها داعرة ، وتهدر طاقتنا فى تصنيف الناس بدلا من توصيف أحوالنا واتقاء المخاطر المحيطة بنا . إن أسوأ ما يتعرض له المناهضون للفساد هو عدم دعم الناس لهم ، رغم أنهم يحاربون من أجلهم ، وهو أيضا لامبالاة الآخرين بهم رغم أن هؤلاء الآخرين هم مصدر همهم .. وهذا ما نطالعه فى مشهد " العزلة "
العزلة
قال الشيخ عبد ربه التائه :
كنت أعبر ميدانا غاصا بالخلق فرأيت مجذوبا يضرب بعصاه فى جميع الجهات كأنما يقاتل كائنات غير منظورة ، حتى خارت قواه ، فجلس على الطوار ، وراح يجفف عرقه . وطيلة الوقت لم يبال به أحد ، فاقتربت منه وسألته :
- ماذا كنت تفعل يا عبد الله ؟
فأجاب بحنق :
- كنت أقاتل قوة جاءت تروم القضاء على الناس ولكن لم يفهم عملى احد ولم يعاونى احد . (11)
إنها السلبية التى تجعل الناس يتقاعسون عن شد أزر المناضلين من أجلهم ، والذائدين عن حياضهم ، والمدافعين عن شرفهم وكرامتهم . يبدو الأمر كما لو كانت عقول الناس قد أصابها الخلل ، وقلوبها قد أصابها العطب ، فلم يعودوا قادرين على تمييز الطيب من الخبيث ، ولا الصالح من الطالح ، يختلط فى عيونهم الأنبياء مع العملاء ، عاجزون عن التمييز بين المناضلة والداعرة ، وفى ظل هذا المناخ ينتشر الفساد والعهر ، وينحسر الطهر ، وهذا ما نشهده فى مشهد : " التحدى " .
التحدى
فى غمار جدل سياسى سأل أحد النواب وزيرا :
- هل تستطيع ان تدلنى على شخص طاهر لم يلوث ؟
فأجاب الوزير متحديا :
- إليك – على سبيل المثال لا الحصر – الأطفال والمعتوهين والمجانين ،
فالدنيا مازالت بخير .. (12)
المكان مجلس نيابى ، والسؤال موجه من أحد النواب إلى أحد الوزراء:
" هل تستطيع أن تدلنى على شخص طاهر لم يلوث ؟ "
وحين يصدر هذا السؤال مر نائب فى مجلس نيابى ، فالمعنى أن النائب نفسه - ولعله من الحزب الوطنى- أصبح عاجزا عن العثور عن شخص واحد طاهر .. فشبهة الفساد تحيط بالجميع ، ولئن كان هذا هو حال نواب الشعب ، فما بالك بالشعب نفسه ؟ . غير ان إجابة الوزير تكشف عن ان الفساد قد طاله هو الأخر ، إذ إن إجابته تدافع عن الفساد والفاسدين ، وذلك حين يرى ان الأطهار كثيرون ؛ الأطفال والمعتوهون والمجانين ، وهو يؤكد –طبقا لهذه الإجابة – أن الدنيا ما زالت بخير ، وهنا نتيقن من ظننا ، حين ظننا هذا الوزير وقد تربى وترعرع فى حظيرة الحزب الوطنى . فالدنيا – فى رأيه – مازالت بخير رغم كل هذا الخراب .
مازال الأطفال والمعتوهون والمجانين أطهارا .. وهل يملك هؤلاء ان يكونوا فاسدين ؟ إنهم أطهار بالقوة لا بالفعل . والمعنى أن فيروس الفساد قد صادف كل العقول والأجساد ، فاخترقها وافترسها .
وتأتى المفارقة صادمة فى السطر الأخير إذ " الدنيا مازالت بخير " !!!
وحين يصر الفاسدون على أن " الدنيا مازالت بخير " فالمعنى انهمُ هُمُ بخير . وليس مهما بعد ذلك ما يحيق بالناس من كوارث ، ومن تبعات استشراء الفساد .
يعيد هذا المشهد إلى الأذهان ما ورد فى قصة "الجريمة" (13) وذلك حين حدثت جريمة قتل غامضة فى إحدى الضواحى ،وبدلا من أن ينشط جهاز الأمن فى كشف القاتل ليحقق العدالة ، نجده يتواطأ مع الناس أغنياءهم وفقراءهم للتمويه على القاتل ، وطمس معالم الجريمة ، ولما كان الراوى مكلفا بأن يكتب تقريرا عن سبب غموض الحادث ، وعن الأسباب الحقيقية لطمس معالم الجرائم فى الضحية ، وعن المصلحة المشتركة التى تشد الناس إلى ذلك ؛ الفقراء والأغنياء ورجال الأمن ، نفاجأ بجهاز الأمن يغض الطرف عن الجريمة ويقتفى أثر الراوى متتبعا إياه فى كل الأماكن التى يذهب إليها بهدف إجباره على كتابة القرير الذى يروق لهم ، وحين يفاجئه ضابط الأمن فى إحدى المرات التى يتتبعه فيها يدور هذا الحوار بين الضابط والراوى :
- ترى ما الملاحظات التى تمضى بها ؟
- أنكم لا تؤدون واجبكم !
- الناس لا يتكلمون
- أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر ، ولكن الغضب يتجمع فى الأعماق وللصبر حدود .
- ما واجبنا فى رأيك ؟
- أن تحققوا العدالة .
- واجبنا هو المحافظة على الأمن
- وهل يحفظ الأمن بإهدار العدالة ؟
- وربما بإهدار جميع القيم !
- تفكيرك هو اللعنة .
- هل تخيلت ما يمكن ان يقع لو حققنا العدالة ؟
- سيقع عاجلا أو آجلا .
- فكر طويلا ، بلا مثالية كاذبة قبل أن تكتب تقريرك ، ماذا ستكتب ؟
فقلت بامتعاض :
- سأكتب أن جميع الفيم مهدرة ولكن الأمن مستتب !
وهى إجابة تذكرنا بإجابة الوزير فى المشهد السابق "التحدى" والإجابتان تكشفان عن مفارقة بين المعلن والمسكوت عنه فى "التحدى" أن الفساد قد طال كل الأيدى والمعلن هو أن الأطهار كثيرون . وأن الدنيا مازالت بخير . والمسكوت نه فى الجريمة هو التغطية على القاتل وتوظيف كل الأساليب لطمس معالم الجريمة وإثباتها ضد مجهول ، وأن كل القيم مهدرة ، أما المعلن فهو أن الأمن مستتب ، وهكذا يكشف نجيب محفوظ من خلال هذه المفارقات أزمة قيم الحق والعدل والحرية ، وهى القيم التى ظل يبحث عنها طيلة حياته فى كافة صور إبداعه .
ويذهب محفوظ ابعد من ذلك ، حين يصور الفاسدين من السادة فى حالة ضجر حين يروا الناس وهم يقاومون الأفعال الخسيسة ويشمئزون من الروائح المنكرة .. لنتأمل مقطوعة :
الشكوى
" كان الكهف عامرا بالخلان ، والنشوة تذيب الأحجار .
ونفخ نافخ فأطفا الشموع ، وترددت الأنفاس فى ظلام دامس
وتهادى صوت إليهم يقول : " فى السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة والروائح المنكرة "
- إنها رسالة .
فقال أخر :
- بل هو امر .
وانطلقوا فى الأسواق يحملون على كل خسيس ومنكر
وغضب السادة،فزمجروا بالغضب ، ولوحوا بالعصى"(14)
ظهر الفساد فى الأرض ، انتشر واستشرى ، باض وأفرخ ، نما وترعرع ، حتى إن السماء قد اعلنت احتجاجها على ما يحدث فى الأرض من انتهاكات :
" فى السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة ، والروائح المنكرة "
غير أن المفارقة تبدو فى موقف السادة ، وفى رد فعلهم وذلك حين يغضبون ويلوحون بالعصى حين يروا الناس وقد انطلقوا فى الأسواق يحملون على كل خسيس ومنكر . وكان أولى بالسادة ان يكونوا فى مقدمة صفوف المناهضين للمنكر والخسيس ، لكنهم لم يتقاعسوا فحسب بل قاوموا هؤلاء المناهضين ملوحين لهم بعصيهم . هل هذا يؤكد العلاقة الوثيقة بين السادة والفساد ؟ و أنه إذا وُجد فساد ، فابحث عن السادة ،وهو ما يؤكد المثل القائل : " إن السمكة تفسد – أول ما تفسد – من رأسها " .
والدكتاتورية هى الجذر الذى ينبت منه كل فروع الفساد ، وتمتد – بعدئذ – أذرعه إلى سائر الأجهزة والمؤسسات لتفعل فعلها فيها . وتعكس المقطوعة التالية الاّثار المدمرة للدكتاتورية ونبذ الأخر وعدم الاعتراف به ، وعدم السماح له بالاشتراك لا فى اللعبة السياسية ، ولا فى أى لعبة اخرى :
البلياردو
" جلست فى ركن المقهى الذى تقوم فيه مائدة البلياردو ،
وجاء رجل نشيط وراح يلاعب نفسه فيرمى الكرة مرة ويرد فى الأخرى .
وقلت له بادب :
- هل تسمح لى أن الاعبك فهو أجلب للمتعة .
فقال دون أن ينظر إلى :
- بل المتعة أن ألعب وحدى وأن يتفرج الأخرون
ونظرت حولى فرأيت جميع الزبائن يغطون فى النوم".(15)
إنها مشكلة الحاكم الفرد ، الذى لا يرى إلا نفسه ، نافيا كل ما عداه ، متصورا أنه يحتكر المتعة لنفسه ، حين يحرم الاّخرين من المشاركة ، حتى اللعبة التى يقضى قانونها ونظامها أن يمارسها لاعبان ، تابى عليه نفسه إلا أن يمارسها وحده ، وحين يطلب منه الاّخر أن يسمح له بمشاركته لعبته ، لأن هذا ادعى للمتعة ، فيرد بأن متعته ان يلعب وحده ، وأن يكتفى الاّخرون بالفرجة عليه ، وفى ذات الوقت يخلد هؤلاء الاّخرون إلى النوم ، لأن اللعبة لا تستثيرهم ولا تستحثهم .
هل يشير محفوظ إلى مشكلتنا مع الحزب الواحد الذى يصر على أن ينزل الملعب وحده ؟ أم يشير إلى الحاكم الفرد الذى ينفى أيا من هؤلاء الذين يفكرون فى أن يدخلوا الحلبة معه ؟ ام يشير إلى توابع ذلك حين تسرب فيروس الدوجما إلى عقول أفراد الشعب فأصبح كل منهم لا يرى إلا نفسه ، ولا يتحاور إلا مع نفسه ولا يمارس اللعب إلا مع نفسه أيضا . وهو الأمر الذى انعكس على إشاعة حالة الفوضى والبلطجة فى الشارع المصرى .
متعة المستبد ، الدكتاتور ، أن يلعب وحده ، وأن يتفرج الاّخرون ، غير أن الاّخرين يعاقبونه حين يرفضون أن يكونوا مجرد متفرجين غير مشاركين .. وعندئذ " تتأكد وحدته ، لكن الاّخرين ليسوا رهن إشارته ، وهو يرفض ان بلعب معهم ، وفى الوقت نفسه يطلب أن يروه ، يشوفوه ، يعترفوا به ، فجاء رفضهم بأنهم ناموا ، انسحبوا ، رفضوا التوقيع على عقد تعيينهم شوافين محترفين مهمتهم أن يؤكدوا وجود لاعب ذاتوى منغلق ، فى الملعب الذاتى المنغلق ، والنتيجة هى ان يخسر اللاعبان فى النهاية ، لأنهما واحد لا أكثر " . (16)
لقد أراد الدكتاتور أن يقلص مساحة الحرية التى يتحرك فيها الناس ، فيجعلها تقف عند حرية الفرجة عليه ، ليتأكد وجوده من ناحية ، ويلغى وجودهم من ناحية أخرى . غير أننا نواجه بالشيخ عبد ربه التائه يساوى بين الحرية والعبادة ، الحرية والصلاة ، الحرية والسجود ، وذلك حين يتناص مع حديث نبوى مشهور ، إذ يقول :
" أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه ، وهو يمارس حريته بالحق "(17)
والأحرار وحدهم هم الذين يدركون العواقب الوخيمة للجبن ، وهذا ما تشير إليه هذه اللقطة :
" سالت الشيخ عبد ربه التائه :
- متى يصلح حال البلد ؟
فأجاب :
- عندما يؤمن أهلها بان عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة .. (18)
وهو فى هذه العبارة المركزة يكاد يلخص ما قاله صلاح عبد الصبور على لسان سعيد مخاطبا أهل مدينته:
" يا أهل مدينتنا
يا أهل مدينتنا
هذا قولى :
انفجروا أو موتوا
رعب أكبر من هذا سوف يجىء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالى جبل الصمت
أو ببطون الغابات
لن ينجيكم أن تختبئوا فى حجراتكم
أو تحت وسائدكم ، أو فى بالوعات الحمامات
لن ينجيكم أن تلتصقوا بالجدران ، إلى أن يصبح ..
كل منكم ظلا مشبوحا عانق ظلاً
لن ينجيكم أن ترتدوا اطفالاً
لن ينجيكم أن تقصر هاماتكمو حتى تلتصقوا بالأرض
أو أن تنكمشوا حتى يدخل أحدكمو فى سَم الإبرة
لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القرده
لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا حتى تتكون ..
من أجسادكم المرتعدة
كومة قاذورات
فانفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا ." (19)
إنه يقول باختصار : إن عاقبة الاعتصام بأعالى الجبال أو ببطون الغابات ، والاختباء فى الحجرات ، أو تحت الوسائد ، او فى بالوعات الحمامات .. إن عاقبة الالتصاق بالجدران ، والتمسح بالسفوح .. إن عاقبة الاندماج والاندغام ... كل هذا سيكون أوخم من عاقبة الانفجار .. إن عاقبة الجبن هو الموت .. أما الانفجار فيفضى حتما إلى الحياة والتجدد والبعث .
هنا نستعيد إجابة الشيخ عبد ربه التائه على سائله : متى يصلح حال هذا البلد ؟
" عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة "
كثيرا ما أتذكر قول النفّري " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " عند قراءتي لنجيب محفوظ ، ولا أظن أن كاتبا عربيا غيره يمتلك هذا القدر من الاقتصاد الأسلوبي والإيجاز اللغوي ، ليس فقط في أصداء سيرته الذاتية ، وإنما في شتى أعماله الروائية ، فرواياته المثيرة للجدل كالكرنك ويوم قتل الزعيم والباقي من الزمن ساعة لاتتجاوز مائة صفحة أو يزيد قليلا ، ولهذا نجد كثيرا من العيارات مكتنزة بالدلالات وضعها محفوظ عمدا في ثنايا السرد أو في طيات الحوار بين شخصياته كتعلبق بعض شخصياته على عصر الانفتاح الساداتي في رواية يوم قتل الزعيم قائلة : " مقهى ريش خير من ضجيج الواقع " . حقا إن قراءة أصداء السيرة الذاتية لا يمكن استيعايها إلا يعد قراءة مشروع نجيب محفوظ كله واستيعابه وهضمه ، لأنني أراها ملخصا لأعماله كافة .
وقد تعلمت من " أ. د أحمد عبد الحي " أن أقرأ محفوظ ، وما زلت أذكر قوله " إنني قرأت محفوظ كاملا منذ أن كنت في المرحلة الجامعية الأولى حتى أعرف ما يحدث "
شحاتة الحو