مفــاتيح كبــار الشعــراء العــرب
كنت قد اتخذت من شاعر متواضع ومكسور الجناح موضوعاً لدراسة علمية ؛ هى رسالة ماجستير مخطوطة بآداب القاهرة عنوانها " شعر صالح مجدى .. دراسة فنية " .قضيت مع الشاعر فيها بضع سنوات بائسة ، أقلبه على كافة أوجهه لعلى أجد لديه ما يثلج الصدر ، أو ينعش العقل ، أو يروى الوجدان ، لكن دون جدوى . أدركت أن الخطأ ليس فى الشاعر بل فى اختيارى ، إذ كيف أرجو من حفنة مياة راكدة ، ما أرجوه من شلال دافق مثل عنترة ، أو بئر عميق مثل عمرو بن كلثوم ، او جدول طروب مثل أبى نواس ، او محيط ـ هادئ حيناً ، عاصف أحيانا ـ مثل أبى العلاء ، أو نهر وقور مثل صلاح عبد الصبور ، أو فيضان كاسح مثل أدونيس ؟ . فكرت أكثر من مرة فى فسخ علاقتى بهذا الشاعر ، غير أن أستاذى المشرف كان ينجح كل مرة فى إثنائى عما اعتزمته بحجة قد تكون صحيحة ؛ هى أن البحث العلمى لا يفرق بين الظواهر الجيدة والظواهر الرديئة ؛ هما على ميزان البحث سيان ، ومحك الجودة أو الرداءة يرجع فى النهاية إما إلى صرامة البحث و انضباطه ، أو إلى ميوعته واهترائه . ومع إيمانى التام بهذا ، إلا أن عقدة شاعرى الأول ظلت تطاردنى لتحول بينى وبين الانفتاح العقلى والوجدانى على أىٍّ من الشعراء الصغار ، بل لقد ضاقت حلقة هذا الإنفتاح بحيث لم تعد تسمح بعبور من هم دون الكبار .
والحقيقة أننى لم أخسر كثيرا بسبب إعراضى عن الشعراء الصغار ، بل لقد كسبت الكثير بسبب اقترابى من الكبار ؛ كسبت وجدانياً حين تمثلت الخبرة الوجدانية للشاعر الكبير حتى أضحت قيمة مضافة إلى رصيدى الوجدانى ، وكسبت فكريا حين انفتح عقل هذا الشاعر ليفرغ ما فيه فى عقلى وكسبت نقديا حين أصبح من الميسور ـ بحكم الألفة والعشرة ـ أن يبوح لى هذا الشاعر بسره ؛ أقصد مفتاحه الإبداعى .
الشاعر الصغير يمكن أن يُفتح بــ "طفاشة" ، وحين يُفتح لا تجد شيئاً. أما الشاعر الكبير فليس له سوى مفتاح واحد لا يتكرر مثل البصمة ، وحين تفتح أبوابه تتدفق كنوز الإبداع لتملأ الوجدان الإنسانى زخماً روحيا وثراء فكريا .
إن دوحة عظيمة يستظل المرء فى ظلها مستمتعا بثمارها ، مستنشقا عبيرها ، لهى أغنى وأخصب من غابة من الشجر المتواضع الثمر ، الباهت الزهر . ألم يقل صلاح عبد الصبور : " أبو العلاء عندى هو ثلاثة أرباع الشعر العربى ، والربع الباقى يتقاسمه أبو نواس وابن الرومى والمتنبى وغيرهم " ؟. إن تجربة خصبة تختصر مئات التجارب التى لم تنضج بعد ، أو حتى تلك التى فى طريقها إلى النضوج . إن الشاعر الكبير يحمل قارئه على جناحيه محلقاً به فى آفاق النفس الإنسانية ، مصاحبا له فى ممراتها ودروبها ، متجولا معه على هضابها وفى وديانها كاشفاً له خفاياها وأسرارها . ألم يختر طه حسين "المتنبى" ليقضى معه جزءا من حياته مستغنيا به عمن سواه ؟ . ثم ألم ينتق طه حسين قبل ذلك " أبا العلاء بالذات " من بين الشعراء العرب والفرنسيين ليكون فى صحبته ، لأنه وجد فى هذه الصحبة غناء واكتفاء ؟. ألم ينصح بوشكين قارئه العزيز أن "اقرأ شكسبير " بعد أن تجول طويلاً فى بستان الأدب العالمى . وتدرب على أن يفرق بين الشعراء . طعما ورائحة ، عمقا وارتفاعاً ؟.ألم يكن ابو نواس أفضل تمثيل لزمانه مما دفع الدكتور شوقى ضيف إلى أن يقول : " كأنما كتب القدر عليه أن يصبح ضريبة الفسق والمجون لعصره "؟.
ثم ألم يستشرف عنترة بن شداد ـ الشاعر الجاهلى ـ قيم العصر الإسلامى مما دفع ببعض الباحثين المحدثين إلى اعتباره إرهاصة للدين الذى كان يتخلق حينئذ ، كما دفع قديماً بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول : " ما استمعت إلى أعرابى قط فأحببت أن أراه إلا عنترة " ، وذلك بعد أن استمع إلى قوله :
ولقد أبِيُت على الطَّوَى وأظَلُّه حتى أنال به كريم المأكل ..؟.
ألم يَخْلُدْ عمرو بن كلثوم ويُخَلِّد معه قبيلته بمعلقته التى كانت أشبه باليتيمة ، والتى اتخذ منها أبناء القبيلة نشيدهم القومى الذى يرددونه كل صباح ، الأمر الذى دفع بأحد خصومهم إلى الزراية بهم على كلفهم بها قائلاً :
ألْهى بنى تَغْلِبٍ عن كلِّ مكرُمَةٍ قَصـيدةُ قالهـا عمرو بن كلثوم
يُفاخِرون بها مـذْ كان أوَّلُـهـمْ يا للـرجالِ لِشعرٍ غير مسئـومِ ؟.
ولئن كان الشاعر الكبير يتيح لقارئه ـ على المستوى الإبداعى ـ أن ينفتح على عوالم وجدانية خصبة وثرية ، فإنه يتيح له ـ على المستوى النقدى ـ أن يمسك بمفتاح عملية الإيداع لديه ، ذلك أن الشاعر الكبير غالباً ما ينطلق من رؤية واضحة ومحددة للحياة والكون ، وهو يعبر عن هذه الرؤية فى ذات الوقت بأدوات لها نفس درجة الوضوح والتحديد . وهذا هو مايتيح للناقد أن يلتقط مفتاح الشاعر من قاع بئر الوجدان ، وذلك عكس الشاعر الذى تغيم رؤيته الشعرية وتضطرب ـ من ثم ـ أدواته فيصعب ، بل يستحيل ، أن نمسك بمفتاحه ، والسبب بدهى ، وهو أنه ليس ثمة مفتاح أساساً . الشاعر الذى تبهت بصمته، تتبدد شخضيته ويمكن أن يكون مثل هذا الشاعر ذا إنتاج غزير ومتنوع لكنه يفتقد إنسجام الرؤية وتناغم الأدوات . أما الناقد فسيجد نفسه فى هذه الحالة مضطرا إلى تقسيم عالم هذا الشاعر إلى مجموعة عوالم لا تربطها رابطة ، بل قد تكون عوالم متضادة ومتنافرة ينكر بعضها بعضاً ، وكأن كلاً منها ينطلق من بؤرة وجدانية لا يربطها بغيرها من البؤرات القريبة إلا رابطة الجوار فقط . هنا يبدو الشاعر مبعثراً ، ويبدو إنتاجه كما لو كان إنتاج مجموعة شعراء ، ومن ثم تصبح محاولة اكتشاف سره أو القبض على مفتاحه محكوماً عليها بالفشل .
أما الشاعر الكبير فإن عالمه يتكثف مهما اتسع ، وهذا التكثيف يسهل عملية حصره وتحديد هويته ، مما يفضى فى النهاية إلى الإمساك بمفتاحه . ونقصد بالمفتاح : العامل الحاسم فى تحديد الرؤية ، أو المحور الأساس الذى تنبع منه التجارب الإبداعية بشكل عام ، بحيث تظل هذه التجارب ـ فى شتى تجلياتها ـ تدور فى فلك هذا المحور ، قد يقترب بعضها منه ، وقد تبتعد أخرى عنه وتتفاوت ـ من ثم ـ درجات القرب والبعد ، لكنها تظل جميعا منجذبة إليه ، تدور فى إطاره ، ولا تخرج عن مداره .
أشار الدكتور زكى نجيب محمود إلى عبارة مهمة نقلها عن أحد النقاد الفرنسيين مؤداها " أنك إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما ، فإنما تصل إلى مفتاح أدبه لو أنك وقعت على الكلمة التى ما تنفك تتردد فى أدبه أكثر من سواها " . وهذه العبارة صحيحة تماما ، ولكن بشرط أن يكون الأديب الذى تتحدث عنه قد تبلورت شخصيته ، وتحددت سماته ، واتضحت ملامحه ، واكتسب أدبه صفات الأدبية ، وغالبا ما يكون مثل هذا الأديب قد اقترب من دائرة الأدباء الكبار ، إن لم يكن قد دخل هذه الدائرة وشغل مكاناً فيها .
توصلت فى بحثى " مفاتيح كبار الشعراء العرب " إلى مفاتيح ستة شعراء ينتمون إلى ثلاثة عصور أدبية كبيرة هى : العصر الجاهلى ، العصر العباسى ، العصر الحديث . من العصر الجاهلى توقف البحث عند شاعرين ؛ أولهما عنترة الذى تبين أن مفتاحه يتمثل فى استخدامه اللافت والدال لضمير المتكلم ( أنا ) . أما ثانيهما فعمرو بن كلثوم الذى تبين أن مفتاحه يتمثل فى الارتكاز على ضمير المتكلمين ( نحن ) .
ومن العصر العباسى توقف البحث عند شاعرين ، أولهما أبو نواس الذى تبين أن مفتاحه يتمثل فى الارتكاز شبه الدائم على صيغتى الأمر والنهى ، بحيث يمكن القول إنهما معاً يمثلان " تيمة أساسية " فى لغة الشاعر الفنية . أما ثانيهما فهو أبو العلاء المعرى الذى لوحظ أنه يسوى بين الأشياء من خلال استخدامه الشائع والمتواتر لما أسميناه بـــ " صيغ التسوية " وهى سىَّ ، سِيان ، سواء ، … أسواء ، … يشبه ، ما أشبه ... ، يساوى ، يناظر ، يماثل ، يقارب … وهذه الصيغ هى عدة أبى العلاء فى التسوية بين الأشياء أو على الأقل فى التقريب أو المشابهة بينها .
ومن العصر الحديث توقف البحث عند شاعرين أولهما : صــلاح عبد الصبـور الذى اتضح أن مفتاحه يكمن فى " المـفارقـة بـين المـاضى والحـاضر " وذلك حين تبدو صورة الحاضر معتمة إذا ما قورنت بصورة الماضى الصافية ، وهذه المفارقة تكاد تكون هاجسا يسرى فى أوصال أعماله الإبداعية كلها ، سواء أكانت شعرا غنائيا أم مسرحا شعريا ، أما ثانيهما فهو أدونيس الذى ظل إبداعه كله ينطلق من بؤرة تشع فى كل الاتجاهات بالفكرة التى تؤكد على أنه لا ينبغى أن يظل الحاضر رهينة فى قبضة الماضى ، او استنساخا له ، من ثم كان مفتاحه الإبداعى هو : رفض استنساخ الماضى فى الحاضر .
ولئن كان البحث قد توقف عند هؤلاء الشعراء الستة ، فليس معنى هذا أن قائمة كبار الشعراء العرب قد انتهت . هناك شعراء كبار آخرون ، ربما تكون قامة بعضهم أطول من قامة بعض من دُرِسوا هنـا ، ثمـة اعتبار لاهتمام الباحث وذوقه ، وثمة اعتبار آخر لقدرته على التحليل وكفاءته فى القبض على مفتاح الشاعر ، وثمة اعتبار ثالث لما سوف يضاف مستقبلا إلى هؤلاء الشعراء .
أستاذى الجليل / تحياتى وتحيات جيل شرف يوماً بالجلوس أمامك أيها العملاق الذى روى ظمأ الكثير من أبنائه الطلاب على مدى سنوات عدة... مازالت كلماتك تتردد فى أذنى وأنت تتحدث عن الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى .... وما زالت أصداء تلك الكلمات تلوح لى وخاصة حين صورت لنا معاناة الشعب الغلسطينى رجالاً ونساءً......( كلما قالوا انتهى فاجأتهم أنى ابتدأت) ( وما أسوأ اللغة التى لا فعل لها سوى فعل التوابل تساعدنا على هضم الطعام ) وكلمتك التى لا تغيب أبداً عن بالى ( تجهد بعض الشعوب نفسه فى تعلم ما يوقف نموها العقلى )وغير ذلك الكثير والكثير.....
ابنك... راغب شعلان .... آداب كفر الشيخ 2005