أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

لحظة إعدام صدام

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

بُعيد صلاة الفجر ، منذ عشرين عاما ، بدأت الأصوات هادئة تنطلق من المساجد "لبيك اللهم لبيك .." ، وفى نفس هذه اللحظة من صباح عيد الأضحى شعرت بالارتباك حين كان علىَّ أن أفكر فى الطريقة التى لا أفسد بها على أهل قريتى فرحتهم ، وذلك حين فاضت روح أبى إلى بارئها فى تلك اللحظة .. وفكرت فى أحد أمرين : إما أن أتكتم حتى يفرغ الناس من طقوسهم المعتادة ، أو أن تتم مراسيم الدفن فى إطار عائلى ، دون إزعاج للمحيطين الذين سيجدون أنفسهم مختارين أو مضطرين وقد انسحبوا من أجواء العيد المفرحة لمشاطرتنا الحزن . غير أن أيا من الأمرين لم يتحقق بسبب هزيمتى أمام جيشان عواطف إخوتى .
ما حدث من ملابسات ومفارقات إعدام صدام وضعتنى فى مواجهة مع الموقف القديم ، قلت : لو أن بوش والمالكى فكرا لحظة فيما سيسببانه من إيذاء لمشاعر الناس ؛ مسلمين وغير مسلمين بسبب اختيار التوقيت ، لأعادا كتابة سيناريو جديد لهذه التراجيديا ، سيما أنهما من حيث شاءا أن يتشفيا فى صدام ، قدَّما له فى اللحظة الأخيرة وسام الشرف . وفى الوقت الذى كانوا يبحثون فيه عن مبررات تخرجهم من المنزلق الذى وقعوا فيه ، كانت حياة جديدة تكتب لصدام . لقد أرادوا القضاء عليه بالإعدام ، فإذا به يبدأ حياة جديدة بسبب ملابسات ما حدث فى لحظة الإعدام .
وإذا كانت لحظة سقوط تمثال صدام ستظل ماثلة وملهمة ، فإن لحظة إعدامه ستظل أكبر إلهاما وإلهابا للأخيلة ، لحظة قدِّر لها أن تفلت من غرفة الإعدام ، فتغير – فى لحظة – صورة صدام ، وكم سيعاد تصويرها وإنتاجها ، إنها لحظة مكتنزة ومحتشدة وحمالة بحيث يمكن القول إنه لو وضع عمر صدام كله فى كفة ووضعت لحظته الأخيرة فى كفة ، لرجحت هذه اللحظة .
وقديما أشار الشاعر إلى أنه قد يفرط الإنسان فى العمر كله ، وتظل هناك ساعة أثيرة يصعب التفريط فيها :
"قد يهون العمر إلا ساعة..."
ولو أن صدام نفسه عاد إلى الحياة ورأى الثمار التى جناها من وراء هذه اللحظة لقال :
"قد يهون العمر إلا لحظة..."
ذلك أن هذه اللحظة قد خففت كثيرا من آثار الآثام التى ارتكبها صدام فى حق نفسه وأسرته وبلده وأمته . قد يهون العمر إلا هذه اللحظة رغم فجاعتها ، إنها لحظة النهاية ، لحظة السقوط فى الجب ، لكن ما إن سقط حتى بُعثت له حياة جديدة منسوجة من تداخل الأصوات الشامتة مع صوته الناطق بالشهادتين والهاتف للأمة ولفلسطين ، ومنسوجة أيضا من تلك المفارقات التى شهدناها بين سجان متخف ، وسجين مكشوف الوجه مرفوع الجبهة ، حتى لكأنه كان يردد فى نفسه بعضا من كلمات سبارتكوس الأخيرة كما أنطقه بها أمل دنقل :
"مُعلَّقٌ أنا على مشانق الصباح
وجبهتى - بالموت – محنية
لأننى لم أحنها حية !"
أثارت هذه الخواطر فى نفسى قراءتى لقصيدة "أحمد ماضى" "لحظة إعدام صدام" المنشورة بجريدة "الكرامة" 16/01/2007 والتى استطاع فيها أن يفصل بين لحظة إعدام صدام وتاريخ صدام . لحظة الإعدام حيث ظهر سجينا مقيدا فى مشيته ، وتاريخ صدام حيث كان سجانا مطلقا فى مشيئته . لحظة الإعدام حيث جلجل صوته باسم الله ، وباسم رسول الله ، وتاريخ صدام الذى يقول بأنه لم يشأ أن يكون مجرد ظل للإله . لحظة الإعدام حيث بدا رابط الجأش متحكما فى نفسه ، وتاريخ صدام الذى يقول بأنه كان منفلتا ، يفرغ مسدسه فى أى رأس يرى أن حامله يقف عقبة فى طريق طموحه ، لا فرق فى ذلك بين قريب أو بعيد أو نسيب . لحظة الإعدام وما أبداه صدام من مشاعر طيبة تجاه فلسطين والعراق والأمة ، وتاريخ صدام الذى يشهد بأنه هو الذى جلب إلى رأس هذه الأمة الصداع الأعظم الذى سوف ينسحب على بقية أجزاء الجسد بالترهل والتفسخ و ... .
أحمد ماضى استطاع أن يفصل لحظة إعدام صدام عن تاريخه ، لذا فإنه بدا متعاطفا معه على النحو الذى رأيناه فى قصيدته التى جاءت أشبه برثائية لبطل قومى قلما يتكرر ، لاسيما حين يُقارَن بأقرانه الذين انجرفوا فى تيار أمريكا ، وطبَّعوا مع إسرائيل . ويصير هو "السبع" الذى لم يساوم قردة صهيون وخنازير أمريكا ، ويبدو فى صورة الضحية التى تصالحت على دمها "كلاب الدنيا" ممن آثرت الوقوف فى المكان الآمن . تظهر هذه الرؤية التى ترى فى صدام ضحية من البداية التى ُترسم فيها لصدام صورة خارجية .. بيضاء ونقية ..

"فى اللحظة دى ، هاتف قاللي / ونا شايف صدام قدامى / واقف هادى / ووشه منور / ولابس بالطو أنيق / وشعره بيلمع / وباين مفروق / هاتف قالى: / هذا الراجل مسروق"

ثم صورة داخلية يبدو فيها هادئا ، متماسكا :

"والآخر يكتشف العالم / فى الصورة اتنين / سجان متخفى / عصبى / متوتر ، وماسك حبل / وسجين ماسك أعصابه / داخل ع الحبل بكل هدوء / فى نفس اللحظة الومضة / اللى الهاتف قاللى : / هذا الراجل .. مسروق"

ووفقا لهذه الرؤية يتحول صدام إلى بطل تراجيدى صامد مثل الحلاج ، لا يرهب الموت ، بل ربما هو الذى أصبح يسعى إليه ويطلبه بعد أن انفض من حوله من انفض ، وخذله من خذل ، واجتمعت "كلاب الدنيا" حوله تنهش وتنبح وتعض :

"واحد قاللي: / من شكل قناعة صدام بمكانه / وقرايته نهايته / وهو ف إيد سجانه / وقناعته / بإن كلاب الدنيا / اتلمت علي قصعة عمره / وإنه خلاص / ولا حد حيرفع صوته / بكلمة ف أمره / وإن الدنيا الخاينة / انفضت من حواليه / والكل الخايف / واقف / علي خط السلم بعيد / وكل الحكام / ولا واحد وياه / لحظتها / راح مرمي ف حضن البطل الشامخ جواه / راح مرمي ف حضن الله"

وبهذه النهاية التراجيدية يتحول صدام إلى أسطورة ، حكايته قابلة لأن تختمر فى الوجدان الشعبى وتتحول إلى موال مواز لموال "أدهم الشرقاوى" الذى قتل هو الآخر بسبب خيانة أقرب الناس إليه :

"موال حاكم نال الإعدام /حاكم م الزمن الماضي / واسمه: صدام / كفر عن أخطاؤه بموقف / أشعل أرواحنا ف لحظة / هتف لله / والأمة / هتف للشعب، وفلسطين / وتارينا كنا ناسيين / إن مصيبة هذا الحاكم / كانت في صلب هتافه / وان هتافه مشمول بالفعل / الفعل اللي الدنيا / كل الدنيا قصاده تهون / إنه ما يركعشي لأمريكا / وولاد صهيون / ويطري صلابته / ويساوم قردة وخنازير / ويصطف ف صف الخونة / يمرح ويسير / فالصح ف نظره / الصح ف نظره / الصح ف نظره: / إن السبع / مش ممكن يعشق / خنزير "


 

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code