طالب منتسب
فى آداب القاهرة .كنت طالبا منتسبا ، أقوم بزيارات خاطفة إلى الكلية ، مرة فى الشهر ، أومرتين إذا نلت الرضى من ناظر المدرسة ، أجمع فى ساعات ما فاتنى فى أسابيع ، وكنت أيضا أضغط المكان ، لأنى تسللت من كلية الآداب إلى كيلة الحقوق ، ومنها إلى كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، ومنها إلى كلية الإعلام ، ثم إلى كلية دار العلوم ، أبحث عن محاضرة هنا ، أو ندوة هناك . أو مناقشة رسالة هنالك . كنت محروما من العلم ، لذا سعيت لتذوق كل ما يستسيغه اللسان ، وابتلاع كل ما يملأ فراغ المعدة ، تصورت الجامعة شجرة ، لكل فرع فيها ثمار ، ولكل ثمرة نكهتها ، دفعنى الجوع العلمى والمعرفى إلى الرغبة فى تذوق كل الثمار . أما الإحساس بالحرمان فقد انعكس فى شكل أشبه بالشبق المعرفى . لذا كنت أختار أساتذتى بعد أن هضمت المناخ الجامعى ، ولم أكن أرتبط بفرقة دراسية ، ولكنى كنت أرتبط بأستاذ ، ألهث وراءه من الفرقة الأولى إلى الفرقة الرابعة ، ثم إلى رسائله التى يناقشها أو يشرف عليها ، توثقت علاقتى بالأساتذة المبدعين من أصحاب الرؤى ، وتفسخت هذه العلاقة مع الأساتذة الموظفين من أصحاب المذكرات ، أعظم الأساتذة هم اولئك الذين صدمونى ، فنفرت منهم فى البداية ، ولكنى عرفت فضلهم فى النهاية ، وأسوأ الأساتذة هم أولئك الذين دغدغوا مشاعرى فى البداية ، ولكنى أدركت مدى جنايتهم على فى النهاية .ثمة أستاذ كنت أنفق مرتبى لأصل إليه ، وآخر أهمله لأبحث عن أستاذ أخر فى قسم أخر أو فى كلية أخرى . كنت أتحول بين أقسام الكلية ، ثم بين كليات الجامعة ، أتشمم رائحة العلم بين المدرجات ، كنت فى ذلك مثل الحلاج حين يقول على لسان صلاح عبد الصبور :
لهثت ُ وراء العلوم سنين
ككلبٍ يَشُمُ روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتالُ حتى ينالَ سبيلا إليها ،
فيركضُ ، ينقض ....
لا أنسى يوم خرجت من منزلى فى الخامسة صباحاً ، حتى أتمكن من حضور محاضرة الدكتور عبد المحسن بدر وكان موعدها الساعة التاسعة ، وحين أستأذنت فى الدخول طرق الدكتور الباب فى وجهى لأنى تأخرت بضع دقائق .... لم أندم على نصف مرتيى الذى أنفقته فى هذا المشوار قدر ما ندمت على حرمانى من محاضرة كانت زادا لعقلى ووجدانى ، ظللت أتردد ، بين الشباكين الزجاجيين من خارج المدرج لعلى أتمكن من رؤية الدكتور الذى كان يتمشى وهو يلقى محاضرته ، غير أن النوافذ الصماء لم تكن تسمح بمرور الكلام ، ققنعت بمتابعة حركة الشفتين ، بعد أن صدر الحكم بالحرمان على الأذنين .