أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

شهادة

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

فى سالف الأزمان وقف الإنسان عاجزاً عن تفسير ظواهر الوجود بمنطق العقل ،فلاذ بالحلم والخيال ، أو بالمنطق الأسطورى ، وتراثنا غنى فى هذا الجانب ، لاسيما ما يساعد الإنسان على تحقيق ما يجيش فى نفسه من رغبة تعجر عنها القدرة . وعالم ألف ليلة وليلة زاخر بالأمثلة التى تصبح فيها كل رغبات الإنسان مجابة بمجرد فرك اليد على خاتم سحرى . وهذا الخاتم هو " العفريت " الذى اخترعه الإنسان لينتصر به على عجزه وضعفه وقلة حيلته .... أما وقد بلغ العلم ما بلغ ، ووصل إلى ما وصل من إنجازات وتقنيات تتفوق فى سرعتها وقدرتها على كل ما وصَلَنا من حكايات الجن والعفاريت ، فقد أخذ علم العفاريت القديم ينحسر ويتوارى ليفسح المجال للعفريت الجديد " العلم " ذلك الذى يدهشنا كل يوم بالغريب والعجيب . ورغم هذا سيظل تراثنا الضخم المعجون بماء العفاريت كامناً فى نفوسنا ، مترسباً فى وعينا ولا وعينا .
وحين أعبث فى ذاكرتى أجد مئات القصص التى كان قائلوها يقسمون بالأيمان المغلظة أنهم عايشوها ، وكم كنت أشفق على جدى وهو يقص علينا ما تعرض له من إغراء جنية البحر ، أو وعيد جنى البر الجالس على شجرة الجميز العتيقة ، أو تحرشات عفاريت البيت المسكون الكائن فى طرف العزبة التى كان يعمل ناظراً لها ، وكم كان يشعرنى بخيبة الأمل حين يكتشف فى الصباح أن الأرانب الكثيرة التى جمعها بالليل من على مدار الساقية فد اختفت ... قصص وحكايات لا تنتهى .. وكلها معجونة ، كما قلت ، بماء العفاريت .
لكننى أذكر أيضا أننى ـ منذ طفولتى ـ كنت أشك فى صحة هذه الحكايات ، ولم أكن مهيأ نفسياً لتصديق ما يقال عن دنيا العفاريت ولا حتى عن كرامات الأولياء ، رغم أن السياق الاجتماعى السائد كان يدفعنى دفعاً إلى التصديق ، وكان يعتبر التشكيك فيها مروقا .
عندما كان يلتف أهل القرية فى منتصف القرن الماضى فى الضريح المسمى بــ " سكان أبيدة " لإقامة حلقة ذكر يتطوحون فيها حتى يصيبهم الإغماء ، كنت أكتفى بالوقوف متأملاً ومحاولا الإمساك بهذا الشئ الخطأ الذى أحسه ولا أراه ، وذلك رغم الشهرة الواسعة التى حظى بها هذا الضريح ، والناجمة عما تصوره الناس من قدرات خارقة للأولياء الذين تحلق أرواحهم فى سماء الضريح ، تمارس فعلها جلبا للخير ودفعا للشر ـ هكذا تصور الناس حتى إنهم نعتوهم بــ " الأبطال " . وكان هؤلاء الأبطال يظهرون فى صورة ظلال تتحرك فى خط أفقى أسفل سقف الضريح وقت الزوال ، وكان الناس ينبهرون ويدفعون ما تيسر من نذور ، وكنت أرثى حالهم وأشفق عليهم . لكنى لا أنسى هذا الصباح الذى كان علىَّ فيه أن أتوجه لأداء امتحان الشهادة الابتدائية ، وهناك أمام الضريح توقفت قائلاً : " إن كنتم أبطالا حقاَّ رسبونى فى الامتحان " كنت أريد أن أضعهم هم فى امتحان ... ونجحت ... وسقطوا .
تأكد لى هذا السقوط بعد ذلك حين فطنت إلى أن الظلال المتحركة ليست سوى ظلال الناس السائرين على الطريق المواجه للفتحة التى تتسرب منها أشعة الشمس منعكسة على الجدار الذى تظهر عليه هذه الظلال . ظهور هذه الظلال مرهون إذن بثلاث عوامل : الشمس فى الظهيرة ، فتحة الجدار ، أقدام السائرين . وسقوط عامل منها يتبعه احتجاب الظلال .
من الأهمية بمكان ، أن يكون الإنسان نفسه غير مستعد ذهنياً ونفسياً لتصديق الخرافة ، وكل ما يتبعها من ألوان الدجل والشعوذة ، ولن تجدى المعرفة ولا التجربة ولا العلم مع حضور هذا الاستعداد ، والدليل أننى أعرف أساتذة علوم ( فيزياء ـ كيمياء ـ أحياء ) وهندسة وطب وزراعة ، يخونهم ـ أو يخونون هم ـ رصيدهم العلمى ، ويطرقون أبواب المشعوذين ، ويبدون متمكنين من علم العفاريت أكثر من تمكنهم فى تخصصاتهم العلمية . والكارثة أن حياتهم العقلية تسير فى اتجاه ، وحياتهم الشعورية تسير فى اتجاه آخر ، وكأن ثمة خصومة بين العقل و الشعور .
فى لقاء أعددناه مع المرحوم الدكتور ماضى أبو العزايم ، تحدث الطلاب عن هواجسهم وكوابيسهم والعفاريت التى تسكن بيوتهم . وتحد ث الرجل عن خطورة التصورات الذهنية التى تتحكم فى حياة الإنسان ، وذكَّرنا بالمثل الشعبى " اللى يخاف من العفريت ... " ثم قص علينا حكاية صاحبه الذى كاد يهجر بيته بسبب ذلك العفريت الذى يسكن سطح البيت ، ولا يكف عن اصدار الأصوات الغربية ليلاً ، ثم اكتُشف أنها أصوات البراميل التى تتمدد نهارا بالحرارة ثم يؤدى انكماشها بالليل إلى إصدار هذه الأصوات .
فى الطريق الموحش المؤدى إلى منزلى ، اضطررت للعودة منفرداً بالليل ، وكنت فى الرابعة عشر من عمرى ، فجأة رأيت عفريتا ينتصب بمحاذاتى من الغاب المزروع على شاطئ النهر ، ارتعشت وتجمد جسمى ، ولكنى تجاوزت المكان بسرعة الخائف المذعور ، ولكنى عدت وتوقفت متأملاً ومتسائلاً : هل هو عفريت حقا ؟ ولأنى ومنذ صغرى ، لا آخذ مثل هذه الأمور مأخذا هينا ، قررت العودة لأتأكد ، وكنت على استعداد لأن أتحمل تبعات ما إذا أسفرت النتيجة عن عفريت حقيقى . المهم أن ألمس الحقيقة بنفسى ، حتى لا أظل نهباً لتخيلات جدى ، أو فريسة لتصورات غيره . وحتى يمكن أن أقرر مطمئنا : إما الانضمام إلى قافلة جدى وتبنى رؤيته ، أو أن أخلع جلباب هذا الجد لأحيا فى جلبابى . ما تكشف هو أننى رأيت العفريت الذى يسكن رأسى ، وما رأيته كان عود غاب سبق أقرانه فى النمو ، فَنَمَتْ له شوشة تشبه الرأس خيل لى أنه العفريت . ومن المؤكد أن ما بصقه جدى فى رأسى من أخبار العفاريت هو الذى شكَّل هذه الصورة ولوَّنها .
المرحوم محمد عبد الهادى سماحة ، وزير الرى السابق ، اشترى مساحة من الأرض بقرية مجاورة لقريتنا بمحافظة الدقهلية . وعندما أخذ يصلح من شأن البيت الذى يقع على رأس هذه الأرض ، نصحه سكان القرية بعدم تبديد ماله ، لأن البيت مسكون ، وأخذ كل منهم يحدثه حديث الواثق عن قصته مع عفاريت البيت ، الأصوات التى تصدر عنها ، الأضواء التى تشع منها ، الأشباح التى تظهر وتختفى وهى تتهادى أثناء الدخول والخروج ، الهبوط والصعود . . . غير أن الرجل قال لهم بثقة : اطمئنوا ؛ فإنى سأعلِّم هذه العفاريت الأدب . . . ومن بعد ، لم تكن تحلو له الإقامة إلا فى هذا البيت ( المسكون ) .
إن العفريت مثل الدجال يسقط إذا كانت لدينا الرغبة والإرادة فى إسقاطه ، ويبقى إذا كنا مهيئين نفسيا لإبقائه ، وعندئذ تُوظَّف كل الأحداث الحقيقية والمتوهمة لحبك القصة التى نؤمن بها حتى قبل حدوثها . مضطر بعد ذلك ، أن أتأمل أحوال عفاريتهم وعفاريتنا ، فأرى عفاريتهم قد كرهت الحياة فى الظلام ، وملَّت الظهور فى صور شبحية ، وأبت إلا أن تتطور وتتحور ، لتخرج من البيوت المعزولة ، وتحيا بين الناس ، تستأنس بهم وتؤنسهم ، وذلك حين تتشكل فى صور كثيرة : موبايلات ، فاكسات ، فضائيات ، أسلحة عابرة للقارات ، أدوية لاستعادة الشباب ، استنساخ أعضاء ، سفن فضاء . . .
أما عفاريتنا فلم تزل تمارس نفس أعمالها التى كانت تقوم بها منذ آلاف السنين ، وماذلك إلا لأنها فضَّلت أن تظل أسيرة داخل البيوت ، وهى لذلك تبدو فى غاية البؤس والطيبة والخيبة ، أقصى ما تستطيع عمله هو أن تكشف غطاء حلة ملوخية ، أو أن تطبع قبلة رقيقة على جبين برئ ! ! .

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code