عندما تحول صدام إلى أسطورة
بعد صلاة الفجر ، منذ عشرين عاماَ ، بدأت الأصوات هادئة تنطلق من المساجد " لبيك اللهم لبيك " وفى نفس هذه اللحظة من صباح عيد الأضحى شعرت بالأرتباك حين كان على أن أفكر فى الطريقة التى لا أفسد بها على أهل ، قريتى فرحتهم ،وذلك حين فاضت روح أبى إلى بارئها فى تلك اللحظة . وفكرت فى أحد أمرين : إما أن أتكتم حتى يفرغ الناس من طقوسهم المعتادة ، أو أن تتم مراسيم الفن فى إطار عائلى ، دون إزعاج للمحيطين الذين سيجدون أنفسهم مختارين أو مضطرين أن ينسحبوا من أجواء العيد المفرحة لمشاطرتنا الحزن ، غير أن أيا من الأمرين لم يتحقق بسبب هزيمتى أمام جيشان عواطف إخوتى .
ما حدث من ملابسات ومفارقات إعدام صدام وضعتنى فى مواجهة مع الموقف القديم ، قلت : لو أن بوش والمالكى فكرا لحظة فيما سيسببانه من إيذاء لمشاعر الناس ؛ مسلمين وغير مسلمين بسبب إختيار التوقيت لإعادة كتبة سيناريو جديد لهذه التراجيديا ،سيما أنهما من حيث شاءا أن يتشفيا فى صدام ، قدَما له فى اللحظة الأخيرة وسام الشرف ، وفى الوقت الذى كانوا يبحثون فيه عن مبررات تخرجهم من المنزلق الذى وقعوا فيه، كانت حياة جديدة تكتب لصدام لقد ارادوا القضاء عليه بالإعدام ، فاذا به يبدأ حياة جديدة بسبب ملابسات ما حدث فى لحظة الإعدام . واذا كانت لحظة سقوط تمثال صدام ستظل مائلة وملهمة ، فإن لحظة إعدامه ستظل أكبرإلهاما والهابا للأخيلة لحظة لحظة قدر لها أن تفلت من غرفة الاعدام ، فتغير – فى لحظة – صورة صدام وكم سيعاد تصويرها وانتاجها ، إنها لحظة مكتزة ومحتشدة وحمالة بحيث يمكن القول انه لووضع عمر صدام كله فى كفة ووضعت لحظته الأخيرة فى كفة ، لرجحت هذه اللحظة . وقديما أشار الشاعر إلى انه قد يفرط الانسان فى العمر كله ، وتظل هناك ساعة أثيرة يصعب التفريط فيها : قد يهون العمر إلا ساعة .. ولو ان صدام نفسه عاد إلى الحياة وراى الثمار التى جناها من وراء هذه اللحظة قد خففت كثيرا من آثار الأثام التى ارتكبها صدام فى حق نفسه وأسرته وبلده وأمته قد يهون العمر إلا هذه اللحظة رغم فجاعتها ، إنها لحظة النهاية . لحظة السقوط فى الجب ، لكن ما إن سقط حتى بعثت له حياة منسوجة من تداخل الاصوات الشامتة مع صوته الناطق بالشهادتين والهاتف للأمة ولفلسطين ، ومنسوجة أيضا من تلك المفارقات التى شهدناها بين سجان متخف ، وسجين مكشوف الوجه مرفوع الجبهة ، حتى لكأنه كان يردد فى نفسه بعضا من كلمات سباراتكوس الأخيرة كما أنطقه بها أمل دنقل :
مُعلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتى – بالموت – محنية
لأننى لم أحنها حية !
أثارت هذه الخواطر فى نفسى قراءتى لقصيدة " أحمد ماضى " لحظة اعدام صدام والتى استطاع فيها أن يفصل بين لحظة اعدام صدام وتاريخ صدام ، لحظة الاعدام حيث ظهر سجينا مقيدا فى مشيئته ، وتاريخ صدام حيث كان سجانا مطلقافى مشيته . لحظة الاعدام حيث جلجل صوته باسم الله وباسم رسول الله ،وتاريخ صدام الذى يقول بانه لم يشأ أن يكون مجرد ظل للإله . لحظة الاعدام حيث بدأ يربط الجأش متحكماً فى نفسه وتاريخ صدام الذى يقول بانه كان منفلتا ، يفرغ مسدسه فى اى رأس يرى ان حامله يقف عقبة فى طريق طموحه ، لافرق فى ذلك بين قريب اوبعيد أو نسيب . لحظة الاعدام وما أبداه صدام من مشاعر طيبة تجاه فلسطين والعراق والأمة وتاريخ صدام الذى يشهد بأنه هو الذى جلب الى رأس هذه الأمة الصداع العظم الذى سوف على بقية أجزاء الجسد بالترهل والتفسخ و... أحمد ماضى استطاع ان يفصل بين لحظة اعدام صدام عن تاريخه ، لذا فإنه بدأ متعطفا معه على النحو الذى رأيناه فى قصيدته التى جاءت أشبه برثاتية لبطل قومى قلما يتكرر ، ويصير هو " السبع " الذى لم يساوم قردة صهيون وخنازير أمريكا ، ويبدو فى صورة الضحية التى تصالحت على دمها الدول التى آثرت الوقوف فى المكان الآمن .. تظهر هذه الرؤية التى ترى فى صدام ضحية من البداية التى ترسم فيها لصدام صورة خارجية بيضاء ونقية ووفقا لهذه الرؤية يتحول صدام الى بطل تراجيدى صامد مثل الحلاج ، لايرهب الموت ، بل ربما هو الذى يسعى اليه ويطلبه بعد أن انفض من حوله من انفض ، وخذله من خذل . وبهذه النهاية التراجيدية يتحول صدام الى أسطورة ، حكايته قابلة لأن تختر فى الوجدان الشعبى وتتحول الى موال مواز لموال ادهم الشرقاوى الذى قتل هو الآخر بسبب خيانة أقرب الناس اليه .
جريدة الجمهورية بتاريخ : الجمعة 26 يناير 2007 صفحة 6