أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الميكروفون والضجيج الدينى !

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

الهدف من مكبرات الصوت عموماً هو توصيل الصوت لمن لا يصل اليه، وهذا هو ما يحدث فى المجتمع الذى أنجب مخترع الميكروفون ، وما يحدث فى كل المجتمعات التى تصدر الينا الميكروفونات مع مراعاة الحذر الشديد من غير خدش حواس الناس وكل الكائنات لكن ماذا صنعنا نحن بهذا الاختراع؟
إمتلأت قرى مصر المحروسة ومراكزها واجزاء كثيرة من عواصم محافظاتها بالباعة الجائلين إما على عربات كارو أو نصف نقل ، يتصدر كل عربة منها ميكروفون ، يلح بفظاظة لجذب زبائن الملوخية الخضراء والطماطم الحمراء والباذنجان الأسود ( وقلبه الأبيض ) .. ورغم الأذى الذى تحدثه تلك الميكروفونات من إعتداء على حواس الناس ، إلا أن أذاها اقل بكثير مما تسببه ميكروفونات الجوامع ، الأولى اعتداء مؤقت على حاسة السمع ، أما الثانية فتشويه للدين وتزييف للعبادة وإفساد لها .
يندر أن تستمع الى صوتى بائعين يشتبكان ، ويكثر بل ويشيع ان تستمع الى عشرة اصوات متداخلة من اثناء الآذان ، أو أثناء الصلاة ، أو أثناء خطبة الجمعة . فى يوم الجمعة أجد نفسى (محظوظاً ) بالاستماع الى أكثر من خطبة فضلاً عن خطبة إمام مسجدى ، والمحصلة النهائية بالطبع لا شىء . والأدهى هو ما يحدث بعد ذلك بين من دخلوا فى الصلاة ، ومن يقيمون لها ، ومن لا يزالون يخطبون ولك ان تتخيل حال المصلى الذى تصالحت على أذنه – فى التقدير الأقل – ثلاثة مكبرات صوتية ، كيف له أن يتدبر ويتفكر ويخشع ؟ ، لا أنسى يوم أن انتهى أحد أئمة المساجد المجاورة من قراءة الفاتحة اثناء صلاة الجمعة فإذا بجارى فى الصلاة يؤمن وراءه بينما كان إمامنا يقرا : " ... غنه يعلم الجهر وما يخفى " سورة " الأعلى " مهزلة مهزلة تقترف كل يوم فى الصلوات الجهرية ، وكل أسبوع فى صلاة الجمعة ، ولا احد يجرؤ على الكلام ، رغم كثرة الكلام.
من المؤسف ان الموكلين الرسمين بالنهى عن المنكر لا يعتبرون ذلك منكراً ، ولم أسمع مرة الى أحداً منهم وهو يكشف هذا العبث الذى يتدثر بعباءة الدين ، أو يواجهه بالحق الذى يقول : " ولا تجهر بصلاتك " بل إن أحدهم كان يخرق آذاننا وهو يشرح لنا وصية لقمان لابنه " ... واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير "وهذا يؤكد أننا نعيش تناقضاً رهيباً ، نتعيش منه ولا نشعر به، ونناضل من اجل الحفاظ عليه ويؤكد مالا نحب أن نصدقه من ان العرب ظاهرة صوتية ، بمعنى ان كل مايهمهم هو تلك الأصوات التى تصدر منهم ، ولا يهم بعد ذلك الى أين تذهب ، وماذا تفعل ؟
فى مدرج كبير بكلية الآداب جامعة القاهرة ، نظرت المرحومة الدكتورة سهير القلماوى الى الطلبة الجالسين فى الصف الأخير متسائلة : " هل يصل صوتى إليكم؟" ثم أومأت إلى العامل بعدم حاجتها الى مكبر الصوت عندما جاءتها الاجابة بـ " نعم " . ولو طبقنا هذا السلوك المتحضر لما كنا بحاجة إلى مكبرات صوتية فى معظم مساجدنا ، ولكتفينا بمكبرات صغيرة فى المساجد الكبيبرة ، وذلك اذا كنا معنين فعلاً باحترام الشعائر واحترام الدين ، لكن مانراه ومانسمعه ليس أكثر من "ضجيج دينى" عار من أى رصيد وجدانى ، ناهيك عن تلك الفجوة بين ما نراه على السطح ، وما نحسه فى العمق ،إن جناية هذه المكبرات على الدين كبيرة وخطيرة أهونها انها حولته إلى مرسل للسيطرة يسيطر بها المرسل الذى يتصور نفسه الناطق باسم الله على المتلقين المساكين. وهذا هو السبب فى اصرارنا على التمسك بالنبرة العالية ، رغم أن الدنيا قد تغيرت ، ورغم السيل الاعلامى الذى ينهمرعلينا من شتى الروافد وبشتى الصور.
صاحب النبرة العالية يدرك شعورياً أنه الأعلى ، وهو شعور مرضى . والعالم دائما ً يحتفظ بنبرته الهادئة يتسلل بها الى الأفئدة التى فى الصدور متجاوزاًالآذان التى فى الرءوس .
إن العبادة- أى عبادة - هى سر بين العبد والرب، وتحتفظ العبادة بأفضليتها تبعاً لاحتفاظها بسريتها لذا كانت أفضل الصلوات هى التى يؤديها الانسان باليل والناس نيام وأفضل الصدقات هى التى تقدمها اليمين فلا تعلم بها الشمال ، فلماذا نصر نحن على أن تبقى عبادتنا مفضوحة ومكشوفة ؟ أن ما نصنعه هو إساءة لأنفسنا وديننا وقرآننا ، وأتصور أن اخر ما كان يتصوره الرسول صلى الله عليه وسلم أن تأتى اجيال تمارس شعائرنا عبر الميكروفونات .
فى السرادق المقام أمام منزل العائلة ، ذهبت لأقدم واجب العزاء فى وفاة احد أقاربى ، لم أفاجأ بالسماعات الست الكبيرة التى تكفى الواحدة منها لتغطية الحواس الخمس للمدينة بكاملها .. وهى موزعة فى السرادق بإتقان بحيث يستحيل الافلات من قبضتها ،وتبوء كل محاولاتك لإنقاذ حاسة سمعك بالفشل ، وكنت – لسوء حظى – قد نسيت قطعة القطن التى اعتدت أن أحشرها فى أذنى فى مثل هذه المناسبات التى تفترسنا فيها الميكروفونات ، ولما عجزت عن الاحتمال فكرت فى الفرار قبل أن ينهى المقرىء " وصلته التلاوية" ولكنى عجزت فاستعنت بسبابتى غير مكترث بنظرات الاستنكار ، غير أن المقرىء الشغوف بسماع عبارات الاستحسان والحريص على الدعاية لنفسه ، مر على من يظن أنهم من الوجهاء بعد إنتهائه من التلاوة ليعطيهم بطاقته الدعائية ويثلج صدره بما تيسر من ثناء على الصوت المعجزة . انتهزت الفرصة وقلت له بالهجة الجد التى يشوبها بعض مزاح : اذا كان صوتك يستحق عشر درجات فان المكبرات تستحق صفراً ، وأخذت احدثه فيما اعلم انه يعرفه ، وربما يعظ به غيره من آداب الاستماع والانصات الى القرآن ومايستوجبه ذلك من رقة وشفافية وصوت غضيض ، ومن أن الصوت الصارخ هو عدو التفكر والتدبر ، ومن ثم الاستفادة لكنى وجدته مشغولاً بـ "آداب السماع والاستمتاع " لا بآداب " الاستماع والانصات " .
والسياق المحيط كله يقنعك بأنه لا التفكر ولا التدبر ولا الانصات الى المعانى والدلالات أمور تشغل فكر أحداً بدءاً من القرىء الذى تحول الى مطرب ، همه تسويق بضاعته الكامنه فى قوة الصوت وارتفاعه ، وفى تلك الذبذبات أو الارتجافات المتتالية التى تتفوق على ما يحدث فى قاعات الأفراح وفى البارات .
ومروراً بأهل الميت التى حولوها الى " مبوسة " أو حفلة استعراضية للفخامة والأهمية وانتهاءاً بالجمهور المتواطىء سلفاً على أن الأمر كله يتلخص فى " صوت ملعلع " من جانب المقرىء لقاء ( سماع واستمتاع ) من جانبه ، وما يستتبع ذلك من عبارات الثناء والاستحسان ، وطلبات الاعادة ، والدعاء بالزيارة " ربنا يزيدك ياعم الشيخ " . ولكن اين الميت من هذا كله ؟ . انه الغائب الغائب الذى لا يذكره احد ولو بقرأة الفاتحة .
إن التجربة الدينية ، سواء تمت فى مسجد أو سرادق أو شارع .. تقوم أساساً على حس مرهف ، وشعور عميق يجعلان صاحبهما ينفر من الصخب والضجيج ، ويفضل الهمس الذى هو أقرب الى الصمت ، وفى الحالة الأخيرة يتشرب التلقى ما يتسرب إليه ، فتتغير كيمياء النفس ، وتتجدد خلايا الشعور ، ويصبح اكثر صفاء ونقاء وأريحية . والدين ، أى دين لاتصنعه الطبول بل العقول التى تجعل من اللغة أداة تحرر لا وسيلة قهر واستعباد ، العقول التى توظف أدوات التقدم لا لتكريس التخلف ، ولكن لبث الوعى الصحى ونزع الوعى الزائف .

الجمهورية الأحد 29 مايو 2006

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code