أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الدين والنيل .. مصير مشترك

أضيفت فى الأحد 12 أبريل 2015
كان طبيعيا أن يتزامن تدخل الرئيس السيسي – كحاكم وصاحب قرار ومسئول – فى ملفين مصييرين ؛ ملف الدين ، وملف النيل ؛ فى الملف الأول طالب بضرورة ثورة دينية لترشيد الخطاب الدينى ، وفى الملف الثانى تم التوقيع على وثيقة حماية النيل ، وذلك لأن مصائر المصيريين تتوقف على تعديل ما شاب هذان الملفان من تجاوزات وتعديات . 

النيل والدين شريانا الحياة فى مصر ؛ النيل شريان الحياة المادية ، والدين شريان الحياة الروحية ، وبما أن حياة الإنسان فى مجملها جسد وروح ، فإن اكتمال حياة الإنسان لا تكون إلا بالتقاء الشريانين معا ... لكن السؤال الذى يفرض نفسه الآن هو : ماذا صنع الإنسان المصرى (بالذات) بشرياني حياته ؟.

لنبدأ بمأساة النيل التى لا تخفى علينا ، كلنا يشهد كيف تحول النيل بأيدينا وتحت أعيننا إلى مستنقع نلقى فيه بقمامتنا ، ولا نجد بديلا له قبرا ندفن فيه جثث الحيوانات النافقة ، ولا نلتمس غير شاطئيه مكانا يستوعب مخلفات الأبنية الآيلة ، أو تلك التى تم الانتهاء من بنائها ... أما روث البهائم فلا يستريح إلا مسترخيا على شاطئيه ... لقد أضحى النيل أرضا مشاعا من حق أى عابر سبيل أن يصنع به ما يشاء ... ورحم الله زمانا كان النيل هو ملهم الشعراء ، ومعلم الرقة والعذوبة والفن والجمال ، إنه ذات الزمن الذى أوحى لمحمود حسن اسماعيل فى مطلع القرن الماضى أن يناجى النيل قائلا :

                    سمعت فى شطك الجميل                    ما قالت الريح للنخيــــل
                    يسبـــح الطــــير أم يغنى                        ويشرح الحب للخميــــل
                    وأغصن تلك أم صبايـــــا                        شربن من خمرة الأصيل


لكن ماذا يمكن أن يوحى النيل به اليوم للشاعر الذى يجازف بالسير على شاطئيه اللذين وزعت أكوام القمامة عليهما بالتساوى ؟ ... وماذا يمكن أن تقول الريح التى تحمل الرائحة المنبعثة من تفاعل القمامة مع الروث ؟ ، وهل ما زال ثمة طير يطارح بالشجو إلفه ؟ ... وهل ثمة صبايا ما زلن يسرن على شاطئيه متباهيات بجمالهن ، حاملات جرارهن لعلهن يثرن مشاعر النيل تجاههن ؟ وهل ما زالت الأشجار شامخة على شاطئه تتدلى أغصانها العفية لتستحم فى مائه ، مغرية الشاعر بالتشبيه بينها وبين تلكم الصبايا الجميلات ؟

بعد قرن من الزمان ، وبالتحديد فى مطلع القرن الحادى والعشرين ، وجدنا موقفا آخر للشاعر من النيل ، وكما يقول تلميذنا الشاعر الدكتور بشير رفعت :

" لم نضف للنيل إلا بولنا
ولأهرام الجدود هرما يغفو على صدر الشعار "


معروف أن المصرى القديم كان يقدس النيل ، وظل النيل محتفظا بشبابه وفتوته ونضارته وتدفقه آلاف السنين ، لم يُصَب بالهرم والشيخوخة ، إلا فى زماننا حين استبحناه ، وحولناه إلى أرض مشاع يلقى فيها أى عابر سبيل ما يحمله من أكياس القمامة ، فى حين لم يكن جدنا القديم يلقى فى النيل إلا أجمل عروس اعترافا بجميله . هذا المصرى الذى كان يرجو الإله أن يدخله الجنة ، ومسوغه أنه لم يلوث ماء النيل . حين يقف المصرى اليوم بين يدى الله طالبا ثوابه ، يقول : يا رب أنا لم أقتل ، لم أسرق ، لم أزن فلا تحرمنى من جنتك . كأن تلويث ماء النيل كبيرة من الكبائر مثل القتل والسرقة والزنا .

وكان طبيعيا أن يثور النيل لكرامته ، بعد أن فعلنا به ما فعلناه ، فأرسل رسالة إلى منابعه هناك فى الحبشة أن يقيموا السدود ليحولوا بين تدفق المياة إلينا ، لأن مصرى اليوم ليس مثل سلفه القديم ، إنه لا يعرف قدر النيل ، ومن ثم فإنه لا يستحق هذه المياه ، وأنه ينبغى أن يعاقب بحجبها عنه ؛ يعاقب بالجوع والعطش لقاء ما ارتكب فى حق النيل من موبقات ...

وما صنعناه بالنيل صنعناه بالدين ، لقد كان تيار الدين يجرى فى ضمائرنا عذبا فراتا ، سمحا جميلا ، رائقا ورقراقا ، وامترج النيل بالدين فى سيمفونية سامية ، وذلك حين كان المصرى ينزل إلى النيل يتطهر مستحما أو متوضئا ، ثم يؤدى صلاته على شاطئه حامدا ربه على هذه النعمة الجارية .

وكما ألقينا فى النيل مخلفاتنا المادية ، أثقلنا الدين بمخلفاتنا الفكرية ، وفرضنا عليه تصوراتنا الوهمية وتفسيراتنا المرضية وتأويلاتنا الأسطورية . واختلط الدين بهذه التصورات وتلك التفسيرات حتى ظٌن أنها جزء منه ، وهى مفروضة عليه وليست نابعة منه ولا تابعة له . فاختلط الدين بما هو ليس بدين ففسد ، كما اختلط ماء النيل ببولنا فتلوث .

عشرات السنوات مضت علينا نشكو من الاعتداء على النيل ، وبُذلت جهود مكثفة لاستعادة كبريائه ، غير أن هذه الجهود كانت تذهب سُدى ، وهو نفس مصير جهود هؤلاء الذين يتصدون لتطهير مجرى الدين مما شابه من أباطيل عبر العصور ، نتيجة للتفسيرات الخاطئة ، أو التأويلات الباطلة ، إذ ربما كانت هذه وتلك تصلح لزمنها ، لكنها لا تصلح لزمننا ، لنعيد للدين شبابه بتخليصه مما شابه ، حتى لا تدركه الشيخوخة والهرم ، على نحو ما أدركت النيل .

وبكل أسف نجد أن الذين ينشدون تطهير المجرى ، يُواجَهون برفض وازدراء من هؤلاء الذين ارتدوا عباءة أوصياء الدين وسدنته ، فتترى التهم تنزلق على رؤوس الفريق الأول بدءا من إهدار مقدسات الأمة ، وازدراء الأديان ، وليس انتهاء بالنيْل من مصداقية العلماء الفقهاء . إن الذين يحولون دون تطهير مجرى الدين يقفون فى نفس الخندق الذى يتمترس فيه الذين يلوثون مجرى النيل ، وربما كانوا أسوأ حالا منهم ، بحكم أن الشريان الروحى أعلى منزلة من الشريان المادى رغم علو شأن الآخير .

كان متوقعا أن يبادر رجال الأزهر بنقد الخطاب الدينى ، وإبراز المثالب والخطايا التى ينطوى عليها ، غير أنهم بدلا من أن يؤدوا دورهم المنوط بهم ، يدافعون بحرارة عما لا يستحق الدفاع عنه ، بل إن هذا الدفاع يعد جريمة فى حق الدين ، ذلك أن تطهير مجرى الدين أجدى من التغطية على ما يسرى فى شريانه من شوائب وعورات . والحقيقة أنهم حين يؤدون دورهم على النحو الذى نراه ، لا يدافعون عن الدين ، بل يدافعون عن أنفسهم ، وعما ارتكبوه هم فى حق الدين حين روجوا للخطايا المشار إليها عبر السنوات الماضية ، وكان المتوقع منهم أن يُفعِّلوا فضيلة الاعتراف بالحق ، ومن قبلها فضيلة النقد الذاتى . 

لا يضير البخارى – الإنسان – أن يتضمن كتابه بضعة أحاديث فاسدة ، ولكن يضيره ويضيرنا أن نقابل ذلك بالصمت والتجاهل ، ودفن الرؤوس فى الرمال . إن صالح البخارى وصالحنا أن نطهر كتابه مما شابه ، ليظل جديرا بما عرف عنه من أنه أصح كتاب بعد القرآن .

وعلماء الأزهر مسئولون بشكل أو بآخر عن جمود تراثنا الإسلامى ، صحيح أنهم لم يكتبوه ، لم يشاركوا فى صنعه ، ولكنهم سكتوا ألف عام عن حقيقة ما شابه من شوائب .. والأدهى أنهم شمروا سواعدهم للدفاع عن هذه الشوائب . إن مكانة الأزهر الحقيقية تستمد من قدرته على تطهير مجرى الدين ، حتى يظل عذبا وصالحا لكل زمان ومكان .

ولم يعد مقنعا ما يتردد على لسان رجال الأزهر من أن مؤسستهم تستمد عراقتها من الأعوام الألف التى تستند إليها ، إذ يمكن أن نسأل ماذا فعلت هذه المؤسسة فى الأعوام الألف التى لا تنفك تتباهى بها ، لقد آن الأوان لكى تراجع هذه المؤسسة نفسها ، وأن تعالج أمراضها بيدها ، قبل أن تُدركنا المأساة التى تجرفنا جميعا أمامها ، فلا ينفعنا نيل ، ولا يصلحنا دين .

تعليقات القرآء

كتب أمل محمد فى الاثنين 07 سبتمبر 2015

فعلا دكتور أحمد النيل والدين شرياني الحياة. . . بارك الله في حضرتك ونتمنى المزيد

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code