أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الأمة تكشف عن عورتها فى معرض الكتاب

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

"قل لى ماذا تقرأ أقل لك من أنت "
وكما نتعرف على الخريطة العقلية والوجدانية للإنسان من خلال ما يقرأ ، كذلك الحال بالنسبة للأمم ، وليس أفضل من معرض القاهرة الدولى للكتاب مكاناً يجمع ثقافة الأمة ضمن ما يجمع من ثقافات الأمم ، ومن ثم يمكن أن نرى الملامح الفكرية والوجدانية لهذه الأمة على مرآة ما يُعرض فى المعرض من كتب . الانطباع الأول للمتجول فى القاعات هو التوقف أمام هذا الطوفان من كتب التخدير العقلى والتخريب الفكرى ؛ كتب الهلاوس والوساوس ، الأباليس والتلابيس ، الجن والعفاريت ، الثعابين والشياطين ، عذاب القبر وحساب الملكين ، الحجاب والنقاب ، اللحية والنفاس وشعر الراس ..... طوفان يزيح كتب العقل والتفكير لتتوارى منزوية خجلة فى الرفوف الخلفية والسفلية.
والمعرض مناسبة سنوية مثيرة للغبطة والسعادة ، غير أن جولة فى قاعاته تصيب المرء بالإحباط والكآبة ،وهما شعوران يتجددان على رأس كل عام كلما طفت بالقاعات أتأمل العناوين وأستعرض الفهارس وأتصفح الكتب ، فأتأكد للمرة التاسعة والثلاثين أن معظم ما يعرض فى سوق الكتاب من غذاء للعقول أشد ضررا عما يعرض من بقايا الأطعمة فى أسواقنا الشعبية بقرانا المصرية من غذاء للبطون .
ولئن كان الشعور بالاشمئزاز هو الذى ينتاب الإنسان من منظر أسراب الذباب التى تطير وتحط على الأطعمة فى الأسواق الأخيرة ، فإن الشعور نفسه هو الذى ينتاب المرء وهو يكاد يرى خلف الحروف كائنات تتربع على الأغلفة أو تطل من بين الصفحات ،يكفى أن تقرأ عنوانا لكتاب حتى ينتصب أمامك جني أو عفريت ، وبحسبك أن تستعرض فقرة منه حتى تتداعى إلى مخيلتك عوالم ما أنزل الله بها من سلطان ، تأخذك العناوين المصحوبة بالرسوم لتلقى بك فى كهوف الزمن حيث تسكن الأساطير ، وبعد لحظات تفيق لتجد نفسك إنسانا تتزيا بزى أبناء القرن الحادى والعشرين وتقف فى مكان يفترض أنه يجمع حصاد الخبرة الإنسانية ، وحصيلة الحكمة البشرية ، بعد رحلة طويلة يكون قد تخلص فيها مجرى النهر الإنسانى من نفاياته . غير أن الأنفاس المصَّاعدة من الكتب المرصوصة تخنق الأنفاس ، وتجعلك توقن بأن الإنسان العربى قد تفرد بكونه كائنا بلا تاريخ ، فهو دائما يبدأ من نقطة الصفر ، وهو دائما يهدر قيمه النبيله والجميلة ، ولا يتشبث من التراث إلا بالنفايات والفيروسات .
إن نسبة هائلة من الكتب المعروضة تعادى العقل فى الوقت الذى لا يكف فيه أصحابها عن التأكيد بأن الإسلام هو دين العقل ، كتب تعالج الفيروسات والسرطانات بقراءة بعض الآيات .. كتب تتصور أنها تخدم الإسلام حين تؤسلم العلوم والفنون .. كُتّاب يمسكون بميزان الإسلام يزنون عليه المفكرين والأدباء والكتب و المجلات ، وينالون الهبات المادية والدرجات العلمية مكافأة لهم على تكفيرهم لغيرهم ، ولم نجد واحدا يمسك بالميزان نفسه ليثبت براءة مفكر أو أديب أو كتاب أو مجلة . فميزان الإسلام جاهز فقط لإثبات تهمة التكفير لكل من تسول له نفسه اقتراف جريمة التفكير .
هذا الارتماء المرضى فى حضن الماضى يقعدنا مشلولين فى غرف الطفولة المبكرة المركزة بعد أن دُّربت عقولنا على الانجذاب فقط إلى فيروسات التراث ، نربيها وننميها ، ونهلل لتناسلها الفئرانى ، وننتشى بانتشارها السرطانى .
تحولت أمتنا الى مزرعة للفئران ويمكنك أن ترى هذه الفئران مجتمعة على أغلفة الكتب وبين صفحاتها تتباهى بنفسها ،حتى ليخيل إليك أن عبقريتنا باتت تتلخص فى سباق إنتاج الفئران .. كلما تأملت أسماء المؤلفين الناقلين المخربين المخرفين مرصوصة على كتب أغلفة غالية الثمن رخيصة القيمة أجدنى أردد مع صلاح عبد الصبور :

"عَبَثٌ والأيام تَجِدْ
كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السِّفلة والأوغاد "

ثم أواصل الترديد مع بعض التحوير :
كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السوس والفئران

الأمة تتآكل بفعل السوس الذى ينخر فى عظامها ، والفئران التى تقرض بذورها وجذورها . على أغلفة الكتب تجمَّعَ ذباب ، ومن بطونها أطلت فئران صراصير كلاب ، ضفادع دببة ذئاب ، سعالى ثعالب ثعابين ، قردة دببة نسانيس . ثمة ثعابين تنفث سُما ، ثمة ثعالب تبرز فى ثياب الواعظين تسب الماكرين وهى ترقب مجيء الديك المؤذن . ثمة جُرذان تقرض أولا بأول الخيوط البيضاء التى تتخلق فى رحم الفجر ، ثمة صراصير تصر على مواصلة تلويث مياه النهر ، ثمة ضفادع يحجب نقيقها صوت العقل ، ثمة أصنام تؤهلنا ولائم للذئاب ، وهى تفرك المسابح وتتمتم بآيات الكتاب ، وكما يقول مريد البرغوثى :

" صَنَمٌ ومِسْبَحَةٌ من اليُسْرِ المُتَوَّجِ بالذهب
مُتربِّعٌ فى فرو خاروف
ويقرأ ما يشاء من الكتاب
فى عينه وَرَعٌ، وعينه الأخرى تؤهلنا ولائم للذئاب "

كتب تفسر الأحلام على الصفحات ، وأصنام تفسرها فى الفضائيات ، ثعبان أصلع يحذرنا من الثعبان الأقرع ، و ثعبان أصلع آخر أُوتى مالم يؤته الأنبياء جميعا فى تفسير الهواجس والكوابيس . كتب تتمسح بالدين ، وتتاجر بالدين ، وتتخابث بالدين ، وتزايد بالدين ، وتنشر الجهل باسم الدين ، وتتهالك وراء مكاسب رخيصة تحت ستار الدين ، وتمارس أبشع عملية اغتصاب باسم الدين . وهل هناك أبشع وأفحش من اغتصاب عقل أمة ؟!
هذه هى الثقافة التى تفوح رائحتها فى قاعات معرض الكتاب ..ثقافة ما يقال .. لا ما يفعل .. ما يقال مثلا عند دخول المرحاض ..لا ما يفعل عندما تنزلق القدم فتنكسر ومعها العمود الفقرى .مئات الكتب عن شرعية إطلاق اللحية ، ولا كتاب عن أهمية إطلاق سراح العقل ، مئات الكتب المشغولة بالشعرات الثلاث عن كوارثنا التى لا نهاية لها ، مئات الكتب عن أهمية التوجه الى الله بالدعاء بوصفه الدواء لكل داء ، ولا كتاب عن أهمية التوجه الى الله بحصيلة الأعمال .. وكأن الله – حاشا لله – يسمع الأقوال ولا يكترث بالأعمال .. الثقافة التى تعفى نفسها من علاج أمراضها فتفسر البلاء – أىُ بلاء – على أنه ابتلاء ، وبما أن الله هو المبتلى ، إذن فنحن برآء ...
لقد استمرأنا السكنى فى خيمة الماضى لأنها تعفينا من بناء بيت يليق بالحاضر ... يؤكد معرض الكتاب أن العقلية القرن أوسطية مازالت تحكمنا وتتحكم فينا وتجرنا من رقابنا لنجتر أعشابنا البالية فى كهوفنا المظلمة . لقد تحولنا بفعل هذه الثقافة وبفضلها إلى مساكين وأبناء سبيل نستجدى طعامنا وشرابنا وكسوتنا وجميع احتياجاتنا ، نعم نحن حقيقة لا مجازا مساكين وأبناء سبيل القرن الحادي والعشرين ، وافتح ما شئت من قواميس لتتأكد من أن تعريف المسكين وعابر السبيل ينطبق علينا كأمة دون غيرنا . لكن حتى هذا لا يثير النخوة ، تثار النخوة فقط عندما تُمس قدسية شعرة من الشعرات الثلاث أو قدسية الحجاب أو النقاب ، لأن شرف الأمة سيظل قضية فيها نظر . إن تخلف الأمة - المنكر الأعظم من كل المنكرات - لا يستحق عناء تأليف كتاب مما يعرض فى معرض الكتاب .
فما بالنا وقد أصبح الفكر الدينى لدينا هو بوابة الدخول فى كهوف الزمن المظلمة ، بينما أصبح الفكر نفسه فى بلد مثل ماليزيا بوابة العبور للمستقبل المضئ والمشرق ؟!
فإلى متى سنظل سعداء ببلاهتنا ، بؤساء فى جوهرنا وحقيقتنا ؟ وإلى متى سنظل تلك الأمة التى تضحك من جهلها الأمم ؟!

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code