أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

أنا .. وطلاب الإخوان

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

ما حدث مؤخرا من طلاب الإخوان فى جامعة الأزهر يجعلنى أستعيد تجربتى مع أقرانهم فى كلية الآداب بكفر الشيخ حين كنت مشرفا على الكلية لمدة ثلاث سنوات (2003 – 2006) .
كنت أتفهم الثوابت الفكرية التى ينطلق منها هؤلاء الطلاب ، وكثيرا ما كانت تفرض طبيعة الموضوعات الأدبية التى نعالجها فى المحاضرات طرح قضايا دينية كانت تثير نقاشا يتباين رد فعل هؤلاء الطلاب إزاءه ما بين مقتنع أو متظاهر بالاقتناع ، ومنهم بالطبع من كان يتشكك فى نواياك ، ومنهم من كان يعتقد بأن رأيك يمثل اعتداءا على عقيدته ، فيهب مدافعا عن هذه العقيدة ، مبديا استعداده للتضحية فى ذلك حتى بمستقبله الدراسى .. وكنت أبتسم مراهنا على ما سوف تؤول إليه هذه العقول الغضة بعد تعرضها لعوامل التعرية الفكرية .
لم أنس أن هؤلاء الطلاب كانوا بذورا نمت فى مناخ ملبد بغيوم داكنة أسقط مطرا أسود على تربة متكلسة ، تجمعت هذه الغيوم من ثلاثة اتجاهات :
1- اتجاه داخلى عقب الانكسار العسكرى والسياسى فى ستينيات القرن الماضى ثم ما أعقبه من أفول اجتماعى متزامن مع ما سمى بانفتاح اقتصادى انشطر المجتمع إثره إلى فئتين : فئة الأغنياء الذين ازدادوا غنى ، وفئة الفقراء الذين ازدادوا فقرا ، وبضياع الطبقة الوسطى أصيب العمود الفقرى للمجتمع بالهشاشة والرخاوة وعدم الاتزان .
2- اتجاه عربى حين هبت علينا رياح شرقية من البلاد النفطية محملة بكاسيتات أوربية تبث عبر أشرطتها الثقافة البدوية التى يفترض أننا تجاوزناها قبل ألف عام .
3- اتجاه غربى كانت خططه جاهزه لاحتواء المنطقة ، وبمباركة عربية هبت هذه الريح الغربية لتنقل إلى أرضنا أدوات الإذلال والقتل والقهر وسرقة الثروات على المكشوف .

اختلطت هذه الخلطة بما نحياه على صعيد الواقع المباشر من تخليط تسلل إلينا فى ثوب البطالة والزحام والتلوث والفساد والتزوير والعرى .
لم أنس أن الجيل الذى أخاطبه ، فى هذا الواقع تربَّى ، وعلى هذه التربة ترعرع ، وتحت هذا السقف تنفس ، وأنه لم يكن أمامه سوى رداء الدين يتدثر به ويحتمى وراءه ، غير أن حظه هذه المرة لم يكن أفضل حالا ، وذلك حين وقع فريسة فى قبضة وعاظ الحكايات والتجليات والكاسيتات والبكائيات والخزعبلات .
كان الجو الملبد بكل هذه الغيوم كافيا لأن ينحسر وجه الإسلام البشوش ليستشرى شكل من التدين المغشوش ، تدين هو أشبه بالوباء ، لأنه يفتك بالإنسان أكثر مما تفتك الانفلونزا بالطيور ، تدين يختزل المرأة فى كونها مجرد حرمة ، يحرِّم الفنون ، يكسر التماثيل ، يحرق قصائد الغزل ، يغلق الأبواب والنوافذ فى وجه الآخر ، أى آخر ، وإن كان الصديق أو الشقيق ، تدين ضيق الأفق وضيق الصدر ، لا يرى الإسلام إلا من خلال ما رواه أمراء الجماعات ، وما سمعه من أبواق إعلام السلطة ، أو من شرائط مفروضه على سائقى الميكروباصات ، وما قرأه من كتيبات تحمل فى طياتها شتى أنواع الفيروسات، وما شاهده من فضائيات شغلت نفسها بتفسير أحلام الليل لأنها جبنت عن تعليل كوابيس النهار .
التدين المهووس بالثلاث شَعْرات ؛ شعرة اللحية ، وشعرة الشارب ، وشعرة الراس ، نصف وقتنا ننفقه فى مناقشة الآراء المتعلقة بإحدى هذه الشعرات ، والنصف الآخر ننام فيه لنستيقظ استعدادا لاستعراض الآراء المتعلقة بالشعرة الثانية ، وبعد أن نفرغ من استعراض الآراء المتعلقة بالشعرة الثالثة نكون قد نسينا ما قلناه عن الشعرة الأولى ، فنظل نكرر ونعيد دون أن نفطن إلى أنه لا جديد ، وتتكرر أيامنا وليالينا دون أن نمل التكرار أو نعاف الاجترار ، متشحين بوشاح حماة الإسلام وحراس العقيدة !!
ومن فرط انهماكنا فى مناقشة قضايا "الشَّعر" انفصلنا عن "الشِّعر" ، أى انفصلنا عن الشعور ، فانعكس هذا على ممارستنا للطقوس الدينية ، نتعامل مع الصلاة والصوم والزكاة والحج كما نتعامل مع "الشَّعر" ، تعامل خارجى ، بارد ، منفصل عن الداخل ، استحالت الطقوس إلى قشور ، وهذا ما يفسر ما نبذله من جهد جهيد لتظل القشور براقة ، وهو جهد لا نبذل عُشره فى تطهير النفوس أو القلوب التى فى الصدور .
خذ مثلا (الصلاة) ، تجدنا نحرص حرصا شديدا على التوسع فى بناء المساجد ، بل يحرص الكثيرون على أن تكون لهم مساجدهم الخاصة داخل منازلهم ، أو تحت عماراتهم ، وبالتالى لهم مؤذنوهم وخطباؤهم ، وما زلنا نحرص على بناء المآذن ، رغم أن الميكروفون قد تكفل بمهمتها ، ويبدوا أن الكبت الذى تعرضنا له خلال تاريخنا الطويل ، والذى حبس أصواتنا وقمع أرواحنا – يبدو أن هذا التاريخ قد تجاوب مع هذا الاختراع – فوجد فيه وسيلة للتنفيس عن القلوب الموجوعة ، ومن هنا كان الاحتفاء الشديد بهذا الاختراع فأصبح يتولى نقل الشعيرة من البدء إلى الختام ، وأحيانا قبل البدء وبعد الختام ، لا نفرق فى ذلك بين صلاة أو أذان ، ونحن على استعداد لأن نغض الطرف عما نهانا الله عنه من الجهر بالصلاة ما دامت هذه الوسيلة تشفى "صدور قوم مؤمنين" حين تملأ الأصوات المتموجة لا آذان المصلين فحسب ، ولكن آذان أهل الحى والأحياء المجاورة ، ونحن فى سبيل ذلك أيضا على استعداد لأن نغض الطرف عن اشتباك أصواتنا بأصوات عشرات الميكروفونات الأخرى ، وأنه لا أحد يسمع غير الضجيج سواء من أهل الحى أو من المصلين الذين يعجزون عن الصمود أمام الغزو الميكروفونى الآتى إليهم من بعيد ...
وأتساءل ، ماذا يبقى لنا من مثل هذه الصلاة غير الركوع والسجود ، ونستطيع أن نقول مثل هذا الكلام عن الشعائر الأخرى ... ثمة فائض فى التدين ، يقابله نقص فاضح فى الدين .
لهذه الأسباب ولغيرها كنت أصارح طلاب الإخوان بأن عقولهم أصغر من أجسامهم ، وأنهم بحاجة إلى تشكيل عقولهم ، بالانفتاح على الثقافة الإسلامية بكافة روافدها الصحية ، وعدم عزل هذا عما يدور حولنا من ثقافة الدنيا الواسعة ، قلت لهم بأننى كنت فى مثل سنهم صورة منهم ، وأننى الآن أستغفر الله عن العقول التى أفسدتها بسبب أفكارى التى كنت أبثها عبر خطبة الجمعة .. وضحاياى كانوا أهل قريتى الطيبين الذين كم أثنوا على علمى ، ودعوا الله أن يزيدنى !!
حكيت لهم حكايتى وأنا أتحول من فكر إلى فكر ، ومن رؤية إلى رؤية مغايرة ، وأنه ليست ثمة رؤية نهائية ، فالرؤى النهائية مغلقة ، كل الرؤى مفتوحة على ما سوف يجد ، حكيت لهم قصة المنحنيات الفكرية التى تعرض لها مفكرون وشعراء كبار مثل أبى العلاء ، وصلاح عبد الصبور ، وأنه كما لا يستحم المرء فى النهر مرتين ، كذلك الأفكار تتعدل وتتهذب وقد تتحول من النقيض إلى النقيض ... وأنه كلما ازداد المرء علما كلما قلَّ يقينا ، أعلمُ الناس هم الذين ينبذون لغة الحسم والقطع ، وأجهلُ الناس هم الذين يحسمون ويقطعون ، وذلك لأنهم لم يروا فى محيط الكون إلا قطرة تصوروها الكون كله .
قلت لهم : إننى أثق أن كلا منهم سوف يستحى من نفسه عندما يتذكر بعد بضع سنين ما كان يتحمس له الآن متصورا أنه صحيح الدين .. أعظم خدمة يمكن أن نقدمها للدين هى أن نفهمه كما أنزله الله ، لا كما بصقه الأدعياء من سموم فى الرؤوس ، ولا كما تطلقه الحناجر من قذائف عبر الميكروفونات .
لم أكن أضيق بهم ، أو أضيِّق عليهم ، لم يطلبوا شيئا إلا لبيته بصرف النظر عن درجة قناعتى ، وكنت أحرص على دعوة ضابط الحرس لحضور لقاءاتنا ، وذلك لكسر الحاجز النفسى المترسخ فى نفس كل طرف تجاه الآخر .
هؤلاء الطلاب بحاجة إلى العطف والتعاطف ، بدلا من استنكار أحوالهم واستنفار الجهات الأمنية ضدهم ، لكن لابد أن نعترف أن صلاحهم جزء من صلاحنا ، فهل نحن قادرون على إصلاح أنفسنا ؟.

د أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب المتفرغ بآداب طنطا
mymail@drahmedonline.com

تعليقات القرآء

كتب فارس سالمان فى الاثنين 27 ديسمبر 2010

معذرة يا دكتور ما تتكلم عنهم ليسوا إخوانا مسلمين وإنما من الجماعة السلفية التي تهتم بالقشور وتترك لب الإسلام

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code