أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

المثقف النفعى .. وجلطة المخ

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

حين تعقد السلطة السياسية زواجا عرفيا بغير شهود مع السلطات : الإجتماعية ، التعليمية ، الإعلامية ، الدينية ... انها تنجب ملايين الشياطين التى يتلبس كل واحد منها جسد انسان عربى يتولى بهمة مهمة قمعه جسديا ونفسيا وروحيا . ثم ينتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الانسان مجرد مسخ شائه ...

أما أصداء هذا الخطاب فى الخطاب الشعرى ، فقد أشرت إلى أن مجمل الرؤية المنعكسة فى الشعر الحديث كله تعكس هذه الأصداء فى صور متعددة ، لكن قصيدة بعينها هى قصيدة (الشعر والرماد) لصلاح عبد الصبور يمكن أن تكون النموذج المثال . حين أتيح للشاعر فرصة السفر إلى مانيلا (عاصمة الفلبين) ، هاله أن يرى الانسان هناك بريئا .. نقيا .. صافيا .. لم يفقد براءته ، ولم يزل يحتفظ بتفائله وأمله وابتسامته وقدرته على تغيير شكل الحياة ... ويجد نفسه يعقد مقارنه بين الانسان الذى تربى فى حضن القيم العربية والانسان الجديد الذى يراه ، فى مانيلا ، الانسان الذى لم يزل متشبثا بالحياة ، مستمتعا بها من خلال تشغيل كل حواسه بينما قرينه العربى قد تعطلت فيه كل الحواس فلم يعد قادرا على أن يرى أو يسمع أو يشم أو يعبر ...

وها هو الشاعر يحكى لندمانه الذين ينتظرونه فى بلده عن الحكمة التى تعملمها فى مانيلا :

أعطتنى مانيلا
شيئا من حكمة مانيلا
أعطتنى أن الفمَ لم يخلق إلا للضحك الصافى الجذلان
أعطتنى أن العينين
مرآتأن يرى فى عمقهما العشاق ملامحهم
حين يميل الوجه الهيمان على الوجه الهيمان
أعطتنى أن الجسمَ البشرىّ
لم يُخلقْ إلا كيْ يُعْلِنَ معجزته
فى إيقاع الرقص الفرحان
درسٌ عرفته روحى بعد فواتِ الأزمان
بعد أن أنعقد الفمُ بضلالات الحكمة و الحزن ..
وأُرخى سِتْرُ القلق الكابى فى نافذةِ العينين
وتصلَّب جسمى فى تابوتِ العادةِ والخوف

ثم تساءلت : لئن كان عبد الصبور قد أدرك الدرس بعد فوات الأوان ، فكم من العرب قد ولدوا وعاشوا وماتوا دون أن يدركوا الدرس ؟! . أنها مأساة المريض الذى يعيش ثم يموت دون أن يدرك شيئا عن طبيعة الفيرس الذى أصابه ، ولا حجم الضرر الذى ألم به ، ولا كيف حدث ، وليقينى بأن ثمة مسئولين عن تفريغ الانسان العربى من أنسانيته ، وتحويله إلى مجرد شئ معطل الحواس تساءلت :

من سرق شمعة الفرح من قلوبنا ؟
من سرق جمرة الإبداع من عقولنا ؟
من سرق بريق الأمل من عيوننا ؟
من سرق رقصة الحياة من أجسادنا ؟
من سرق ورد الإبتسام من فوق شفاهنا ؟
من سرق الحرارة من دمائنا ، وأصاب هذه الدماء بارتفاع الضغط ؟
من سرق أمخاخنا ؟ ، ومن قبل أصاب هذه الأمخاخ بالجلطات التى أعطبتها وأبطلت مفعولها ؟

--------

لم أكن لأتقاعس عن تلبية الدعوة الكريمة التى قدمت لي من زملاء فضلاء فى الجامعة الأردنية (كلية الآداب) لحضور مؤتمرها الدولى ،
لاسيما أن موضوع المؤتمر هو "آفاق جديدة فى الخطاب" .. فأنا من المهمومين بها الخطاب ومن المنكوبين به صباحا ومساء وخميسا وجمعة وسبت ويكفى أن تطالع صفحات ما يسمى بالصحف القومية فى صباح الخميس والجمعة والسبت ،ويكفى أن تستمع إلى أحد الخطابات الدورية التى توصف دائما بأنها تاريخية وتوصف حروفها بأنها ملهمة ...
ويكفى أن تخرج متأخرا فى يوم الجمعة وقد عزمت على أداء صلاة الجمعة ... يكفى أن تتأمل فى نوعية النبرات الصوتية لخطباء مغاوير ، وكيف ينطح الكلام الكلام كما ينطح الخروف جروا تجاسر واقتحم مجاله الحيوى ... خرق المجال الجوى متاح لكل خطيب مادام يمتلك مكبر صوت أو أكثر ، بل لعله يزداد شعورا بالغبطة والسعادة كلما بلغه صدى صوته يتردد بعد أن يكون قد طاف بأركان المدينة ركنا ركنا .. خرق المجال الجوى الحيوى وخرق الآذن والحواس وخرق البصائر والضمائر وكل ما وكل مما اتفقت الهيئة الاجتماعية عليه من "ذوق" و "إحساس" شىء عادى وطبيعى جدا عند حكمائنا من أخطاب الخطاب الدينى ... أما عن الخطاب التعليمى أو الإعلامى فحدث ولا حرج ... وحسبك أن تتأمل المخرج التعليمى فى آل بيتك أو الثمرة الإعلامية فى أبنائك ... هذا الخطاب .. العربى هو همى بالليل وذلى بالنهار ... وإدأنتى لهذا الخطاب هى إدانة لكل ما يزيف الوعى ويعطب الأحاسيس والمشاعر .. وهى ر غبة فى استعادة البراءة المفتقدة للانسان العربى ، فإدانتى للخطاب العربى هى فى الأساس دفاع عن الانسان العربى الذى يدفع ثمن تزيف هذا الخطاب وتضليله وخبثه ..
لكن المؤلم أن تجد من تدافع عنهم ينقلبون عليك ،أن من تستعين بهم على فضح عورات هذا الخطاب هم أول من يقف فى مواجهتك متهما ... ومعاديا وموبخا .
وكنا قد أخلينا مكانين لأستاذيين : أ.د عبد الحليم عويس باعتباره وكما يجب أن يقدم فنه ، وأستاذ الحضارة الإسلامية ليكشف لنا العبث الذى تتعرض له الحضارة وكذلك الاسلام فى الخطاب العربى ... أما ثانيهما فهو أ.د عبده الراجى ليكشف لنا باعتباره أستاذ اللغويات وعضو مجمع اللغة العربية . كيف تغتصب اللغة فى الخطاب العربى ، وكيف ينتهك معها حرمة الدين وحريات الشعوب .. وكيف يستفحل الفاسدون ليغتصبوا شرف الأمة عن طريق التوظيف النفعى للغة ... فاذا بهما يتقلبأن علينا نقدا وتجريحا وكأننا قد ارتكبنا الجرم الذى نستحق معه أن نعدم فى ميدأن عام ...

وهنا المفارقة بين مثقف نفعى لديه الإستعداد للتضحية بالحضارة وبالإسلام وبشرف الأمة كلها لقاء دخل يضاف إلى رصيده حتى ولأن تمثل هذا الدخل فى وجبة غذاء على حساب طالب كادح إستدأن ثمن هذه الوجبة من جاره ..وبين مثقف محرض أفنى عمره كله يرجم الفساد والفاسدين بالحجارة ... ثم يتعرض هو نفسه للرجم ممن يرتدون ثياب الطهر والطهارة ... هنا يكون ........ مما حاق بنا من فساد فى منظومة خطاباتنا السياسية والدينية والإجتماعية والتعليمية والعلمية والإعلامية أهون كثيرا مما نتعرض له من غمز ممن يفترض أنهم يقفون معنا فى خندق واحد بحكم وحدة الهموم وبحكم آصرة الثقافة التى تجمع بيننا ... أرى أن مهمتى الأساسية هى أن أعلم الحرية للمضطهدين والمقهورين من أبناء الأمة .. أرى أن مهمتى هى ..... لهذا الأنسأن العربى ،المادة الخام الوحيدة النى لم تستخدم الإستخدام الجيد رغم بكارتها وقوة عافيتها ... فإذا بالمثقفين النفعين يقفون فى وجوهنا ويوجهون طعناتهم فى رؤوسنا ، ويحرموننا من أن نوجه ما نعرفه بخدمة أبناء هذه الأمة .. أنهم المثقفون الذين يملكون ولا يعرفون .. ولا يريدون أن يتركوا من يعرفوا لكى يوظفوا معارفهم ، وهذا هو أحد الأسباب القوية للأنحطاط دور الجامعات .. إذ كيف يمكن أن يسهم المثقف النفعى فى توعية الناس وقد أصبح يعمل – دون أن يدرى – ضد مصالح الأمة لهذا الوعى الزائف ، الوعى الذى لا يوقظ النيام بقدر ما يخدرهم ويسهم فى تجميل الباطن وتزوير إرادة أهله والتأمين على كلام البغاة ...
وكأن تلاميذ هؤلاء ينتظروننا فى عمأن .. ولكى تكتمل أركأن المفارقة ..أن تلاميذ أستاذ الحضارة الإسلامية كأنوا فى أنتظارنا فى عمأن ... وأجزم أنه لن يسعد بما قيل عنه من تلاميذه فى الجامعة الهاشمية وهو ما أعاد إلى ذاكرتى قول زهير : "ومهما تكن عند إمرىء من خليقة ، وأن حالها تخفى على الناس تعلم"
أن الجذور التى نلقيها فى عقول طلابنا اليوم هى ما سنحصد ثمارها غدا ولا أحب أن أستشهد بآيات من القرأن حتى لا يضعنى التصور القرأنى فى مكأن قد لا أستحقه حين أستشهد بلمثل القرأنى المعروف فى التفرقة بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ..... أن هذا أسلوب يجيده أساتذة الحضارة الإسلامية حين يستهلون حديثهم بالقرأن .
" اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه"
وهو توظيف ماكر ، لأنه يوحى للمستمع بأنالمتكلم يمتلك الحقييقه المطلقة وهذه الحقيقة ليست بشرية المصدر ،لأن الله هو الذى أراه إياها والخطورة هنا هى التوحد بالله ، أى أن يصبح هو والله كيأن واحد .. أى أنه مادام الله هو الذى أراه الحق حقا ورزقه إتباعه، فالمعنى الضمنى الذى يترتب على ذلك أنه أصبح جزاء لا يتجزء من الحقيقة الإلهية ... وهذا هو نفسه الإحساس الذى يتطور إلى أن يتطرف فى مقولة:أنا وحدى أمتلك الله،ويا ويل الآخر الذى كأن الباطل من نصيبه .. دون أن يمتلك الحظوة الإلهية بأن يريه الله الباطل باطلا وأن يورثه ..... .. هذا هو الآخر أى آخر لا يعجب أستاذ الحضارة الإسلامية ..
ولأن تجاسرت أنت ودعوت أبناء الأمة لإعادة النظر فيما لديها من تراث لفرزه وغربلته ، وجدته يتوجه اليهم آمرا :" ثقوا فيما عندكم " ،مذكرا إياهم بتجربة اليابأن فى الحفاظ على هويتها .. ناسيا أن اليابأن لم تحافظ على هويتها إلا حين غربلت تراثها وقبضت على الجمر أى الجزء الحى فيها ، وداست على الرماد أى العضو الميت الذى لم يعد قابلا للحياة او قادرا عليها .. غير أن أفضل ما قاله استاذ الحضارة هو أننا بحاجه بأن نفقه ذاتنا .. وأنه لكى تفقه ذاتك لابد أن تنقى داخلك
وأثق انه لو ان أستاذ الحضارة قد وضع العبارة الأخيرة وضع التطبيق وأستطاع أن ينقى داخله واستمع إلى خطابنا من الخطاب العربى ليس ببراءة الأطفال ، ولكن ببراءة الفلاحين الذين لم يلوثهم التعليم فى قريته ،لكان صداه مختلفا كثيرا ولرأى فيه مالم تره عيناه ، ومالم تسمعه أذناه ، ومالم يعيه قلبه حين استمع فاستجاب لنزوة الهدم ونزعة السخرية الكامنة فيه ..
غير أن أستاذ الحضارة لم يكن ..... ان يشرفنا حين جعل أفكارنا ترديدا لأفكار عبد الله الودى ومحمد أركونى ، فهذه تهمة لا نردها وشرف لا ندعيه ، لكنه يرى أن ثمة مشكلة فى أفكار الرجلين وهى أنهما يشرحان الدين كما يشرحان البصل .. والحقيقة يا أستاذ الحضارة أنهما ليسا معنيان بتشريح الدين ، ولكنهما معنيان بتشريح أفكار المثقفين النفعيين ومحاولاتهم البائسة فى إخفاء نواياهم الشريرة وجشعهم البغيض بأستار دنيئة .. ولكن لأن بعض هؤلاء المثقفين البؤساء قد توحدوا مع الله وظنوا أنفسهم جزء من الحقيقة الإلهية ،فمن الطبيعى أن يتهموا من يتعرض لهم بالكشف والفضح بأنه يشرح الدين ومن الطبيعى أن يسخروا من طريقته فى الفضح وتشبيهه بمن يشرح البصل ، لكن الصالح يقتضى ياسيدى ألا يتوقف المشرحون عن تشريحهم لأى شىء ما دام هذا التشريح سيؤدى الى كشف المستور من النوايا الشريرة ، من الغرائز الشاذة ، ومن الفكار المزورة ، ومن أن أخبث أنواع الثقافات ، هى تلك التى تزور وتجمل وتخدر وتأمن ، وأعجب رغم كل هذا الفساد الذى يحيط بنا .. وكأنه لا توجد مشكلة ، وكأن الأمور قادمة بخير .. رحم الله كل مثقف يمسك بجرس إنظار محزرا قبل أن تغرق عبارة الوطن ، ورجم الله بحجارة من سجيل كل مثقف دافع عن صاحب العبارة حتى بعد أن رأيناها تغرق ويغرق معها الآلآف من المصرين البؤساء عبارة الوطن توشك على الغرق يا أستاذ الحضارة ، فماذا أنت قائل ؟ ، أنا واثق أنك متفائل ... وستظل سعيد بتفائلك ، وسنموت بجلطة المخ أشقياء بالمثقفين النفعيين اللذين يتقلبون ليس على الفساد والمفسدين ولكن على من يكشفونه يكشفونهم .. هؤلاء هم من أصابوننا اليوم بجلطة المخ ، وهم أيضا اللذين سيصيبون غدا مخ هذا الوطن بجلطة قد لا تقوم له قيامة بعدها ...

تعليقات القرآء

كتب محمود عادل فى الخميس 22 نوفمبر 2012

مشكور يا دكتور على مجهودك الرائع في هذا المقال :)

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code