حالات متعددة ... أم حالة واحدة
أضيفت فى الجمعة 06 فبراير 2015
ثلاث مرات فى حياتى الجامعيه التى امتدت لأكثر من ثلاثة عقود و نصف ، عجزت فيها عن السيطرة على نفسى ، ووجدتنى أندفع غاضبا ملوحا بيدى ، ومتفوها بكلمات لست معتادا على التفوه بها ، وذلك رغم ما ألزمت به نفسى من ضرورة كبح مشاعرى والتحكم فيها.
غير أن ما تعرضت له فى هذه المرات الثلاث كان أشبه بزلزال هز كل أعمدة الضبط و الربط و رباطة الجأش وأدوات الكبح والتحكم التى تصورت أننى حصنت نفسى بها ، فأصبحت بمأمن من الانسياق فى تيار المشاعر المنبثقة من المواقف المباغتة أو الظروف الطارئة .
أما الموقف الأول فكان فى آداب كفر الشيخ ، و كنت أدرِّس قصيدة خمرية لأبى نواس ضمن مقرر الأدب العباسى ، إذ لاحظت أن طالبة منقبة تجلس فى آخر الصف قد بدا عليها التوتر والانفعال ، فبادرت بسؤالها إن كانت تريد شيئا ، فهبت واقفة معلنة استياءها من الموضوع جميعه ، إذ إنها كانت تتمنى أن تسمع شعرا يحض على الأخلاق و الدين ، و المعروف أن الخلط بين الأخلاق والدين فى درس الأدب خطأ جسيم ، غير أن سلوك الطالبة دفعنى لتأمل الموقف من جديد .. وقد شرعت بالفعل فى البحث عن طبيعة العلاقة بين الفن والأخلاق فى ضوء الحالة النواسية ، انتهيت إلى نتيجة مؤداها : "إذا كان أبو نواس قد تخلى عن كل فضيلة ، فحسبه أنه قد تحلى بفضيلة الصدق ، ولئن كان صدقا يندى له الجبين ، إلا أنه يَفْضُل كذب المحسوبين –خطأ- على الأخلاق والدين .
وهكذا لخصت من خلال هذا البحث القول فى هذا الفصيل الذى أراد للشعر أن يكون عبدا للأخلاق ، وبدا لى أن أبا نواس بكل مجونياته أفضل من هؤلاء الذين اختزلوا الدين فى القشرة التى تستر أجسادهم . غير أننى آثرت أن أعبر عن استيائى من أجواء التجريم والتحريم التى شاعت فى المجتمع عامة وفى الجامعة خاصة من خلال عبارة قالها صلاح عبد الصبور على لسان "الأستاذ" فى موقف مشابه من مسرحية "ليلى والمجنون" ، قال وأقول :
" لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السفلة و الأوغاد " .
أما الموقف الثانى فكان فى آداب طنطا ، و ذلك حين أُسند إلينا -نحن أساتذه قسم اللغه العربيه- تدريس مادة الأدب العربى للأقسام غير المتخصصه ، و قد اخترت قسم الآثار ، و ذلك لما تربطنى به من علاقة حميمة سابقة ، كنت أحرص على مرافقة طلابه فى رحلتهم السنوية إلى مدينتى الأقصر و أسوان ، فانعكس تقديرى للحضارة المصرية على طلاب القسم الذين ما إن بدأت أولى محاضراتى معهم حتى أخذت أحدثهم عن شغفى الشخصى بقسم الآثار ، و عن حظهم السعيد لأنهم -دون غيرهم من الطلاب- تتاح لهم فرصة التعرف على حضارتهم التى يتلهف العالم كله على رؤيتها . و فى الوقت الذى كنت أتحدث فيه بهيام و شوق عن آثارنا ، إذا بطالبة تفاجئنى بقولها : " إن الآثار كلها حرام ، و زيارتها حرام أيضا ".و لك أن تتخيل وقع كلامها البارد على وجدانى الساخن ، و لم أسألها بالطبع عن مصدر فتواها لأنى أعلم أن السفلة و الأوغاد الذين عاثوا فسادا فى البلاد ، وطفقوا ينثرون وصاياهم التى صادفت ، ضمن ما صادفت عقلا فارغا لهذه الطالبة المسكينة فاستقبلتها باعتبارها وصايا جديدة وفتاوى نهائية ، ولم يكن لديها أي مستوى من الحصانة الفكرية التى تجعلها تدافع عن بيتها الذى اختارته مجالا لدراستها .. وهكذا تصبح الطالبة ضحية لفكرة خاطئة ، وتظل متمردة على نفسها ودراستها ، وربما على أهلها وذويها ، ذلك أن المجتمع أصبح فى تقديرها كافرا ، وهو ينشئ قسما لدراسة الآثار الكافرة .
ولم أشأ أن يصدر منى رد فعل انفعاليا ، فآثرت أن أمرر غضبى من خلال عبارة صلاح عبد الصبور التى تنقذنى عادة من الانجراف إلى ما لا تحمد عقباه من الألفاظ أو التصرفات التى تليق بالموقف الذى أُوضع فيه ، فأقول :
" لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السفلة و الأوغاد " .
أما الموقف الثالث فقد حدث مؤخرا فى آداب دمياط ، و ذلك حين قادتنا محاضرة الأدب الحديث إلى المقارنة بين أغانى هذا الزمان و أغانى الزمن الجميل ، و ما إن ذكرت اسم رياض السنباطى باعتباره رمزا من رموز الزمن الجميل حتى لاحظت أن طالبة تجلس فى مواجهتى قد اربد وجهها ، وبدت عليها علامات القلق والاختناق ، فعلمت من زميلاتها -حين تساءلت عن تفسير لحالتها- إنها من مدينة فارسكور وتقع من رياض السنباطى فى منزلة الحفيدة ، ففرحت أن صادفت حفيدة الموسيقار العظيم الذى أمتعنا وأسعدنا وقدم لنا فنا رائعا وجميلا ، وتوقعت أن تتحدث الطالبة عن جدها متباهية بانتسابها اليه ، غير أننى فوجئت بها تقول بغضب مقتضب : "إن الموسيقى حرام" !!! ، ولك أن تتخيل حالى أنا الذى ما ان ينتهى من صلاة الفجر حتى يهرع إلى صوت رياض السنباطى يلوذ به متوسما يوما سعيدا محمولا علي صوته ، أو على نغمات عوده ، أو على الشجن الصادر من أوتاره مغموسا بصوت أم كلثوم ، لقد تجمع غضب الدنيا كله فى صدرى ، لكن عبارة عبد الصبور تكون دائما ملجأ و ملاذا أنفث من خلالها ما تراكم فى نفسى من غضب ، وما تزاحم فيها من اشمئزاز وقرف ، ولا ألبث أردد :
" لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب
هذا القدر من السفلة و الأوغاد " .
و مما يؤسف له أن هؤلاء السفلة و الأوغاد ، كانوا قد تربوا على أيدينا ، وصُنعوا على أعيننا نحن أساتذة الجامعات ... بدءا من أواخر سبعينيات القرن المنصرم حتى مطالع القرن الحالى ، و ذلك بالتزام الصمت إزاء حماقاتهم ، أو بتجنبهم باعتبارهم كائنات ضارة ، أو فى مجاراتهم و إبداء الرضا عن أفكارهم ، أو نفاقهم و تشجيعهم على المضى فى هذا الطريق .
نحن مسئولون -بشكل أو بآخر- عن نمو هذه الخلايا السرطانية فى جسد المجتمع ، وفى غفلة منا ترعرعت هذه الخلايا حتى أضحى اجتثاثها من تربة وادينا الطيب أمرا عسيرا .
ولئن كنت قد صادفت هذه الحالات الثلاث ، فمن المؤكد أن حالات أخرى عديدة ، مشابهة أو مماثلة ، قد صادفها غيرى . الحالات بالمئات أو بالآلاف ، لكنها فى الحقيقة حالة واحدة ، لأنها ترتد إلى جذر فكرى واحد ، ترويه وتغذيه مياه واحدة هي فى معظمها مياة آسنة آتية من فهم خاطئ لعقول قاصرة أخطأت قراءة ديننا الحنيف وتأويله ، وما أكثر الافتراءات التى تنسب إلى الدين ، والدين منها براء . لقد آن الأوان لأن نطهر ديننا مما شابه من فيروسات وفطريات لكى يعود نهر الدين صافيا ورقراقا كما بدأ ، وساعتها سينعكس هذا الصفاء على نفوس المصريين ووجوههم .
سيدي الكريم إن كان هؤلاء وأمثالهم قد شربوا مياه آسنة آتية من فهم خاطئ لعقول قاصرة أخطأت قراءة ديننا الحنيف وتأويله ، فلقد علمتنا أستاذي أن الاستسلام لمثل هذه الدمى الجوفاء جريمة يجب أن تجابه بالفكر المستنير،وأحب أن أطمئنك يا سيدي أننا على الدرب سائرون وبخطاكم مقتدون ، ولن ندع هذا الفكر الدخيل يخرب علينا عقولنا وعقول أجيال من الأمة ينتظر منها الكثير ، فشكرًا جزيلا أن علمتنا كيف نقارع الحجة بالحجة والفكر بالفكر ودمت لنا حصنا منيعا أستاذي العظيم