أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب ، جامعة دمياط
مقالات اكتوبريات مناقشات كتب صور سيرة حياة اتصل بي

الإنسان .. حيوان وبس

أضيفت فى الجمعة 19 نوفمبر 2010

من زمان ، كنت قد وطنت نفسى على تلقى طعنات الجحود من الأخرين ، وحصَّنتها لتصبح فى وضع الاستعداد دائما لتلقى هذا الحجود حتى من أقرب الأقربين ، ويرجع الفضل فى هذا ربما إلى تكوينى الشخصى ، وإلى إدراكى الذى كان ينمو عبر قراءة الكتب وتأمل الحياة . غير أن أبا العلاء هو الأستاذ الذى ساعدنى على كشف العورات النفسية التى مهما بالغ الناس فى إخفائها فإنها فى لحظة ضعف تعلن عن نفسها سافرة أو على استحياء .
من يعرف الناس يزهد فيهم .. هذه هى حكمة أبى العلاء :

وزهَّدنى فى الخلق معرفتى بهم وعلمى بأن العالمين هَبَاءُ

لا يعرف الناس من يُعوِّل عليهم ، أو يؤمِّل فيهم ، أو من يتوقع منهم أكثر مما تحتمل طبائعم ، والذين يكثرون الشكوى هم فى الحقيقة قليلو المعرفة ، ولو أن هؤلاء حاولوا أن يعرفوا الإنسان ، ولو من خلال تأمل صورتهم كما تنعكس على مرآة ذواتهم ، لأراحوا أنفسهم ، ولأدركوا أن الآخر لا يختلف كثيرا عنهم ، فهو يشبههم ، لكن الجهل هو الذى يصور لنا أننا أسمى من غيرنا .. لقد حرر أبو العلاء نفسه من هذا الجهل ، لذا لا نراه يشكوا الناس ، ولكنه يسخر من ضعفهم ومن جهلهم . إنه لا يكف –وهو الأعمى- عن التحديق فى نفوس الناس وتصوير ما يدور فيها من خلجات .. أبو العلاء هو الشاعر الذى استطاع بجسارته أن يهدم الجدران التى يقيمها الإنسان حول ذاته ليخفى وراءها عوراته .. لقد استطاع أن يزيح الأستار ، ويسلط ضوءا ، ويلتقط صورا لما ترسخ فى أعماق الإنسان من مشاعر ، وما ترسب فى قاع الوجدان من نقائص ونقائض .. التقط للإنسان صورا قبل أن يعطيه الفرصة ليوارى سوءته أو يدارى عورته .. قبل أن يكذب أو يتجمل .
أبو العلاء استطاع ببراعة ان يسبر أغوار الإنسان .. إنه الأعمى الذى رأى ما لم يره المبصرون .. وكم نحن بحاجة إلى أن نتعلم حكمة أبى العلاء بعد أن ضقنا وضاقت بنا الأرض ، فلم يعد أحد يحتمل أحدا .. لقد ضاقت الآفاق وطارت العقول وأصبحنا عبيد اللحظة ، ولم نعد نرى أفقا غير أفقنا ، وحيزا غير الحيز الذى نضع عليه أقدامنا ، وخَلْقاً غير أبنائنا ، وناسا غير من يلبون حاجاتنا .

لم يرض أبو العلاء عن الإنسان ، كان يود أن يراه وقد تحرر من عبودية المال والزوجة والطعام .. من عبودية الجهل والتعصب وحب البقاء . كان يحب أن يراه وقد تحرر من سجن الحياة ، ولو قُدِّر لأبى العلاء أن يلقى الآن نظرة علينا لازداد سخرية منا ، وهو يرانا نتعثر فى خطانا ، وقد كان قادرا أن يرى بعين الفيلسوف وبصيرة الشاعر احتفالية ميلاد الإنسان ، ثم بعد دقيقة يشهد جنازته .. ومن ثم فإنه لم ير معنى للغناء فى البداية أو جدوى من البكاء فى النهاية .. حياة الإنسان بطولها وعرضها وعمقها تستطيع كاميرا أبى العلاء الشعرية أن تختزلها ثم تبرزها واضحة وفاضحة .. فاضحة جهله وغروره وضيق أفقه ، فاضحة إحساسه الزائف بامتلاك الحقيقة المطلقة واليقين الحاسم ، فيما قضى أبو العلاء الشاعر الفيلسوف حياته يتخبط فى ضباب الشك ، وظلت حمامته تغمغم ، وظل هو يتساءل :

أبكت تلكم الحمامة أم غنــــ ــت على فرع غصنها المياد ؟

كانت أمنية أبى العلاء أن يرى مرتبة الإنسان وقد علت -ولو بدرجة- مرتبة الحيوان ، فلما وجدهما متشابهين نفض يده من الدنيا ، وأدار ظهره للحياة :
وجدتُ الناسَ فى جبلٍ وسهلٍ كأنهمُ الذئابُ أو الضباعُ
رجالٌ مثل ما اهترشت كلابٌ ونسوانٌ كما اغتلم الضباعُ

إن اليقين الوحيد الذى ترسخ فى عقل أبى العلاء هو أن الإنسان مثل أى ذئب أو ضبع ، لا يستحى وهو ينقض على حرمة عمه أو حتى أمه ، ضاربا عرض الحائط – فى سبيل تأمين مجاله الحيوي- بقانون الأخلاق والحق والواجب والضمير ، وسيظل مشغولا فقط بتبرير عدوانه وإقناع نفسه أنه على حق .


د. أحمد عبد الحى
أستاذ الأدب بكلية الآداب – جامعة طنطا

خطأ
شكرا

شارك بآرائك وتعليقاتك




CAPTCHA security code