مشاهد من حياة مقاتل
كنا نحن جنود إحدى كتائب المظلات قد تركنا موقعنا فى أنشاص لننتشر فى الصحراء المتاخمة لمدينة بلبيس استعدادا لمعركة أحسسنا بدنوها ، وكان ذلك فى الأيام الأولى من شهر أكتوبر 73.. وبعد ظهر السادس منه عبرت من فوق رؤسنا أسراب متتالية من الطائرات المصرية متجهة نحو القناة.. شهدناها فى الذهاب ثم شهدناها بعد أقل من نصف ساعة فى الإياب .. إذدادت مساحة الحدس فى نفوسنا لتصبح أشبه باليقين .. ولم يمض وقت طويل حتى أيقنا أن شرارة المعركة قد اندلعت مع عبور الطائرات التى مرت من فوق رؤوسنا ... وها هو الحلم الذى ظللت أحلم به منذ تاريخ تجنيدى (20/12/1967) قد تحقق .. تحقق أخيرا بعد ست سنوات ، اليوم فيها يساوى شهورا إذا قيس بحجم الجهد والتدريب والمعاناه المطلوب أن يبذلها جندى القوات الخاصة فى مرحلة دقيقة كان الشعار المرفوع فيها هو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ، وكان الجنود الإسرائيليون يدوسون كرامتنا وهم يتمشون على ضفة القناة أو يستحمون فيها .الجهد الذى يبذله جندى القوات الخاصة فى يوم يوازى جهد جندى آخر فى أسابيع لكن – رغم ذلك – كنا سعداء بتميزنا بارتداء الأفرول المموه والحذاء ذى الرقبة الطويلة و "البادج" المميِّز لسلاح المظلات ، وسعداء بعلاوة قفز قدرها ثلاثة جنيهات ونصف كنا نحسد عليها ، وسعداء بمستوى التحسين فى الوجبات الغذائية ، لكن مقابل هذا كنا دائما فى وضع الاستعداد لأداء مهمات خاصة أثناء حرب الاستنزاف سواء بالقفز بالمظلات أم بالإبرار الجوى عن طريق طائرات الهليكوبتر ، وهى مهام كانت تتطلب منا أن نكون مرتحلين دائمين بحيث يندر أن يذكر المرء أنه نام فى مكان واحد لليلتين متتاليتين .
بين الخلاص الفردى والخلاص الجمعى
أحمد على الدين ، مذيع جاد بإذاعة الشرق الأوسط ، اتصل بى لإجراء حوار حول "العمل بروح الجماعة" ، غير أن الوقت المتاح لم يكف لإبراز رؤيتى حول موضوع أراه جوهريا فى تحديد المستوى الفكرى والحضارى للأفراد وللشعوب على السواء . إن الفرد المنخرط فى جماعة يتأثر بها ويؤثر فيها هو أفضل بالطبع من نظيره المتقوقع على نفسه . كذلك الشعب الذى يدرك أنه عضو فى جسد مجتمع أكبر يتعافى بتعافيه ، ويتداعى بتداعيه هو أيضا أفضل من نظيره الذى يعيش منعزلا فى جزيرة منكفئا على نفسه مكتفيا بذاته .
إن قيمة الأفراد والأوطان على السواء تتحدد بمدى قدرتها على التفاعل مع غيرها تحقيقا لمصالحها وضمانا لتقدمها . والحكومات المحترمة تمتلك برامج عمل ، وخطط حالية وأخرى مستقبلية ، تنطلق فى تنفيذها تحدوها رؤية واضحة للحياة وللكون ، وهى تعتمد بالطبع على شعوبها التى تسربت هذه الرؤية إلى ضميرها و وجدانها منذ نعومة أظفارها من خلال تربية صحية وصحيحة عبر مؤسسات التربية : المنزلية والمدرسية والجامعية والإجتماعية والإعلامية والدينية ... تنشط هذه الشعوب وتترعرع وتعمل تلقائيا بروح الجماعة ، وتضيف كل يوم إلى حياتها وحياتنا الجديد . ولم يعد أبناء هذه الشعوب بحاجة – مثلنا – إلى وعاظ يصدعون الرءوس حين ينهكون أحبالهم الصوتية عبر المنابر العديدة فى إلقاء دروس التقوى والإيمان مؤكدين أن يد الله مع الجماعة ، فى حين أن الواحد منهم يكره أخاه ويدبر له المكائد والدسائس .
قراءة جديدة فى الصور المسيئة
اشتعلت الجامعة عقب اشتعال فتيل الصور التى قيل إنها مسيئة للرسول . وأراها مسيئة إلينا لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان علىَّ آنئذ - كأستاذ وكمشرف على كلية الآداب بكفر الشيخ - أن أشاطر الطلاب مشاعرهم ، لكن كان لا بد أن أصارحهم بأن هذه لن تكون آخر الإساءات ، كما أنها لم تكن أولها ، وستظل حلقات مسلسل الإساءة تتوالى مادمنا غارقين فى مستنقع الركود والتبعية ، وأكدت أن طريق العلم الذى يوصلنا إلى القوة هو السبيل الوحيد لضمان كف أذى الآخرين عنا ، أو على الأقل إبطال مفعول هذا الأذى ، ولم تمض فترة طويلة حتى فاجأنا بابا الفاتيكان بإهاناته ، ومن قبل اتهم بوش الإسلام بالفاشية ، ومن بعد صدرت صحف غربية توجه إساءات بالغة للإسلام وللمسلمين .
وأرى أن الصورة المعاصرة التى يقدمها المسلمون عن الإسلام هى سبب سوء الظن بهم وتقديم الإساءة تلو الإساءة إليهم ، ولئن بلغت هذه الإساءة محمدا صلى الله عليه وسلم أو القرآن فإن المعنِىَّ هم " أتباع محمد " و " أمة القرآن " .
سلطة الزميل (المسلم)
لى مع السلطة حكايات ، أهونها ما أتى من قبل السلطة الأمنية المخابراتية التى تستدعيك بأدب فج ، واحتشام ممجوج ، يسألونك عن صغائر ، لكنها تعظم فى عيونهم ، وأغلب هذه الحكايات أتى من قِبَل السلطة الاجتماعية ممثلة فى سلطة التقاليد تارة ، أو فى سلطة الرأى العام تارة اخرى ، أو من جهة السلطة الثقافية سواء تمثلت فى سلطة رسمية لها حساباتها ومصالحها ، أو فى تلك الشللية المحبوسة داخل قفص أيديولوجية ما ، وما تنفك تصادرك وتنفيك لأنك تغرد خارج السرب ، وتبدع على غير تصورها للإبداع .
أما السلطة الدينية ، فما أكثر المتحدثين باسمها من المتطوعين والرسميين ، إنها الجلباب الفضفاض الذى ما إن يرتديه أى مسكين أو عابر سبيل حتى يتصور نفسه حامى حمى الديار .
ولا حدود لأخطبوط السلطة ولأذرعتها التى تمتد إلى الأفواه لتكممها ، والأقلام لتقصفها ، والأفكار لتقهرها ، والمشاعر لتقمعها ، وحتى إلى الخواطر لتئدها وهى أجنة فى أرحام العقول .
زملائى الأعزاء ... شكرا
ببلوغه الستين ، أصبح أستاذ متفرغا ، وأحس بأنه يولد من جديد حين انزاح عن كاهله عبء الأعمال الإداريه .. وحسبه أن يلقى محاضرة لطلاب المستوى الجامعى الأول ، وأخرى لطلاب الدراسات العليا ، فضلا عن إشرافه على الرسائل العلمية .
فى أحد الصباحات الجميلة ، ذهب ليأتى برسالة الماجستير التى أشرف عليها من الدولاب الكائن بغرفة مكتبه استعدادا للمناقشة المنتظرة بعد دقائق . ومع اقترابه من باب الغرفة لاحظ أن اللوحة المعدنية المعدة من قبل إدارة الكلية والتى تحمل اسمه قد نزعت .. وعند دخوله الغرفة لاحظ أن مكتبه قد نُزع هو الأخر وحل محله مكتب آخر عليه لوحة خشبية عريضة مكونة من طابقين تحمل اسم أحد الزملاء ...
وعندما هم بفتح الدولاب لم يطعه المفتاح .. حاول أن يفهم .. أخبره بعض الزملاء - بعد تلكؤ واستحياء - أن كل ما يخصه من أشياء قد نقل إلى غرفة المعيدين .. وهناك لم يجد معيدين .. وجد طلابه .. طلاب السنة التمهيدية للماجستير متحلقين حول منضدة فى انتظار محاضرة . وقع نظره – وهم يردون عليه السلام – على قطعة معدنية ملقاه تحت الأقدام. التقطها بخفة وهو يتظاهر بإصلاح حذائه ومداعبة طلابه .