المثقف النفعى .. وجلطة المخ
حين تعقد السلطة السياسية زواجا عرفيا بغير شهود مع السلطات : الإجتماعية ، التعليمية ، الإعلامية ، الدينية ... انها تنجب ملايين الشياطين التى يتلبس كل واحد منها جسد انسان عربى يتولى بهمة مهمة قمعه جسديا ونفسيا وروحيا . ثم ينتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الانسان مجرد مسخ شائه ...
أما أصداء هذا الخطاب فى الخطاب الشعرى ، فقد أشرت إلى أن مجمل الرؤية المنعكسة فى الشعر الحديث كله تعكس هذه الأصداء فى صور متعددة ، لكن قصيدة بعينها هى قصيدة (الشعر والرماد) لصلاح عبد الصبور يمكن أن تكون النموذج المثال . حين أتيح للشاعر فرصة السفر إلى مانيلا (عاصمة الفلبين) ، هاله أن يرى الانسان هناك بريئا .. نقيا .. صافيا .. لم يفقد براءته ، ولم يزل يحتفظ بتفائله وأمله وابتسامته وقدرته على تغيير شكل الحياة ... ويجد نفسه يعقد مقارنه بين الانسان الذى تربى فى حضن القيم العربية والانسان الجديد الذى يراه ، فى مانيلا ، الانسان الذى لم يزل متشبثا بالحياة ، مستمتعا بها من خلال تشغيل كل حواسه بينما قرينه العربى قد تعطلت فيه كل الحواس فلم يعد قادرا على أن يرى أو يسمع أو يشم أو يعبر ...
الطالب يهجو أستاذه !
اعتدت أن أخصص بضع دقائق من كل محاضرة للطلاب المبدعين والموهوبين . وما إن بدأ مبدع ذلك اليوم يلقى قصيدته حتى أدركت أنها قصيدة هجاء ، وكثيرا ما كنت أكرر على مسامع الطلاب أن أروع الشعر وأعظمه هو ما نأى عن ساحة المدح والهجاء ليأتى مزيجا من أمور الذات وقضايا المجتمع وشئون الحياة .. وقبل تنتهى القصيدة أدركت أن الطالب قصد بها أحد أساتذته .. راسما إياه فى صور سلوكية ونفسية مزرية ، وما إن انتهت حتى قابلها الطلاب بعاصفة من التصفيق .
عندما انفردت بالطالب أخبرته أننى كنت أتوقع منه قصيدة ثناء على أستاذه لا هجاء ، غير أن رده لم يكن بحاجة إلى تعليق وذلك حين قال لى : لقد علمتنا أستاذنا أن نعبر بصدق عن مشاعرنا .. وهذا ما فعلته .
قلت : إن حظ القصيدة من تصفيق الطلاب وتجاوبهم كان كبيرا ، الأمر الذى يعنى أن الطالب عبر عن مشاعر زملائه وهو يعبر عن مشاعره .
وهنا يفرض السؤال نفسه ، ما الذى يجعل مشاعر الطالب نحو أستاذه تتحول من الإيجاب إلى السلب ، من الحب إلى الكراهية ، من الاحترام والتوقير إلى الازدراء والتحقير .
الإنسان .. حيوان وبس
من زمان ، كنت قد وطنت نفسى على تلقى طعنات الجحود من الأخرين ، وحصَّنتها لتصبح فى وضع الاستعداد دائما لتلقى هذا الحجود حتى من أقرب الأقربين ، ويرجع الفضل فى هذا ربما إلى تكوينى الشخصى ، وإلى إدراكى الذى كان ينمو عبر قراءة الكتب وتأمل الحياة . غير أن أبا العلاء هو الأستاذ الذى ساعدنى على كشف العورات النفسية التى مهما بالغ الناس فى إخفائها فإنها فى لحظة ضعف تعلن عن نفسها سافرة أو على استحياء .
من يعرف الناس يزهد فيهم .. هذه هى حكمة أبى العلاء :
وزهَّدنى فى الخلق معرفتى بهم وعلمى بأن العالمين هَبَاءُ
الأدب المفترى عليه
من الأمور المحمودة فى الثقافة التلفزيونية حرص بعض مقدمى البرامج على إثراء القضايا التى يناقشونها من خلال إتاحة الفرصة للمشاهد للتعرف على وجهات النظر المختلفة إزاء القضية المطروحة ، كما هو الحال فى برنامجى "أكثر من رأى" و "الاتجاه المعاكس" التى تبثهما قناة الجزيرة .
لكن حين يساء اختيار الضيوف فإن المشاهد لا يجنى سوى التشويش بعد جدل عقيم نسمع فيه ضجيجا ، ولا نرى طحينا . ومن أهم مظاهر إساءة الاختيار هو الزج بإنسان ما لمناقشة قضية لا تدخل فى نطاق تخصصة ، ولا تقترب حتى من دائرة اهتمامه ، وفى هذا ظلم مركب ؛ ظلم لهذا الإنسان بتقويله في مجال لا يحسن القول فيه ، وتحميله ما لا يحتمل تكوينه الفكرى والثقافى ، وبكشفه حين يتحدث حديث الجاهل بنبرة حديث العالم الواثق ، وظلم للمشاهد بإرباكه وتشويش أفكاره ، وظلم للقضية المطروحة بتمييعها وتسطيحها ، وأخيرا ظلم للبرنامج الذى يفشل فى أداء وظيفته .
يحدث هذا فى برامج كثيرة ، لكن ما أتوقف عنده ، لأهميته ، هو ما شاهدناه مؤخرا على شاشة "قناة النيل الثقافية" فى برنامج "معارك أدبية" الذى يقدمه جمال الشاعر ، وقد تصدى البرنامج لمناقشة ما طرحته إحدى الأديبات من مظاهر الشذوذ التى أصابت بعض شخصيات روايتها .
ماذا أقول له ..
لم أتوقف أمام اللوحة المعدنية المذهَّبة المكتوب عليها "عميد الكلية" ، رغم مكوثى ثلاث سنوات داخلا إلى .. خارجا من .. غرفة المكتب التى تتصدرها هذه اللوحة ، ربما لأنى لم أحتف بالعمل الإدارى ، ومن قبل لم أسع إليه أو أنشغل به ، بل كنت أنتظر فى شوق لحظة الانعتاق منه . ربما يرجع ذلك إلى مزاجى الشخصى ، أو إلى إحساسى بذاتى وهو أننى عابر سبيل لى رؤيتى التى انعكست على ميلى إلى العزلة ، وعزوفى عن الدخول فى دوامة الصراع الإنسانى الحيوانى ، أو حتى الإنسانى الإنسانى .
وتعاند الأقدار ، ويضاف إلى عبء هذا المكتب بآداب كفر الشيخ عبء مكتب آخر بآداب طنطا معلق على بابه لوحة معدنية مذهبة مكتوب عليها "رئيس قسم اللغة العربية" .
بأريحيته المعهودة استجاب صديقى العزيز الأستاذ مصطفى سلام مدير المكتب الأول لما أوصيته به من أن هذه الغرفة ملك للجميع ، وكم كنت أشعر بغبطة ونشوة عندما أجد الزملاء يتخذون منها مكانا للاستراحة قبل أو بعد المحاضرات ، وأثناء ذلك كانوا يلتقون طلابهم ، ويقيمون صلاتهم , ويصححون أوراقهم ، كما أتيحت الفرصة لفريق الجوالة أن يتخذ من هذا المكتب مكانا لاجتماعه حين استعصى توفير مكان .. ولست أدرى إن كان أحد قد سبق فيما أسميته بسياسة "الباب المفتوح" .. أى أن يظل باب المكتب مفتوحا ما دمت موجودا لأرى وأُرى .. كان هذا يتمشى مع طبيعتى كريفي تربى فى حضن الطبيعة الخضراء ، ثم كجندى عشق حياة الصحراء .. وهما – الريف والصحراء – بابان مفتوحان على الكون لا ينغلقان .